نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

مسرحية «سلوان» لليلى طوبال بالتياترو/ ناجية السميري (تونس)

الوحش الذي التهم الخشبة
 
على خشبة عارية… إلاّ من صندوق خشبي وميكروفون يقف على الزاوية تأتي إمرأة بفستان عرس، نصفه أبيض والنصف الآخر أسود تجره خلفها يثقل امرأة بلا اسم ، بلا
ماض، بلا تاريخ، أضاعت ذاكرتها بين الثنايا المزدحمة نسيت من أين جاءت وإلى أين تمضي… تقف متعبة من ثقل الذاكرة وتحاول ترتيب أفكارها…. حكايات وخرافات وجوه وصور بلا ألوان… من أين تبدأ والأفكار تتزاحم في طابور طويل؟
تتقدم المرأة بكامل زينتها… تحكي مخاض وطن بعد الثورة، حكاية عمرها أربع سنوات فقط لكن أحداثها وارهاصاتها وآلامها وشهداءها ومآسيها… أكبر بكثير.
عقلها (المرأة) كنجمة مشعّة داهمها الصّبح فهشمها، امرأة مريضة بذاكرتها تفتح صندوق الحكايات لتصارع النسيان.
تبدأ الحكاية الأولى… عن امرأة تواجه حكم الإعدام لأنها قتلت زوجا اغتصب ابنته… السّجانة البغيضة على يسارها والشيخ بكتاب القرآن ومسبحته على يمينها يهيئها لمصيرها … تطلب مهلة زمنية لتنفيذ آخر رغباتها تراوغهما بالحكاية، حكاية تضفي إلى أخرى ولكلّ حكاية فصل … فصل للمرأة في مجتمع ذكوري وفصل للشهداء وفصل للسياسة وفصل للربيع العربي وفصل للحلم… وبين فصل وفصل تفتح صندوقا لتأخذ جرعة من ماء السلوان … و«السلوان» الذي اختارته ليلى طوبال عنوانا لمسرحية هي كاتبتها… هو العشق والموت والوجع والنسيان… ليلى طوبال التي شاهدناها في عرض مساء الجمعة (23 يناير الجاري) بالتياترو كما لم نشاهدها أبدا كانت تروي حكايتها وهي في الأصل حكايتنا الصادمة / البائسة/ الموجعة التي رجّتنا لنقف أمام ذواتنا العاجزة… تدعونا إلى كسر القيود الأخلاقوية والسياسية والاجتماعية وللوقوف أمام ثقافة الموت والتكفير والتجريم لنحكم مصائرنا عبر خطاب جمالي وسرد ذكي مراوغ بعيدا كلّ البعد عن السرد المسقط والخطاب المباشر….
في الحكاية تكتب مسرحية أخرى أبطالها الاستعداد والخجل والتهور والحزن والفرحة والخوف والنوم… أبطال يتحاورون ويلعبون «الغميضة»… فهل خطر ببالكم يوما ماذا يمكن أن يقول الإستعداد للتهور؟ أم كيف يمكن للخجل أن يقضي على الفرحة؟ وأي دور للخوف في هذه اللعبة وهو الذي يخاف أن يختبئ في الظلام…؟
حوار كتب بشاعرية عالية وفلسفة فنية ملغمة بالدلالات والتأويلات وتقود إلى أسئلة عديدة منها: لماذا تخاف الفرحة من النور؟ أو لماذا يكون الإستعداد مستعدا للتقدم لكنه يجد نفسه مكبّلا بالقيود؟
ذاك حال ثورتنا أو ربيعنا الذي هجم عليه الخريف فهدّم بيته … أو ذاك حال تونس التي لم تهنأ بحلمها… هي امرأة تهذي يقودها هذيانها لتشريح مجتمع يعيش على أنقاض ذاكرته المزدحمة… تطلب تصرخ بطلبها: «دقيقة صمت» … 6 فيفري (شباط) تاريخ اختفت فيه الشامة السوداء والابتسامة العريضة، رثاء موجع للشهيد شكري بلعيد والقدر التراجيدي الذي يترصد الأبطال … وتواريخ أخرى التهمت شهداء الشعانبي (جنود الوطن نعتهم بصوتين، صوتها المسجل وصوتها المباشر على الركح) استعرضت كلّ الأسماء تباعا ومع كلّ اسم تخرج من صندوقها وردة حمراء تنثرها على الركح، وتسخر من الترويكا وموقفها المتغاضي عن العنف والذبح والتفجير… تدخل المرأة في هيستيريا بعدما نزعت الأبيض لترتدي أو تكشف عن ثوب أحمر حريري فيتدفق فجر جديد من ردائها «احلموا» تصرخ بها وتكررها ثم ترتمي على الأرض وتسحب الثوب الأسود بخفة… وتلتحف به: «إحلموا إذا ما حلمتوش تونس باش تلبس نقاب”.
لا بدّ من الحلم حتى لا ننسى تونس التي ينخرها السرطان منذ ثلاث سنوات والأطباء «يغرزونها» دون بنج أو مسكن … تونس امرأة مريضة جميلة تقاوم الوجع بالحلم «خايفة نعيش مرّة ونموت مرتين» خائفة لكنها دائما على العهد … عهد القمح وزيت الزيتون والنخلة الشامخة والبحر الأبيض المتوسط، على عهد الياسمين والإكليل والزعتر والقرنفل على عهد السيكلاما والخبر وأغاني الطفولة..
تتهادى المرأة في دلال وأناقة بثوبها الأحمر في قمة أنوثتها وثورتها تقول: «أنا المرا.. أنا الحرة، أنا الغولة، أنا العورة، أنا العاهرة.. أنا شوكة في حلق من يراني رهينة زاوية، أنا امرأة خبّأت الوطن بين القلب والروح».. تلك رسالة ليلى طوبال أو خطابها الصريح في وجه كلّ أعداء المرأة، أولائك الذين حاولوا سلبها حقوقها والتعدي على مكتسباتها، الذين لم يروا فيها سوى عنصر مكمل أرادوه مكمّما منقبا.. دون صوت ووجه..
تعود المرأة إلى الحكاية الأولى.. حكم الإعدام.. لتجد نفسها أمام سجانة لم تعد بغيضة الشكل تفتش عن الشيخ الملتحي، فإذا به قد اختفى تاركا مسبحته وقرآنه.. بعدما نجحت في مراوغة الموت بالحلم والحكايات، فهل نجت المرأة/ الوطن/ الذاكرة من حكم الموت الذي أراد شيوخ الدين تنفيذه فيها؟
المرأة التي تحركت على الركح أكثر من ساعة ونصف، قدمت الوجع عاريا من كل ماكياج أو رتوش، تماما كالركح الذي اختارته دون ديكور… سوى صندوق الذاكرة.. وماء السلوان، فكانت مازوشية/ سادية تفننت في تعذيب نفسها وتعذيبنا بالجلد، بالصدمة تلو الصدمة… تضعنا في صراع الذات مع الوجع، تؤرخ للثورة بواقعية أبكتنا فلم نخجل من دموعنا لأننا تقاسمناها..
ولأن «سلوان» نص خرج من روحها وروحنا وروح الشهداء وأهلهم.. تعلمنا كيف نحب تونس بوعي لندافع عنها بقناعة..
فاصل موسيقي على العود للأخوين غربي يتزامن مع صراع المرأة/ الوطن.. تجري/ تسقط/ تنهض/ ترقص/ تتعثر/ تقف/ تتهادى بدلال/ تهرب الى الجدار الأسود/ تعاود الرقص/ تتأهب كنمرة.. وترقص من جديد مبرزة جمالها وأنوثتها، امرأة شامخة في زمن موبوء..
صراع المرأة يتداخل مع صراع الوطن، تبرز حجم المكبوت وضغط المتحدثين باسم الرب، تبرز قدرة المرأة على المقاومة وقدرة الوطن على الصمود في وجوه الأعداء.. لحظة صمت ثم تقف أمام المصدح لتعلن: «جبل الشعانبي لكم… القصيدة التي لم تكتمل لكم… والضحكة القادمة لكم… هذا الفجر الطالع لكم… الكرتوش لكم… الرش لكم.. الربيع لكم… الصبح الفاضح لكم… الأغنية لكم… هذه الثورة لكم.. هذا الحلم لكم…».
كلّ الأشياء لك بجميلها وقبيحها في وطن هو وطنك.. فاختر مكانك: إما مقاوما أو مهزوما، تلك خلاصة النص/ الرسالة تقدمها ليلى طوبال وبتلات الورد الأحمر تتساقط فوق رأسها توقظ الحلم من رماده وتعيد الأمل.. فيقشعر جسدك من رهبة الموقف، فاختر مكانك.