نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

سليم البصري .. حفر في الذاكرة العراقية صورة لا تمحى:بقلم: مازن لطيف


عجيب أمر هؤلاء الذين يرسمون البسمة على شفاه الناس، ثم يموتون محسورين يعانون الحزن ثم يلفهم النسيان. ومن تلك الشخوص التي نفتقدها اليوم شخصية “حجي راضي” الذي أمتع العراقيين حتى أمست نوادره تدور على كل لسان مثل الأمثال.

وتحفظها ذاكرة الأجيال بعد الأجيال، بعدما جسد بموهبة فطرية وعفوية عراقية صورة لا تمحى، فطرتها الطيبة والدماثة والإيثار الاجتماعي والحس المرهف، وعكس جذوة الملامة وتوبيخ الذات والشكوى واللوعة من مفارقات الزمان باسلوب متهكم لكنه موحى بخوالج عراقية سجت عليها النفوس وأمست ثابتة في الثقافة والإجتماع العراقي. كانت هزليته تعكس توقاً عراقياً للمرح الملتزم، فكانت بعيدة عن الهزال وخالية من شوائب المضحك المفتعل والمصطنع أو المبتز، أو قيميا من خلال الضحك على الذقون أو من قلة أدب حينما يكون بلا سبب، وبذلك أختلف عن مدارس الكوميديا التي كان المصريون فيها مهيمنون على الذائقة منذ نجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وعلي الحجار، ناهيكم عن الكوميديا العالمية لشابلن ودي فينيس ولورين وهاردي وغيرهم. ويبدو انه اختار هذا الأسلوب القريب من الحبور والمقرب للناس من الهدف المرصود بعناية من خلال الفن الساخر.
ولد الفنان سليم البصري (سليم عبدالكريم) العام 1926 بمحلة الهيتاويين. والتحق في العام 1942 بأول فرقة أهلية للتمثيل وكان مقرها قرب ساحة الرصافي الحالية في بغداد التي كانت بحسب ما ينقل قبة لضريح ولي صوفي بغدادي. قدم فيها الفنان سليم البصري عدة أعمال مسرحية كان أهمها الصحراء ليوسف وهبي ومثل فيها أحد الشيوخ الثائرين وتم عرضها في سينما علاء الدين في وقتها. ثم حدث ان انقطع الفنان سليم البصري عن التمثيل بين عامي 1944- 1948 ثم عاد ليقدم مسرحية (سليم البصري في ساحة التدريب). دخل بعدها كلية الآداب والعلوم قسم اللغة العربية العام 1950 وتخرج منها في 1954 وكان من أساتذته آنذاك (جبرا إبراهيم جبرا، جميل سعيد، عبدالعزيز الدوري الذي كان عميد الكلية في وقتها).
بعدها اصبح الفنان سليم البصري رئيس المسرح الجامعي في كلية الآداب في بغداد، وخلالها قام بتقديم عدد من المسرحيات و التمثيليات نذكر منها (فنان رغما عنه) أنتقد من خلالها المذاهب الحديثة في الرسم، التي كانت أقرب للعبث والنزق منه إلى الجد والفن الجميل.
ثم أتجه في العام 1961 إلى الكتابة، واستهواه موضوع الحياة في المحلة البغدادية القديمة لتعايشه و اندماجه فيها. وكانت نتيجة هذا التعايش و الخبرة الطويلة الخروج من خلال سياقاتها برائعته التي طبعت اسمها في ذاكرة العراقيين في مسلسل (تحت موس الحلاق) الذي قام بالتمثيل فيه بدور الحجي راضي و أخرجها حينها المخرج العراقي عمانوئيل رسام، ورام من خلاله نقد بعض جوانب حياة الانسان العراقي في وقته ولاسيما موضوع محو الامية. ومن الجدير بالذكر أن هذا التوجه النهضوي كان من ضمن مشروع سار على مسارات عدة في الفن والثقافة والشعر على حد سواء، لكن يبدو أن يداً خفية اجتثته لتعلن عن وأد مشروع كان يمكن أن يتصاعد وينتج منظومة قيم عراقية، لم يكن يراد لها أن تنضج وتنتشل العراق من براثن التبعية والدعة حينما، طرقت ونبهت إلى المضامين للتفريق بينها وبين الأشكال أو بين الوسائل والغايات، فتعلم القراءة والكتابة لا يعني تعلم فك رموز الحروف البتة بقدر ما هو فك رموز الحياة من خلال وسيلة القراءة، للارتقاء بالإنسان.
وننقل عن زميله ورفيقه الفنان الموهوب والمحبوب (حمودي الحارثي) الذي يقبع منسيا اليوم في هولندا، ما ذكره بأن البصري كان يحمل نزعة “لتعريق” الاشياء، فقد كان قد اختير اسم (حلاوة) لشخصية عبوسي بما توحيه من أسم (صانع) مصري، لكن البصري كان يروم أن يعطيها نفس وأسم وشخصية عراقية محضة، فاسم عبوسي لايتداوله إلا العراقيون. ولم يتوان البصري في المشاركة في السينما حيث شارك في” فيلم اوراق الخريف نهاية العام (1963) اخراج حكمت لبيب”، وكذلك ” فيلم فائق يتزوج العام 1984 اخراج ابراهيم عبدالجليل” وفيلم “العربة والحصان من إخراج الفنان السوري محمد منير فنري.
اما مساهماته الرائدة في مجال التلفزيون فهي:
ـ تحت موس الحلاق
ـ الذئب وعيون المدينة
ـ النسر وعيون المدينة
ـ الأحفاد وعيون المدينة
وفي سنواته الأخيرة ابتعد متعدد المواهب والإبداعات الفنان سليم البصري بعيداً عن الأضواء وعيون الناس، وكانت زوجته تضايقه وتمنعه من اللقاء والتواصل مع أصدقائه الفنانين وحاولت وقد استطاعت قتل الموهبة وتوق الإبداع لدى البصري وقد ذكر لي صديقي المرحوم راسم الجميلي وكذا ننقل عن الفنان (حمودي الحارثي)، بان زوجته كانت تتهكم عليه وتقول له: أن صدام حسين الذي يستدعيه بين الحين والآخر لأنه يحب أعماله ويستقبله ساعات طويلة “من اجل الضحك عليك لكي تكون قرقوز أمامه”. وكذا حاولت إبعاده عن الوسط الفني ونجحت في مسعاها، حتى وفاته منسيا في بغداد العام 1997. وتناقل عنه لغط و”قال وقيل” عن سبب وفاته وكيفية نقله إلى المستشفى. وقد طلب  الفنان داود القيسي نقيب الفنانين في حينها  تشييع الفنان سليم البصري تشييعا رسميا بعد أن حصل على موافقة وزير الثقافة والإعلام في حينها، لكن زوجة البصري وابن شقيقه لم يوافقا على ذلك يومها. وهكذا رحل الفنان المبدع بصمت مثلما كان مبدعاً بصمت. وكان تشييع جنازته بسيطا لم يحضره إلا فنانون لا يعدون إلا على عدد الأصابع.

مازن لطيف