نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

الطيف مســـرحية عبد الرزاق الربيعي- رشــا فاضــل


 الشخصيات : امرأة خمسينية – شاب
الفصل الاول
المكان
مزار على جدرانه تنعقد الأمنيات بقطع قماش خضراء وشموع تتوزع بشكل عشوائي في المكان وتثبت عارضة كبيرة على الجدار وتتوسط المسرح بينما تتوسط المرأة كل ذلك بعد أن تبخر نفسها بعود من البخور المعلق أمامها لتجلس بعدها وتعطي ظهرها للجمهور وتقابل جدار الأمنيات بجلسة ابتهال وصلاة وبخور يخرج من احدى زوايا المكان ويسلط


 عليه ضوء أبيض وعلى المرأة أيضا تتركز بقعة ضوء أخرى مع موسيقى حزينة خافتة .- (المرأة مبتهلة وظهرها للجمهور )


إلهي أفرغ علينا

صباحا أنيق الحواشي
بلا كسر ٍ من أنين

صباح الخميس ياولدي ..
ياطيف روحي وهي تعبر المدى بحثا عن عطر خطواتك فوق جلد الارض .. أتترك هذا الخميس أيضا؟ ..إنه موعد إجازتك مع رفاقك .. ستأتي وإن تاخرت .. قلبي الذي هتف لصرختك الاولى يخبرني بذلك ..
(تنهض وتستدير للجمهور وتسترسل ) بطني التي سورتك تسعة أشهر تؤكد لي هذا ..
(تمسك بطنها وتنظر اليها ) لماذا لم أبقك فيها ؟ أية حماقة جعلتني أطلقك في المحرقة الكبيرة التي تبتلع كل خضرة الأرض ؟
لكن .. لو لم اطلقك .. من كان سيحرث الخراب ويزرع ضحكته في كل مكان؟
من كان ليمسح الأسى عن جبهة سنواتي العجاف قبلك؟
تحدث معي ياولدي ..لماذا تدعني هكذا أحدث نفسي كل ليلة ؟(تسمع أصوات وهمهمة في الخارج فتخاطب الجمهور مستبشرة ):
ألم أقل لكم إنه سيأتي ؟ هاهو صوت رفاقه وهم ينزلون في الإجازة ..اليوم هو الخميس .. وسيأتي في أية لحظة ليرمي بتعبه وغبار الحرب فوق كتفي
كما كان يرمي بعبثه وهو صغير ..
(تستدرك وتتحرك بسرعة وارتباك ) يا الهي لقد تأخرت ! ماهذا الذي أفعله يجب أن أغادر وأحضّر لك الطعام الذي تحب والحمّام لتغسل غبار الموت عنك ..
هل قلت الموت؟ (بعصبية ) لن أغفر لنفسي .. لن أغفر لها ..
اغفر لي يا ولدي إنها زلّة لسان .. زلّة قلب .. سأعمل الطعام الذي تحب .. وسأوزع منه لجاراتنا أيضا وأقول لهن إنه منك ..
لقد اشتقن إليك أيضا… لعلك ترحمنا في هذا الخميس وتكفّ عن الغياب ..(تصمت برهة وكأنها تكتشف شيئا )
أكاد أشم رائحتك .. ( تنصت وكأنها تستمع لشيء) نعم .. هذا وقع خطواتك ..
(تصيح بلوعة وتضم الفرغ بين ذراعيها ) وهذا دفء جسدك يقترب مني ..(يدخل شاب يرندي ملابس بيضاء وكأنه طيف لاتراه لكنها تشعر به ..ولاتسمعه وهو يراها ويسمعها
يقتربان من بعضهما حتى يستقران بخطوات وئيدة وسط المسرح )المرأة – ( تحرك يدها بالقرب منه ) أكاد المس وجهك الحبيب .. شاربك الصغير ..
كم أصبحت وسيما في الغياب ؟الإبن- كم اشتقت لرائحة حنانك التي لم أجد مثيلها حتى في الجنان ؟
المرأة ( لاتسمعه وتستمر في كلامها ) – كنت أعرف إنك ستأتي .. ستترك كل جنان السماء وتأتي لجحيم أمك الأرضي ..الإبن( مخاطبا الجمهور ) :
الأمهات محنة صقيلة ..
قلت هذا
لأكثر من رجل كامل العقوق
فلم يصدقني المساء الأبله
وأعيد واصقل:
الأمهات محنة
إنهن لا يسمحن لنا بالموت المبكر
على الإطلاق
حتى بعد الموت
إنهن لا يسمحن لنا بالشيخوخة حتى
وتسلق جبال الأيام
والابتعاد عن ساحة الروح الأمامية
ولا البكاء على أطلال الكلماتالمرأة ( مخاطبة الجمهور وهي تدور في المسرح – ) غيابه يأكل ليلي ونهاراتي .. لكن صوت السماء كان يهمس في سر حزني كل ليلة:
-
إبتهجي
سيمر عليك
عشيّة كل خميس
فوق جواد الريح
يدق الابواب
يقبل جدران الحي بصمت
(مخاطبة ابنها ) بيتنا ينتظرك وحديقتك التي ذبلت عليك ..مثلي ..
غرفتك وأوراقك وصور حبيباتك التي أزيح عنها الغبار والنسيان كل صباح ..
الكل يتصورني مجنونة ..وحدي أعرف إنك ستعود اليها .. الينا معا ..
(يعلو صوت عصافير / تخاطب المرأة الجمهور) كان صديقا للعصافير واسراب النمل
رقيقا كالنسائم التي تهللت
لما الصق صرخته الاولى
بأكف القابلة المحزونة
فابتسم مقص الحبل السري
في الصحن المائي
قالت جدته لأكبر أخوته :
( صوت طفل رضيع يضحك )
- خذ سرّه للجامع
قلت أنا :
- للمدرسة……….
لحقل الحنطة قال الأب
وقال البائع –من باب النصح-
ازرعه بواجهة الشارع
واختلفوا………………
(صوت رياح وتتغير نبرة صوتها وتعلو )
لكن رياحا ً ماكرة في هيئة نسر
حط ّ على السرّ
وطار إلى ميدان الحرب
طاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااار
(تفرد يديها وسط المسرح وهي تظل تردد حتى يخفت صوتها بالتدريج)
طاااااااااااااااااااااااااااااااااااااار
طااااااااار
الإبن (مخاطبا أمه ): كانت الحرب اكذوبة يا أمي مثل البطولة .. كنا نتساقط صباحا تلو آخر .. حلما تلو آخر ..
(يخاطب الجمهور)
الوطن أكذوبة كبرى
إياكم أن تصدقوها
(يعلو صوته وهو يكرر الكلمة )
إياااااااااااااكم
إيااااااااااااااااااااااااكم
(تطفأ الأنوار وتتركز نقطة ضوء عليه وحده ) الإبن – عندما تعود الى الوطن
لا توجه وجهك
صوب البيوت
والمدن
والحدائق
اعط وجهك المقبرة
هناك
هناك
ستجد الكثيرين
ممن تود أن ترى
ويودون أن يروك
ولو من تحت
تراب الذكريات
(تلاحقه بقعة الضوء وهو يدور في أحد اركان المسرح حيث تظهر” العارضة المثبتة على الجدار وسط المسرح” مشاهد لرحلات مدرسية قديمة وسبورة ومدرسة قديمة وصفوف) : عندما تعود الى الوطن
ويقودك الحنين
الى مدرستك الأولى
لا تبحث عن رحلتك المدرسية
تلك التي تآكل عليها الوقت
وجدول الضرب والقمع
وسروالك الموشى بخرائط الفقر
بل أذهب الى أي ثكنة عسكرية
( تعرض مشاهد من دبابات الاحتلال في بغداد وآثار الخراب ، من العارضة المثبتة وسط المسرح )
ستجد دم طفولتك
مسفوحا تحت المجنزرات
بالقلم العريض (يتلاشى الضوء تدريجيا عن الإبن ويتركز لدقائق قليلة على مشهد الدبابات )
الأم بشيء من الفرح – كنت أعرف
إنه سيمر بنا هذي الليلة
سيمر الليلة
حتما” سيمر
وتلتمع النجمات ..
وكنت أعرف لفرط طفولته انه سيمر حزينا ..
ينأى بوجهه عن الوطن
فيرتد رماد حروفه الى صدري
وقع خطواته وهي تدوس على جسد الغياب
تشبه رائحة المطر وهي تدق في رحم الارض
وترمي بذارها
وثمارها
وصوته بذار الروح في انطفاء جسدي
يا الله
بعضي يلتئم من جديد .. بل كلّي
انا استعيدني في طيف خطواته البيضاء
(تخاطب الجمهور) لم تسمعوا صرخة قلبي حين عاد رفاقه بدون خطواته ؟
(تخاطب ابنها)
في الشارع الأجرد وقفت أتصبب انتظارا وخوفا
عاد جميع رفاقك..
كانت أمهاتهم تبكين فرحا
وكنت أبكيك انتظارا وحين أفرغت الحافلة مابداخلها من فرح الأمهات
بقيت وحدي أعاند دموعي وأتعلق بحبلنا السري ..كنت أسمع همسك من بعيد ..
كانت الأمهات يعزينني بك وكنت أصيح بهن : لاعزاء لي الابعودته
كل خميس أنثر الهيل وماء الورد وانتظرك عند أعتاب البيت
يتجمعن حولي
يرقبن جنوني ويهجون الحرب..
وعند المغيب يلملمن بقايا سوادهن ويرحلن
وأظل انتظرك ..لأني لا أملك الا أن انتظرك عند اعتاب الدنيا وابواب الآخرة
وهاهو طيفك يزورني اليوم .. أعرف ذلك .. من نبض قلبي الذي يتسارع في حضورك .. من صوتك الذي أقرأ همسه من بعيد .. من أنفاسك ووقع خطاك الوئيدة ..
(تستدير نحو جدار الأمنيات وتعطي ظهرها للجمهور وتجثو على ركبتيها بتضرع مثل المشهد الأول وتمسك قلبها وتردد بتعب وإجهاد )
يارب
بارك لي طيفه واجعل الخميس القادم أكثر سخاء
سأنتظره في وضح الفرح
سأقف في ذلك الشارع الأجرد وأحاكم سخريته من خوائي في ذلك الصباح العاري من الصحة والضوء..
سأنتظره عند الرصيف الذي كان يلعب عليه..
سأحمل له صحن النذور والشموع وأنتظر حتى آخر قطرة ضوء
تنهض بصعوبة وتسير بتعب كبير وهي تمسك قلبها وتختفي مع الضوء بالتدريج
(أثناء الحديث تتركز بقعة الضوء عليها فيختفي الإبن ويتلاشى الضوء بالتدريج ) الفصل الثاني المكان : نفس المزار والأثاث يدخل الإبن بملابس الحرب .. يشعل الشموع ويجثو على ركبتيه ويدعو : - الهي .. أوصل لروحها البيضاء خيبتي وخواء العالم من حولي ..
قل لها حين عدت كان الرصيف يسخر مني هذه المرة ..
من رأسي الذي لم أدفنه في حضنها بل في التراب ليصل نشيجي اليها ..
قل لها إن الحرب أرحم من سلام لايشرق صوتها فيه
وإن غيابها حرب لايدركها سلام..
وقل لها ..( يستدرك فينهض … هذه رائحة عرقها .. أعرفها جيدا ..
هذه خطواتها .. احفظها تماما .. تدخل الأم بملابس بيضاء ، تراه ولايراها )
الأم – كان كل شيء يمعن في عناقك إلا أنا
خذلني جسدي لكن روحي ماتزال عنيدة وتلاحقك..
حتى الجنان كانت تشفق على عري روحي وتمنحني رخصة لجحيم الأرض
الاحق طيفك فيها .. واطمئن الى نومك ..
الإبن – يالهذا الطيف الذي زرته مرارا في اعراس القصف ..
أمي .. هل تسمعيني .. هل ترين يتمي اليوم؟
الأم ( تخاطب الجمهور) – مايزال طفلا .. صدقوني ؟
لايغركم شاربه وجسده .. فهو يدفن دموعه في وسادتي كل ليلة ويضمها إلى أنفاسي ليغفو ..
وأنا أعاود قلقي عليه ..
عاد إلى المحرقة الكبيرة بعد أن انتظرته عند أبواب السماء
كانت أسراب الملائكة تقودني في موكب مهيب ..
وكنت أصيح وأنا أتفرس النجوم : أين إبني؟
كانت الأجنحة البيضاء تجيبني بصمت رفيفها ..
والنجوم ببريق خافت
وكان ندائي يجرح السكينة فيوقظ الغرقى والقتلى والمعصوبين والمغدورين ..
(تصيح ) – ين إبني؟
وعند أبواب الجنان أجهشت بنحيب الأسئلة
يا إلهي حتى في الجنان
تموت الأمهات كل يوم ..؟
حين رأيت صورته في آخر كابوس
كان معصوب العينين ويتلو آيات النجاة
كان الرصاص شاخصا نحو رأسه وذكرياته
وأذكر .. إنني لم أصح بعد ذلك الكابوس
شهقت بصوت الرصاصة التي اخترقت رأسه .. وقلبي .. مرة واحدة
( تخاطب الإبن ) – عصبوا وجهك للحائط
وابتدأوا عد ّ رصاصات
إقالة نبضك
من نبض الأرض
فصّوب
آخر أحلامك
أي امرأة
ستنقع صورتها
في ذاكرة الدم ؟
بل أي بلاد …..
أي صديق سيقاسمك
بقايا اللحظات ؟
وهل يمكن أن تختار نهارا ً آخر
نصفه أو تنقص منه قليلا ؟
لكن ……
ما جدوى العالم ؟
يكفيك بأنك كنت معصوب العينين
على حيطان الدم
وكنت بحرية عصفور ٍ
تحلم
(تخاطب الجمهور ) – لم أفتح عيني الا على حفيف أجنحة البياض وهي تحف بجسدي للأقاصي
لماذا تتآمر علينا حتى الأحلام ؟
الإبن – لكني سعيد يا أمي برحيلك
(يخاطب الجمهور ويمشي ويتحدث بإنفعال ) صدقوني .. لماذا لاتصدقوني؟
أنا سعيد برحيلها ..
فقد تخلصت أخيرا من شريط الأخبار
شريط الموت
(ينشد)
حين يمر شريط الأخبار ِ
مساءً
تنزل دمعة أمي…..
فتجر ُ خيول الضوء الأحمر
ناقلة الأشخاص
إلى ( عرس الدم )
ويحشر حزني أذنيه بأوراق النشاف ِ
أبصر فوهة الجنرال ِ
تلوك المدن المكتظة َ
بالأحلام ِ
وأسراب الطلاب ِ
بواجهة الدرس الأول
تهوي ضحكات الأطفال ِ
من الرف ِ
لتمضغها
عدسات التصوير ِ
بنشرات الأخبار
الأم – سأحكم عليك قلقي والأمنيات
وسأحضر عرسك بملء بياضي وأغيب في ضحكتك المشتهاة
سأغني لك بقايا أغنياتنا القديمة
عند مهدك الخشبي
(دللوي… يالولد يبني ….. )
سأرتفع بهلاهلي فوق فرحك
وستسمعها وحدك ..
عدني بأن تسمعها ؟ عدني ياولدي .. عدني .. (تقولها وترجع للوراء وهي تنظر اليه ويتبعها الضوء حتى تغيب )
(الإبن ببكاء يدور في أرجاء المسرح بحثا عن الضوء ) - هذا الليل لن ينتهي والصبح باطل
امنحيني صبرك قبل أن يبتلعك ثقب الغياب من جديد
( يركض يبحث عنها في أرجاء المسرح … يناديها .. بلا جدوى )
- أمي .. أمي .. أمييييي
-
(يستدير نحو الجمهور )
….وحدها….
في قلب الليل الوحيد
تتلمس الظلام بقدميها المثقلتين
مثل قدمي جندي عاد للتو من حرب شاقة
وحدها تشق دربها
وسط أحراش النسيان
شظاياها العتيقة
ترتجف تحت عباءة أمي
- أغلق الغياب عليها باب حفرته جيدا -
وحدها
أم بكامل جلالها
على رصيف !!!
يحف بها صمت مهيب
ودموع
ونفس تتقطع عليهم حسرات
السنين التي مرت بها
أدارت ظهرأيامها
وأيامها أدارت عقارب البهجة
للوراء
وحدها
متوجة بالحب
تحبو
في قلب الليل الوحيد
تضع تاج رأسها الأشيب
على راحتي خطوة في الطريق
فتسير
مثقلة بالذكريات العاقة
يالله!
الذي يأخذ أمي من دمي
ويعطي أمهات لا نهائيات
لأبناء الأنابيب
(إظلام )