نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

أنماط التلقي في المسرح:بقلم: أطياف رشيد



حددت الدراسات النقدية أركان الخطاب الإبداعي بثلاثة :-المبدع ،الأثر ،المتلقي ،ومما هو واضح إن الفنون بمبدعيها 
وأثارها تتجه نحو المتلقي بخطابها بكل تأكيد .ولما كان المسرح يختلف عن باقي الفنون في انه يمتلك مجموعتين من هذه الأركان هما :-

المبدع----المؤلف-----المخرج
الأثر-----النص------العرض 
المتلقي----القارىء---- المشاهد

   فان هاتينالمجموعتين تلتقيان في نهاية الامر عند فعل التلقي المتمثل في القراءة ،باعتبار ان المشاهدة هي قراءة لعناصر العرض والتي هي بحسب (آن اوبر سفيلد)تتكون من ثلاثة عناصر رئيسة هي :- 1- ماهو سمعي . 2- ماهو مرئي .3- ماهو ادائي .وانها باجتماعها تشكل وحدة متناغمة لاحداث الاثر المرجو منها في المتلقي .وان استجابة المتلقي لهذه العناصر في مختلف المراحل التاريخية للمسرح كانت تتغير وتتاثر حسب تطور وتغير الافكار والموضوعات والمناهج المسرحية .ففي حين بدأالمسرح تطهيريا بحسب ارسطو (لتحقيق خيرا معنويا ايجابيا ) فهو لم يعد كذلك مع النماذج المسرحية التالية التي اتخذت اشكالا مختلفة اخرى منها الاجتماعية او الحداثوية .وساحاول الكشف عن بعض انواع التلقي حسب هذا التغير في المناهج المسرحية .
   
1-     الكلاسيكية 
a- كانت العروض المسرحية في بداياتها تجسد مآثر وماسي الالهة والقصص كانت تروى عنهم ،وعلاقات البشر بالالهة والكون .وتجسد الملاحم التاريخية والبطولية وعظمة القادة وانتصاراتهم في حروب طاحنة بين الخير والشر .وقد جرى تغييرا كبيرا على هذه الموضوعات في الفترات اللاحقة على ايدي كتاب ماهرين هم مؤسسو الدراما الحقيقية وهم كل من   اسخيلوس وسوفوكلس ويوربيدس اتسمت اعمالهم بمواضيع ذات حبكة ومضمون موجه نحو الجمهور .ولقد كان العرض المسرحي في هذه الفترة يتسم بالفخامة والاداء المسرحي المبالغ للمساعدة على غرس روح الايمان بالقدر –الالهة .
  
أ- شكسبير .... استطاع شكسبير ان يصور الروح الانسانية على المسرح أي ان يعرض شيئا من الحياة . شيء مرتبط بوعي المتلقي وادراكه اليومي .وكان لهذا التغير عميق الاثر في تغيير طبيعة التلقي لهذه المسرحيات ،فبدل ان يخرج المتلقي من صالة العرض مفعما بالاعتقاد الديني مسلما للالهة بالعظمة حابسا خياله وعواطفه في سجن الماورائيات ،بدا المتلقي مطلقا مشاعره وعواطفه في حب او كره شخصيات بشرية لها مايقابلها موضوعا في الواقع وعلى هذا جاءت مسرحيات شكسبير مثلا مكبث وهاملت ويوليوس قيصر وغيرها ذات دفع حقيقي لان يكون المتلقي افكارا حول طبيعة الاستبداد او الحب او الخير والشر والحياة والموت والعدل والظلم .وجعل من مفهوم القدرية اكثر قربا من مفهوم الاختيار في مثلا روميو وجوليت والملك لير .وحتى في المسرحيات التي تكون فيها الموضوعة غير ذات صلة بالواقعية مثل حلم ليلة صيف فانها تبدد على نحو واضح الشعور بالخوف من الاتي .لقد اصبح الخير والشر صفتين بشريتين في قصص اجتماعية ورومانسية بعيدة عن الملاحم التاريخية او الدينية .

ب-ومع حلول القرن التاسع عشر بدا المسرح يتضمن (قليلا من نقد الحياة )و(الخيال الحي )وتغير اداء الممثل الى (ابسط صورة ممكنة )وهذه الافكار خلقت منهجا جديدا في التمثيل والذي خلق بدوره متلقيا جديدا قادرا على تحليل العرض المسرحي والافادة من الخبرات والتجارب التي تعرض مما عرف ب(مسرحيات المشكلة )او المسرحيات ذات الموضوعات الاخلاقية.فنشأت المسرحيةالاجتماعية وتطورت على يد ابسن حيث اصبح المسرح اشبه بغرفة (ازيل جدارها الرابع) لتنكشف خبايا الحياة امام المشاهد والهموم والمشاكل ذات النزعة الاخلاقية وانك ازاء مسرح ابسن (لتجد فيه ذلك الازدواج الدرامي الذي يجمع بين اللحظة العابرة من حيث الاعراب عن تاثيرات التجربة العارضة ،وبين اللحظة الدائمة من حيث الكشف عن مكنونات النفس الابدية )* وان الكشف عن ذلك لهو ثورة من اجل تغيير نظرة المجتمع لقوانينه المتعسفة وخاصة في مايتعلق بالمرأة وهذه الثورة انما اساسها التاثير المباشر في المتلقي من خلال مايقدم وطبيعة هذا التقديم ،وما اصطفاق الباب في بيت الدمية لابسن الا نموذج للمؤثر الجديد في المتلقي . 
2-اما في المسرح الملحمي الذي بدا انه (يخاطب عقل المشاهد اكثر مما يخاطب مشاعره )من خلال طروحات برشت وبيسكاتور التي ارادت صنع علاقة جدلية بين العرض والمتلقي، علاقة يكون فيها المتلقي مشاركا اكثر منه مشاهدا من خلال كسر حاجز الايهام او مايسمى بالتغريب ادى الى تحريك منطقة التلقي من ساحة التطهير الى مرحلة اكثر حرية في الممارسة الواعية بفعل التلقي ،واقتراح علاقة جديدة (بين صانع الفرجة والجمهور تنزاح عن السلبية والاندماج )واذا كان المسرح هو قطعة من الحياة فلابد حين تقديم هذه القطعة من تفحصها لمعرفة مايكمن فيها من مواطن الضعف والقوة ،السلب والايجاب.ان المسرح الملحمي في حقيقة الامر يستهدف (الجمهور الذي يجب تحريره من سلبيته كي يستطيع امتلاك الجرأه على المناقشة والتفكير وتحصيل المعرفة )بهدف (خلق متفرج ينقل الخبرة الفنية المتحققة في العرض المسرحي الى الحياة الاجتماعية ) والجمع بين المعرفة والمتعة الجمالية في العرض المسرحي احد سمات هذا المنهج حيث ان المتعة الجمالية لاتنفصل عن مبررات الوجود المسرحي بحسب برشت فالمتلقي اذن حاصل هنا على لذتان ساميتان هادفتان هما التعليم والمعرفة الموضوعيين واللذة او المتعة الجمالية لعناصر العرض .
    
3-وان بعض التوجهات المسرحية لم تأخذ مساحتها الكافية جماهيريا مثل المسرح الفقير ومسرح القسوة .فالمسرح الفقير قد لايعد مسرحا جماهيريا بمعنى ان ليس له قاعدة جماهيرية تتابع عروضه لان هذه العروض قلما تلقى قبولا بسبب انها كانت تدعو الى نوع جديد من (الحفلات البدائية )ليحل محل الطقوس الدينية القديمة متخذا من بعض عناصر الطقوس البدائية اساسا له مثل الكلمات غير المفهومة والاشارات الغامضة والحركات الجسدية العنيفة .وان المشاهد يترك في صالة العرض (اذا تم العمل في صالة )غير مصدق ان تكون هذه النهاية ،ولايسمح له بالتصفيق بل يطلب منه في كثير من الاحيان ان يأخذ عمله – المشاهدة – بجدية واحترام . اما بالنسبة للديكور فقد استعيض بجسد الممثل لتكوين بعض تفاصيل الديكور بما يكونه من حركات ووضعيات مختلفة وقد يصبح المشاهد نفسه عنصر من عناصر الديكور .كما ان المشاهد في اغلب عروض المسرح الفقير وخاصة في عروض رائده المخرج كروتوفسكي الانغماس في حالة من الاندماج والاستلاب .*
     ان مباغتة المتلقي بافعال جنونية وعنيفة في مسرح القسوة تلقي بظلالها على صياغة الوعي المعرفي والجمالي لدى المتلقي .فان الغاية من الدراما بالنسبة لاارتو مؤسس مسرح القسوة انما هي الكشف عن هواجس المتلقي واطلاق قوى اللاوعي لديه والتخلي عن الواقعية في التفكير والمعالجة من خلال وضع تكوينات رمزية تعتمد في كثير من الاحيان على الاضاءة و(التعبير عن الاشياء التي لايمكن التعبير عنها بالكلمات ويجب ان يكون دور الكلمات شعائريا تعويذيا ) ويصبح المتلقون (ضحايا يحرقون وهم مشدودن الى خازوق يومؤون من خلال السنة اللهب) .*
   
4- واذا اخذنا كلمة اليوت المهمة في المسرح (ان على المسرح ان يثير الفزع والرعب لا ان يبدده ) فان اثارة الرعب تبدو في اوضح صورها في مسرحيات اللامعقول التي كشفت عن زيف الحياة والخواء الذي يعيشه الانسان .وان عرضا يبرز كل هذا الكم من الاعتقادات الدينية والفكرية بلا فائدة وغير ذات نفع في سيرورة الحياة وان الانسان محكوم بالنهاية المرة المأساوية في كل الاحوال امر يولد لدى المتلقي صدمة بلا شك حول كل ماكان يعتقد ويؤمن به.وان نمو وتطور العلوم قد دفع بالانسان الى البحث عن الاجوبة التي اثارها هذا التطور التقني الهائل الذي ادى – برأي اصحاب المنهج – الى ضياع الانسان وضياع العالم وسقوط الانسان في مايسميه هيدجر ب(نسيان الكائن) وهي مقولة سنجد لها صدى فيما سياتي ايضا .
   وخير من يمثل هذا التوجه يوجين يونسكو وصامؤيل بيكيت . وان مايتلقاه المتلقي لاعمال يونسكو مثلا ليس هو الصور الذهنية او الافكار الجدلية او الرمز الموضوعي والجمالي فحسب بل التهكم والسخرية ،انه شيء يولد شعورا بالاحباط تارة والحزن تارة اخرى .وكذلك الحال عند بيكيت كما في (انتظار غودو) و(نهاية اللعبة )وغيرها ،انه اللاأمل من أي شيء . وانها لقسوة شديدة ان يشعر المرء بهذا الانهيار وهذه الوحدة وهذه العزلة ،هذه العبثية المصدعة لنظام قائم منذ الاف السنين .ان مسرح اللامعقول يرينا انهيارنا وتصدعنا وضياعنا في شكل مسرح شديد القتامة ،غير ان هذه القتامة تولد الاسئلة المصيرية وتزيح عن الوعي خدره امام المعطيات الثابتة في الحياة باعتباره (المسرح اللامعقول )(قوة محررة ) .

5- ظهرت اعمال مسرحية تعتمد في صياغتها على صناعة المشهد الجمالي/الصوري .وتعتمد نصوص عالمية تجتزئ منها ثيمات معينة أو تعتمد نصوص شعرية للافادة من ايقاعات اللغة الشعرية وموسيقاها في إضفاء أجواء حلمية وتكوين تشكيلات بصرية ذات صفة جمالية أو رمزية في بعض الاحيان .اي انها اخذت على عاتقها منح (الشكل )او (الصورة) على المسرح الأسبقية والأهمية حتى على حساب النص / الكلمة المنطوقة على المسرح .وهذه التكوينات البصرية تفتقر الى وحدة الموضوع في كثير من الأحيان . وتحاول أيجاد متقاربات غرائبية تلتقي وخيال المتلقي أو مخزونه من الصور . وهذه المرحلة ربما هي صدى لمقولة (نسيان الكائن) حيث لم يعد الإنسان هنا هو الهدف من العرض المسرحي،بل أصبح على المتلقي إن يشاهد ضياعه ومشاكله على شكل صور جميلة مشتتة ليخرج من العرض مشتتا تتنازعه الصور الغريبة وغير المترابطة في كثير من الأحيان.
      

    الخاتمة
_________ 
     ان ما قال به ارسطو من تطهير للنفس الانسانية بالشفقة والرعب من خلال العروض المسرحية من اجل (تحقيق الخير المعنوي الايجابي )كما سبق ذكره انما هو فعل استلابي لعواطف ومشاعر المتلقي ووعيه وما تحقيق ذلك الخير المعنوي الا تفريغ وامتصاص لرغبة التغيير او محاولة التفكير الجدلي للبحث عن معاني ودلالات ضمنية فثمة توجه واحد يتوجه به العرض الى المتلقي .لان الدلالات الناتجة عن العرض مشروطة مسبقا لتمظهرات محددة لدى المتلقي والعرض معا .فهو نطهير سلبي بالتاكيد .
   وقد يكون افضل انواع التلقي هو ماسعت اليه مجموع المسرحيات التي تتضمن الجانب التحريضي ،الثوري ،لما  فيها من تحريك للوعي واثارة التساؤلات حول ماهو سائد وثابت في الانظمة والقوانين الانسانية والاجتماعية وحتى السياسية والاقتصادية.وتجتمع عند هذه النقطة كثير من الانواع المسرحية التي تحمل سمات التغيير .ان المتلقي فيها يحصل على استقلال تأويلي في العروض ذات الطابع التحريضي ويتمكن من التفكير وتفكيك الشفرات الناتجة عن علامات العرض كما لو ان التجربة المتمثلة على خشبة المسرح هي اختزال لكون كبير يسعى المتلقي لاستكشافه .وان الخبرات المعرفية لدى المتلقي نفسه قد تغيرت وتعقدت واختزنت ذاكرته متناقضات وقضايا عصره والعصور السابقة .ومن تلك الانواع المسرحية الشكسبيرية في واحدة من اوجهها الرائعة والابسنية والملحمية ومسرح اللامعقول ،حيث التحريض على اختراق المنطق والعرف والانظمة الطبيعية والوضعية واللعب في ساحة الخيال والفكر الحر .ويصبح المتلقي في اكثر العروض اكثر من مجرد متلق بل يشارك لانه هو هدف الفعل المسرحي .غير ان اهمية التاثير فيه تكاد تلغى في توجهات مسرحية اخرى اولت  الجانب الجمالي الصوري اهمية كبرى لتصبح عروضه نخبوية لايمكنها ان تثير انتباه الجمهور/المتلقي وان كانت المسالة الجمالية مسالة غاية في الاهمية غير ان الشكل الجمالي تتراجع قيمته امام ضعف الموضوع او عدم وحدته وتماسكه لهذا الجانب التلقي في هذا النوع المسرحي اضعف من حيث ضعف قابليته في المساس بالمشاكل الانساني          

المصادر 
________
1-     مقدمة مسرحية بيت الدمية .هنريك ابسن .دار المدى .2007
2-     الموسوعة المسرحية .جون رسل تيلر .ت .سمير عبد الواحد الجلبي.دار المامؤن 
3-     التجريب في المسرح .سعيد الناجي .الدار البيضاء 
4-     مجلة الاقلام .المسرح الفقير ترجمة د.عوني كرومي .العدد الاول السنة 15  /1979