نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

العربة وقلق السلام: بقلم: نشأت المندوي

العربة وقلق السلام: بقلم: نشأت المندوي
 لم تزل بطاقة العيد التي ارسلها الشاعر( عبد الوهاب البياتي) من اسبانيا الى ابنه (علي) تلهب خيال العراقي، فغدت حكمة رددها كلما ضاقت الارض بجوازه المنبوذ. وحينما صاغها المبدع (كمال السيد) وغناها الشاعر (فوزي كريم) على حدائق (نادي التعارف) وسمعناها لاول مره استغربنا بشدةقائلين ترى لماذا يصرخ (فوزي كريم) وهو يردد:
(ونحن من منفى الى منفى
ومن باب لباب
نذوي كما تذوى الزنابق في التراب
فقراء يا وطني نموت
وقطارنا ابدا يفوت)
فهل تنبأ (المغني او الملحن او الشاعر) بقسوة المنفى وعذاب الغربة ورهبة السفر بلا بوصلة او حقائب؟ حقا انها لمفارقة تستحق التأمل.

كانت (ساندي)*(1) المتمردة تستفز حدائق العشق في البيوت وتطارد على بعد اميال من ولاية مشيكان عربة من قلق صنعها مهوسو مسرح لتتحول في صالة مدرسة الى رماد وخبز ودعاء، وكان (نوح) في سفينته عبر الشرفة يكتب عن نزيف وطن يكنى في دوحة حمورابي ب(الاوروك) في وقت تستأنف في سماءهذا الوطن طقوس الذبح فتحيل اجساد الاحبة الى خيم وصليل، وتنذهل حدقاتهم المسروقة بالصدمة فتنوح الامهات المفجوعات بترنيمة شعبية متداولة:
دلول يالولد يبني دلول
عدوك عليل وساكن الجول

يقول المخرج والمؤلف الاستاذ حيدر شلال (عالمنا يتأزم والانسان والبيئة في خطر وعلينا توحيد الاصوات ...... فان كان هذا صعب فدعونا نحلم).
في مسرحية (عربه السلام)*(2) تفاصيل شديدة الاحتراق ومحطات مثقوبة لاتحتمل التأجيل فهي عبارة عن رسالة محبة بلا توقيع معنونة الى من يهمه الامر على شكل صرخة او صمت لايهم، فالمعنى ان كوكبنا عليه ان يتعافى من القتل (لان الحرب لاتلد الا اخرى والضحية هم البشر)*(3).

لقد اعتمد المؤلف/المخرج على ثيمة رص لوحات ملتهبة مسكونة بالانين والسفر والخوف وربطها الواحدة بالأخرى بخيط معجون بالإدانة والسؤال فصاغ عبر قصباتها الفنية نصا او رؤية ذات مغزى شامل وعريض (وقد اعتمد المولف اللغة الفصحى ليعطي الموضوع فسحة اوسع تسحبه من المحلية وتبعده عن الهم العراقي الصرف). وقد تمكن المخرج بجدارة من شحذ مناطق موبوءة بالرعب والجدل فعبقها بالأبخرة والنواقيس واضاف اليها بعدا اخلاقيا واجتماعيا (كما في الحوار بين الزوج (اسعد غالب) والزوجة (د. ابتسام الاسعد) التي فقدت وليدها) فالاثنان عبر حوار ملتصق بالجنون ومشحون بالتهم الباردة يبحثان عن عذر يخدر الضمير حتى ولو على حساب الموقف من الوطن.

وفي لوحة اخرى استثمر المؤلف بشكل تقني عال مشهد اب فقد اولاده بجريمة لايعرف الجاني وحائر من هو المتهم؟ أهو ما يسمى بالاحتلال ام ما يدعى بالمقاومة؟ فالضحية بالنهاية هو المنطق لفهم المعقول من الاحداث بزمن كل تفاصيله عرجاء.

تنتقل الصور بانسيابية ممغنطة عبر ديكور رائع ل(حيدر الياسري) لشد الجمهور بهدف خلق معادلة كيمائية لمفهوم السلام كقيمة عليا تنشدها الاديان لتخليص البشر من وباء الالغاء والعنف والطائفية، فتنتهي المسرحية بإسقاط حزمة ضوء من كوة سماوية تدور حول اطفال متسلسلين في شكل عربة هي المرفأ المنشود، لتبلغنا ان الارض ولدت عارية كالطفل وانتهت بريئة كالأم وبينهما مبان وقصائد وغرام.

كان لتداخل الأغنية (المطرب رعد بركات) ضمن ثيمة العمل عبارة عن حقنة موسيقية حارة اذابت التراخي في الحوار المباشر احيانا (السياسي منه)، فايقظت كلماته المغناة نار الاسئلة المستعارة او الملتهبة التي لم يمر عليها الحوارالسابق فاضافت امتدادا هارمونيا ذكيا ذاب في لعاب المسرحية.
لقد تمكن المخرج /المؤلف باتزان أن يشد حلقة التواصل بين المقاطع بخيوط ايحائية ورموز ممسرحة شديدة العمق، فغرف من جذور اكاديميته بما يخدم العمل وينضج الفكرة ويلهب الممثلين بريقا والقاء, فقد اجادت (الدكتورة ابتسام) دورها في حضور متميز وطبيعة هادئة منسجمة. ويبقي (امير مشكور) المسكون بهاجس المسرح فنان له قامته المعروفة في الاداء بينما راقصت نهايات (اسعد غالب) المدوية حافات الخشبة فانهالت له الاضواء طرية ومثلها كانت للقدير(سعدون النور) اذ اجاد مهنته بروح قتالية شديدة المراس اما (حسام العبودي) فقد سار بخطواته داخل النص بدراية سلسة غير قلقة يبقى (رام العيداني) حالة تؤخذ بالحسبان لتاسيس مسرح واعد اما الفنان (حيدر الياسري) فقد همست له بعد العرض، اني وجدتك محصور بين موهبتين فاحذر الخطوط الحمراء.
 في النهاية تبقى المسرحية علامة مضيئة في فضاء مشيكان ووقفة متميزة في تاريخ المسرح الجاد وخطوة نحو مسيرة قد تكون طويلة لكنها ممكنة.
 نشأت المندوي - ديترويت - امريكا
*(1)
ساندي الاعصار الذي تزامن مع عرض المسرحية
*(2) عربه السلام مسرحية عرضت في مشيكان وهي من نشاطات منتدى الرافدين للثقافة والفنون
(3)
مقطع من حوار في المسرحية