نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

مسلسل أبوطبر: دراما متناقضة حد التزييف :بقلم:د. أكرم عبدالرزاق المشهداني: خبير قانوني واجتماعي وجنائي



منتجو المسلسل اظهروا 'أبوطبر' في حالة ألم بعد كل جريمة لتعزيز غايتهم في أنه من صناعة الدولة وانه مجبر على ارتكاب جرائمه، وهذا يتناقض مع اعترافاته.
مثلما توقعت وقبل أن يبدأ منتجو مسلسل أبوطبر التلفزيوني، على قناة البغدادية الفضائية، بعملية التصوير، كنت توقعت أن هذه الدراما سوف تقع في فخ التسييس والأدلجة، من خلال ما قرأته من تصريحات للقائمين على تصنيع هذا المسلسل وبرمجته، والذي كنت أتمناه كرجل قانون وتحقيق جنائي، وباحث إجتماعي، أن يكون دراما تسجيلية صادقة تسجل لفترة عصيبة عاشتها العوائل العراقية بين تموز 1973 وتشرين أول 1973 "وهي الفترة لحقبة أزمة أبوطبر الحقيقية بين أول جريمة وقعت بالمنصور نهاية تموز 1973 وبين نشوب حرب 10 رمضان 1973" حيث أدت حرب تشرين إلى إنشغال الناس بقصص الحرب، ونسيان قضية أبوطبر لحين أن أعلنت السلطات القبض عليه في أواسط 1974 وعرضت اعترافاته وشركائه تلفزيونيا.
وعليه فمن الناحية الأمنية والإجتماعية والتاريخية يمكنني أن أعتبر فترة أزمة رعب أبوطبر بين التاريخين أعلاه فقط.
ولكن وبعد مشاهدة نصف عدد حلقات المسلسل التي يفترض أنها تمتد إلى ثلاثين حلقة، تأكد لي أن المسلسل التلفزيوني لم يكن أميناً في نقل الوقائع وتسجيلها وتحليلها، بل أن المسلسل سار في النهج الذي أراده له معدّوه في "محاكمة درامية" لنظام سياسي أو لحقبة تاريخية بما يخدم ايديولوجيات منتجي المسلسل وتوجهاتهم السياسية، لتعزيز قناعات مفترضة ولكنها متناقضة جدا لحد التزييف، فمرة يريد المسلسل أن يقول لنا أن شخصية أبوطبر صناعة مخابراتية، وأن النظام أراد من خلاله تصفية خصومه، ومرة يقول لنا أن أبوطبر ليس شخصاً واحداً بل منظومة من الفاعلين كلهم يرتكبون جرائمهم بأسلوب أبوطبر.
ولكن المسلسل أثبت أن القيادة كانت مهتمة بقضية كشف جرائم أبوطبر بدليل استقدام الخبراء الاجانب لأول مرة في العراق، وكذلك المكالمات الهاتفية من القيادة الى العميد زهران ومن الداخلية الى العميد زهير، بوجوب القبض على المجرم، وحاول منتجو المسلسل أن يربطوا بين نظرية أو إدعاء الصناعة الحكومية لأبي طبر مع قصص أخرى لاصلة لها البتة بالموضوع مثل قضية عدنان القيسي ونزالات المصارعة التي أجريت ببغداد برعاية حكومية، واجتذبت عشرات الآلاف من المتفرجين في ملعب الشعب 1969.
والأغرب حين يحاول منتجو المسلسل الربط بين حوادث أبوطبر وبين قضية الحنطة المسمومة!!! وهو ربط غريب من صنع خيال المنتجين، فما علاقة الحنطة المسمومة بأبوطبر ونحن نعلم قضية الحنطة المستوردة التي استوردتها الدولة بالتعاون مع منظمة الفاو الزراعة العالمية عام 1971 حيث استوردت بذور الحنطة المعفرة لتحسين نوعية زراعة الحنطة في العراق وطلبت من الفلاحين زراعتها وحذرتهم من تناولها الا ان بعضهم بسبب الجهل ووفرة الكميات المجهزة قام بتناولها واطعام الماشية بها فاستنفرت الدولة جهودها لمنع تناول اللحوم المحلية، وهذه الواقعة مسجلة في منظمة الزراعة العالمية، فما هي صلتها بأبوطبر وما مصلحة الدولة في تسميم شعبها؟؟
أنا لا أتدخل في الموضوع من الناحية السياسية، وربما أجد عذرا لمنتجي المسلسل في استخدام وقائع تاريخية لمحاكمة حقبة معينة من تاريخ العراق بما يخدم ميولهم وتوجهاتهم، ولكن الذي أرفضه هو أن يتم تطويع أحداث معينة لاصلة لها بقضايا أبوطبر الجنائي وكأنها سلسلة مترابطة من الإجراءات والأعمال، فضلا عن التناقض التاريخي وتشويه تسلسل الاحداث وطبيعة الوقائع كما سجلناها نحن وغيرنا من المختصين بالشأن الشرطوي والتحقيقي.
التناقضات التاريخية في المسلسل: يفترض أن المسلسل طالما إبتدأ بما أسماها جريمة المنصور، التي هي أولى جرائم أبوطبر "جريمة قتل المجنى عليه رشيد مراد"، فالمسلسل أظهرها وكأنها وقعت قبل حادثة مؤامرة ناظم كزار 30 حزيران 1973، في حين نعلم علم اليقين أن جريمة المنصور وقعت أواخر تموز 1973 أي بعد محاولة ناظم كزار وبعد اعدامه هو ومن شارك معه بشهر تقريبا، ولا ندري سر هذا التحريف في تسلسل وقائع أبوطبر ومحاولة الربط بينها وبين مؤامرة ناظم كزار والواقع انه لاصلة نهائيا بينهما. وللتذكير فالمعلوم لدينا ان حوادث أبوطبر الحقيقية هي التالية:
1- جريمة قتل المجني عليها زوجة المدعو "رشيد مراد رشيد" في منطقة المنصور شهر تموز 1973.
2 - جريمة قتل عائلة المدعو "جان ارنيست" في منطقة كرادة مريم شهر آب 1973.
3- جريمة قتل عائلة بشير السلمان في منطقة نفق الشرطة يوم 4/9/1973
4- إنقطعت جرائم أبوطبر من شهر تشرين أول 1973 ولمدة عشرة اشهر تقريبا لغاية القبض عليه يوم 30/8/1974
كما أن المسلسل أظهر شركاء أبوطبر "اشقاؤه" يدخلون معه احدى محلات الجرائم في حين انه كان يرتكب الجرائم لوحده ودور شركائه كان هو الانتظار لحين الانتهاء ومن ثم نقل المسروقات الى دارهم.
المسلسل وقع في تناقض تاريخي حين عرض مسألة قيام أفراد الشرطة بصبغ سيقان الفتيات اللواتي يرتدين الملابس القصيرة في منتزه الزوراء "علما ان منتزه الزوراء لم يكن قد انشئ اثناء فترة أبوطبر"، وقام المسلسل من خلال الحوار بنسبة قرار صبغ سيقان الفتيات الى الفريق صالح مهدي عماش، في حين أن من أصدر تلك الأوامر كان محافظ بغداد خير الله طلفاح والواقعة تعود الى عام 1970 أي قبل حدوث جرائم أبوطبر بثلاث سنوات فما هو المقصود من حشرها ضمن احداث أبوطبر 1973؟ .
ملابس وازياء الشرطة والمصطلحات المستخدمة: كما أن المسلسل وقع في وهم آخر من خلال ملابس وأزياء الشرطة، فقد ظهر أفراد الشرطة في جميع حلقات المسلسل يرتدون البيريات بينما الشرطة كانت ترتدي "السيدارة" لغاية عام 1980 وبعدها اصبحت ترتدي البيريه السوداء وكان يجب على منتجي المسلسل أن يدققوا بالأمر. وثمة تناقضات أخرى لاحظناها خلال المسلسل يبدو تأثرا بالأفلام المصرية مثل استخدام مصطلح "الطب الشرعي" في حين في العراق يسمى "الطب العدلي"، واستخدام تسمية (المعمل الجنائي) في حين اننا في العراق نستخدم المختبر الجنائي والأدلة الجنائية
كما أن المسلسل استهان بخبراء الأدلة الجنائية، فقد كان خبير البصمات يحمل مكبرة يدوية في يده ويفتش في وجه الضحية ونحن نعرف أن خبير البصمات يبحث عن البصمات في السطوح التي تصلح لبقائها عليها كقطع الآثاث والمكاتب والأبواب وليس على وجه الضحية.. كما أنه يظهر المصور الجنائي بشكل قراقوزي وهو يصور وكأنما هو مصور صحفي! يلتقط عشرات اللقطات بشكل مائل.. وعمودي!! كما أنه يستخدم كامرة ليس لها صلة بعمل الأدلة الجنائية، ولو كان معدو المسلسل قد كلفوا انفسهم عناء الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص لكان بالإمكان تجاوز الكثير من الهفوات.
أظهر المسلسل العميد زهران "مدير المخابرات" وهو يشرح لمعاونه "أن ابوطبر لا يستخدم طبر بل قطعة حديدية"، وطبعا هذه الحقيقة ذكرناها في مقالاتنا السابقة، كما أنها تكشفت لسلطات التحقيق بعد القبض على ابوطبر وليس قبله كما يدعي مؤلف المسلسل.
إعى المسلسل أن الحكومة قررت القيام بحملة تفتيش عام لجميع الدور، وأنها أمرت بتصوير جميع العوائل، وهذا أمر ليس صحيح، نقول: نعم جرت عملية منع تجوال يوم 3/10/1973 ببغداد للتفتيش وكان الهدف البحث عما قد يكون له صلة بأبوطبر وجرائمه، ولم يحصل مطلقا أن طلبت الدولة تصوير جميع العوائل لإستحالة ذلك ولأنه لافائدة ترجى من هذه العملية للدولة.
منتجو المسلسل اظهروا أبوطبر في حالة ألم واسى بعد كل جريمة يقوم بها وذلك لتعزيز غايتهم من المسلسل في ان أبوطبر هو من صناعة الدولة وانه مجبر على ارتكاب جرائمه... وهذا يتناقض مع اعترافاته التي اكدت ساديته وتعطشه للدم.
المبالغة حد الاسفاف في الاستهزاء من اجراءات الدولة والحزب، بل والاستخفاف من الحزبيين واظهارهم بمظهر "المطيرجي" كما في جعفرالمطيرجي الذي لا يقرأ ولا يكتب ويخرج مع الرفاق في الدوريات بالمحلة ويكتب التقارير!!!
في حين يظهر المسلسل الشباب المنتمين للحزب الشيوعي بالمثقفين مثل شخصية الشاب ساهر الذي يتناقش مع الشقاوة السابق كريم عواد صاحب المقهى، وهو يحمل كتابا دائما معه.. واظهار الرفاق الحزبيين ومسؤولي المخابرات بانهم يسكرون ويرتادون دور الدعارة!!
اما موضوع الاستعانة بالشقاوات فنريد ان نتسائل ألم تستعن المقاومة الشعبية 1959 بالشقاوات؟ الم يكن بين افراد المقاومة الشعبية من هو مطيرجي وعربنجي وقصاب وغيرهم؟
من اجل اطالة المسلسل ليستوعب ثلاثين حلقة يبدو انه يعمد الى افتراء حوادث لاصلة لها بأبوطبر ونسبتها له، ومن ثم اظهار العميد زهران وهو يطلب من الاجهزة التحقيقية "التكتم" على بعض الجرائم وعدم اعلانها للرأي العام بأمر من القيادة! وهو امر يظهر القصد في التلفيق.
وانا اخشى بعد ان انتهت الجرائم الرئيسة التي ارتكبها ابوطبر بالحلقة العاشرة من المسلسل ولما تزل امام المنتجين عشرين حلقة ان يتم افتعال حوادث ونسبتها لأبي طبر وهذا ما حصل فعلا من خلال قيام أبوطبر التلفزيوني بقتل عدد من الناس لمجرد انهم يمتلكون طبر في بيوتهم او حديقة الدار مثل صاحب السيارة العاطلة الذي عاونه أبوطبر في اصلاح سيارته وحين اراد ان يغسل يديه داخل الدار ولاحظ وجود طبر في الحديقة فانه عاجل بقتله وهذه مسالة غريبة لا صلة لها البتة بالحوادث التي ارتكبها أبوطبر وهي من نسج خيال المؤلف.
تزييف الحقائق
استغرب ان يرتضي فنان معروف وملتزم مثل كريم عواد باداء مثل هذا الدور التلفيقي وهو يتذكر جيدا الحادث الاجرامي الذي وقع عليه عام 1997 حين ضربه مجرم بقامة في وجهه وتشوه وجهه وحضر مدير الشرطة العام شخصيا الى محل الحادث وقام بالتحقيق في الجريمة وتم نقل المجنى عليه للعلاج ولولا لطف الله لكان كريم عواد في خبر كان.
حتى ان شقيقه مكي عواد نشر رسالة شكر في الصحف المحلية آنذاك لوزارة الداخلية والشرطة العامة لاهتمامها بقضية الاعتداء على شقيقه كريم والقبض على الجناة.
من السقطات الاخلاقية التي وقع فيها المسلسل هو جعل المشاهد يتعاطف مع الحرامي فتاح الذي يعيش على السرقات ويبذخ النقود في الملاهي، ولكنه يظهره بمظهر الشريف الغيور على اخته خوفا من المطيرجي الحزبي جارهم!! كما أن فتاح كان يتشكى من أن أبوطبر "قطع رزق الحرامية"؟ ولم يقنعنا المسلسل ابدا في أن ماقام به فتاح هي سرقات تشكل جريمة منكرة وعمل دنئ.. بل إن المسلسل جعل كثيرا من الشباب يعجبون بـ "فتاح" وربما يحاولون تقليده.!
اظهر المسلسل عائلة فيها اخوين شقيقين احدهما شيوعي مثقف.. والثاني اسلامي "دون ان يحدد اتجاهه او انتماءه او مذهبه!" لكنه اظهر المتدين في مظهر الغارق في الخرافات والتفسيرات الغيبية للامور وبشكل قراقوزي!
اظهر المسلسل ان أباطبر ارتكب جريمة قتل يهودي بعد استجوابه لمدة ساعتين ومن ثم قام بقتله؟ ولا ندري من اين جاء المؤلف بهذه "الفيكة" وكيف عرف ان المناقشة استمرت ساعتين قبل القتل؟ ولماذا وبماذا كان الاستجواب؟
نعم ان أبوطبر قتل احد اليهود بنية السرقة، ولا دخل له باستجواب يستغرق ساعتين... واذا كانت الدولة تريد استجواب اليهودي فلماذا ترسل له أبوطبر ليستجوبه ومن ثم يقتله؟
المسلسل تطرق بشكل غير منطقي وغير مترابط من خلال حوار الى اعدام الجاسوس ناجي زلخا وبقية جماعته وتنفيذ الاعدام بحقهم في شباط 1969 بساحة التحرير ولا ندري ما هو الربط بينه وبين أبوطبر 1973؟.
كما اشار المسلسل الى حادثة أسماها حادثة خطف والد سمير الشيخلي؟ ويبدو انها من بنات افكار وتهيؤات منتجي المسلسل!
والمضحك أن المسلسل كان منصفا جداً ومتساهلاً باجهزة التحقيق حين اظهر قيامها بالتعذيب باستخدام اسلوب "الفلقة!!" المدرسية!! وهو اسلوب عفى عليه الزمن كان يستخدمه الكتاتيب لعقاب الاطفال المخالفين والمشاكسين.. وكان عليه ان يطلع اكثر على اساليب التعذيب الحديثة!!.
الطبيب شوكت الذي اظهره المسلسل بانه طبيب البكر... واخوه ضابط مخابرات، في توليفة غير مقنعة.
الربط بين نزالات عدنان القيسي "ولا ندري لماذا يصر المسلسل على تكرار عبارة إبن الأعظمية!!! لتوصيف عدنان القيسي، أخشى أن تكون لدوافع طائفية!!"، علما ان عدنان من مواليد الفضل ولكن دراسته كانت في الاعظمية، كما أن نزالات عدنان القيسي اجريت عام 1969 و1970 أي قبل حوادث أبوطبر بثلاث سنوات، وكانت تجرى في ملعب الشعب الدولي ويحضرها صالح مهدي عماش وشبلي العيسمي وعبدالكريم الشيخلي وعزة الدوري.
ولم نفهم ماهو القصد من قول المسلسل ان عدنان القيسي وأبوطبر هما لعبة مخابراتية تضاف الى قصة الحنطة المسمومة؟
ليس تحيزا للبعثيين ولا كرها بالشيوعيين، لكني وجدت أن المسلسل بالغ في التمجيد والتحيز للشيوعيين، وبنفس الوقت بالغ في الاستهانة والسخرية من البعثيين، وبأسلوب مسفّ في التحيز والاستهانة المقصودة.
كما أنه أظهر كبار ضباط المخابرات والأمن منشغلين بدور الدعارة ومجالس القمار وبشكل مبالغ فيه ايضاً.
ولكن المشكلة أن المسلسل يحمل الكثير من الأهداف السياسية "سماها مُعدوه بالمعاني الوطنية!!! والتي لم أعثر على أي منها" لكنها بمجملها شكلت أكذوبات شوهت هذا العمل الفني الذي بذلت جهة انتاجه أموالا طائلة في اخراجه وتصويره وانتاجه.
ولكن للاسف لم تتمكن من تحاشي التزييف والتضليل، فكان عملا مشوها فضلا عن أن مناظر الدم والعنف لا تأتلف وأجواء رمضان الروحية.
لكنني كنت مضطراً لمتابعة المسلسل من وجهة نظر ناقد شرطي ومن عايش الأحداث عن قرب وتحليل، أما لو أردت أن أنقده من حيث الأداء الفني فلن يسعني الوقت والمكان واتركها لغيري من المختصين.
ولا أستهين مطلقا بقدرات وإبداعات الممثلين فقد كانوا غاية في الأداء الجيد لما (رُسم لهم) من أدوار....
ولي عودة أخرى عند انتهاء المسلسل لمواصلة محاكمته شرطوياً!!
 أكرم عبدالرزاق المشهداني