نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

لكتابة النسائية: والمطالبة بإرث جديد تكتبه المرأة/ أزانة بوغرس


 

من التأسيس إلى التجريب: من البداية المتعثرة إلى أسلوب جديد في الكتابة:
في ستينيات القرن العشرين، حاولت المرأة بناء خصوصية إبداعية تميزها وتحررها عن إبداعات الرجل، خاصة أن بدايات كتاباتها قد ارتبطت بتقليد أعماله وتحويرها بإحساس أو بدونه، دون أن تنتبه -غالبا- إلى سيطرة الرجل وهيمنته، وكان واضحا من خلال تبعية المرأة في البداية بالعديد من الصيغ والطرق واستمر الوضع هكذا، إلى أن ظهرت روايات أفرزت واقعية العالم العربي وواقع النساء وصراع الذكورة وسيطرتها، حيث بدأت بالكتابة الواقعية، أو ما أسماه "لوكاتش" بالأدب الطبيعي، وإن تفننت -في بعض الأحيان- في التنكر والاختفاء وراء الأحداث، فصورت المرأة معاناتها من خلال أعمال شقت طريقها إلى المشهد الأدبي العام. ومن أشهر هذه الأعمال: كتابات لطيفة الزيات، مي زيادة، نوال السعداوي، فاطمة المرنيسي.. وغيرهن من الأعمال التي طاوعت قضايا المرأة وهمومها الفكرية والنقدية. لهذا كانت أعمالهن تنهل من معاناتهن وحساسيتهن الجديدة تجاه الواقع والرؤية اتجاه المستقبل، وقد تأثرن هن الأخريات بالثورة النسوية في الغرب، وما شمل مجالاتها من تغيرات، بل كانت منطلقا مشجعا لنفسيتها وتواجدها رغم التضحية بالجانب الفني والجمالي في بعض الأعمال. هل ستبقى المرأة مستقلة بذاتها مرهونة بخصوصية جمالية وفنية إبداعاتها وحقائق قد تفتح مسارها على كل الاحتمالات؟
تطمح المرأة -على الدوام- إلى استنبات جذور لها، لتتحرك تحرك العصور والأزمان وترعب البعض المرهون بالحلم المستحيل، ولأن فطرة البشر البحث عن الجديد والمختلف، فلكل عصر فكره وأمجاده ورواده مبني على الرغبة في الاكتشاف والابتكار. ومع أن الأدب العربي قد عرف التقدم والارتقاء، بأعمال لا متكافئة، فإن ما أنجز قد ووجه بعوائق كبيرة ولازال يعاني من هذه المواجهة.
وبالرغم من الحدود التي رسمتها هذه العوائق، فقد رسمت مياسم الكتابة النسائية في حيز اجتماعي يقبل بثقافة الآخرين ويقبل بمتخيل اجتماعي متعدد.
والإبداع السجني النسائي"تجريبي"في كليته وأنثويته في المشهد الثقافي العام، فهو يفتح آفاقا للتساؤل عن علائق عديدة وتقنيات وموضوعات تضاف إلى الإبداع والفن. إن التجارب السجنية العديدة المتميزة، قد تركت أثرها على مستويات خطابية عديدة، رغم التعثرات والانقطاعات التي عرفتها حركتها على عدة مراحل في تصوير وتمثيل الواقع بكل أبعاده ومناحيه التاريخية والمجتمعية، تحكي فيها المرأة المبدعة بصوتها مرات وبصوت شخصياتها المتأزمة مرات أخرى أحداثا وهواجس وتردد بين المتناقضات: صراع بين الموت والحياة، بين الخيبة والأمل، في حركية لا تعرف الثبات، مبعثرة تخدم مضمونا واحدا: رفض الاستبداد والاضطهاد وهجاء الجلاد وبوح الذات القاسي والمؤلم والرغبة في تجاوز الإخفاق السياسي والاجتماعي وظلمة السجون. وهذا هو هدف التجريب في مثل هذه الأعمال، المتمثل في استكشاف مناطق وطرق وإمكانات أقرب إلى نواتها المتنامية باستمرار قد يظهر في هامش الاستقلال الذاتي النسبي للظواهر الأدبية التي منحها التاريخ بنية خاصة قابلة للقمع والإقصاء، لكنها رافضة للضمور والزوال.
إن الكتابة النسائية كأي كتابة جادة قادرة على المسير بفضل ما حققته من تراكم خلال العقود الأخيرة، وهو ما يجعلها تمتد حضورا من بيروت إلى القاهرة ومن ثم إلى المغرب والخليج العربيين. ف"الكاتب ذاكرة أخرى تقيم المسافة مع هذا المتخيل، تتعامل معه، ترى فيه وتكتب منه، لهذا المتخيل زمن تكونه وللكتابة زمنها المختلف، وبين الزمنين تستمر علاقة الفرد بالواقع المادي من حيث هو حضور فيه، في نظام العلاقات فيه، أي في ما يحدد له موقعا يحكمه ويتجاوزه كفرد"1 . لهذا فلا وجود للأدب بمعزل عن متخيل متعدد ممكن ومحتمل قابل للتحقق أثناء القراءة والكتابة معا، وبأقسام غير متكافئة في أفق الأدب العربي النسائي الحديث.
وفي ضوء هذا التغيير المتجه نحو ما هو حداثي، فإن بناء مكونات الكتابة النسائية بدأ يشكل طفرة مهمة في التحول الأدبي عكسته الأعمال التي نزفت أقلامها ألما ودمارا وخرابا بالتأثر بالحروب والأعمال التي كتبت عن التمييز الجنسي، هذه الأخيرة أضحت أكثر حضورا من أجل إثبات الذات الأنثوية، والتمرد على كل ما يضايقها ويحاول حجبها. تقول إحدى الكاتبات: "منذ طفولتي لا أطيع إلا عقلي أو الصوت المنبعث من أعماقي. لا تستسلمي لا تسيري في مواكب النفاق، لا تكوني واحدة من القطيع أو موظفي البلاط، كوني نفسك"2 . وتستمر في قولها: "هنا التمرد عورة، هنا الوعي إثم، هنا المعرفة خطيئة، هنا الرأي العام غائب.. هنا يختنق العقل وتدفن الموهبة وشجاعة الإبداع. لكني لا أعرف اليأس في خيالي حلم حياتي، أن أكتب كلمتي ويقرأها الناس، سوف يقرأها الناس اليوم أوغدا أو بعد غد، لا يهم اليوم أو الغد أو بعد الغد، فسوف يقرأها الناس."3 "عالمي الصغير الذي كنت أبنيه من الكراسي والعرائس طفلة صغيرة، أصبح حقيقة واقعة..في جيبي مفتاحه السحري العجيب"4. وفي المقابل ظهرت نصوص أدبية تحررت فيها الأنثى من السلطة والقيم الذكورية بإعطاء الجسد حضورا قويا -لتفرض على محاور رحلتها الإبداعية بعيدا عن أي عقدة أو فكر تقليدي، يقصي متطلبات الجسد وفطريته وغريزيته كأنها خطيئة شنعاء.
هكذا، رأت المرأة في تحرك الجسد تحقيقا للحرية الذاتية ضمن سؤال عميق هل بالجسد دون غيره يعيش الإنسان؟
للجسد دلالات تتعدد بتعدد القراءات، قراءة خاصة بالمؤلف وقراءات خاصة بالمتلقي في علاقته بالنص، لتنشئ تلك القراءات متخيلا من خلال تأويلاته المحتملة. ولعل أهم ما يثبت هوية المرأة في وجودها هو الجسد الذي يؤسس لها فضاء خاصا للكتابة والبوح. "نحن نجعل الجسد يتكلم حين نستعمله كعالم للتعبير عن حقائق خارج جسدية، ليصبح بذلك مصدرا للمعلومات المختلفة المرتبطة بحقيقة وجودنا، وتنوع مظاهر حياتنا. وفي الأخير، نحن نحلم العالم على نموذج جسدنا، وتزداد كثافة هذا التعبير وتتعاظم عن طريق تعدد الصور التي يمكن إعادتها للجسد"5 . الجسد طاقة، قوة، منفلت من ضيق الوجود وتهميشه له. لم يعد الجسد خاضعا لموقعه التهميشي والمسكوت عنه، بل تحرر من كل ذلك الإقصاء إلى عالم أرحب، يرسم مثاليته وعلاماته المتعددة ورمزيته القوية الكاشفة عن انحناءاته اللامتناهية وعن كثافة تعدده الدلالي بتعدد المفردات المشكلة لثنائيات تعكس ماهو اجتماعي وثقافي وحضاري مختلف ومتعدد لذلك الجسد."إن ماهو عقلي يترجم في الجسد وبالجسد، يتعلق الأمر إذن بإعادة مكانة الحيز الأساسي للذة الجسد في اكتماله. وعليه، فالمقصود هو العمل على استثمار -بكيفية إيجابية- مالم يستثمر من الجسد أو مالم يوظف استثماره أو ما تمت عملية استثماره على نمط سلبي، وبكيفية إجمالية. يتعلق الأمر هنا، بتوليد اللذة، حيث لا يوجد إلا الكرب. إن هذا الوضع يخلق رؤية جديدة(أخرى) للعالم، توازي رؤية جديدة(أخرى) للذات"6.
وقد ترسخ إحساس الأمومة أيضا، في وعي المرأة فجسدته في كتابتها في بعده الوجودي، حيث الكشف عن علاقة الكاتبة بالتجربة الاجتماعية، وهكذا تشعبت الكتابة وامتزجت بالإحساس الأنثوي الحميمي، اعتمادا على صرح فني دلالي لخطاب تقابلت فيه الأزمنة والأمكنة مع العالم الداخلي للمرأة." فالجسد هنا، وفي جميع الحالات أيضا، ليس رزمة من الأعضاء، ولا سيْلا من الوظائف فحسب، بل هو بنية رمزية، تحيل على واقعة من الوقائع العديدة للمتخيل الاجتماعي"7 . "وبدون هذه الأبعاد الرمزية، لن يكون للعين ولا لليد أو الجيد أو للساق سوى وظائف أولوية مباشرة ونفعية"8 . وبهذا البناء للذات، تحررت المرأة من توظيف المعنى الواحد المحدود لتعتنق لغة طليقة تطلق خيال القارئ على تعدد المعاني وانفتاحها. "فتقنيات الجسد، هي البوابة للولوج إلى العالم العميق للذات، فهي الطريقة التي يستخدم بها الإنسان جسده من أجل خلق حالات تعبيرية موغلة في التفرد والخصوصية"9
وهذا ما أبرزته إحدى الكاتبات في تحليلها راويات نسائية لبنانية في قولها: " لقد تحددت لغة كبير من الروائيات اللبنانيات المبدعات، إذن، بالحكي الذي حملته هذه اللغة. فاللغة حسب "فردينان دي سوسور" مطلقة و وبالتالي اجتماعية. أما الكلام، فهو ما يتحقق من اللغة بالاستعمال، لذا فهو فردي. وبناء على هذه القسمة، حددت الروائيات المعاني التي حملتها لغاتهن بالكلام، ولأن الرؤية هي التي تحدد المعنى، ولأن المعنى محدد أيضا بالسياق التركيبي السردي الدلالي للنص الروائي، ولأن الرؤية الفنية هي التي تتحكم بهذا السياق المذكور، فإن رؤية الروائي للعالم غير منفصلة عن رؤيته الفنية، تلك الرؤية التي لاحت عند الأدبيات المبدعات عبر اللغة وغيرها من العناصر البنائية المفضية إلى إبراز 'أنثوية' ما تحمله من البنية الروائية، بالمعنى النوعي للجنس وليس بالمعنى الضيق للكلمة. أي بما تلوح به هذه البنية من حساسية أنثوية تنفذ من خلال طريقة تأمل الكاتبات للعالم، ومن خلال ما ينطوي عليه هذا التأمل الإنساني من حس أنثوي مرتبط بالخصوصية الوجودية للذات الأنثوية المرتبطة بسياقها التاريخي الاجتماعي"10 . وهي خصوصية محيطة بانشغالات المرأة الذاتية، المرتبطة أساسا بأسئلة الكينونة والهوية والذات. فينطلق هذا الكلام على طرق كتابة المرأة السجينة الفاعلة في صياغة الفضاء السجني برؤية أنثوية للعالم والوجود والإنسان. رغم صعوبة ذلك، "على اعتبار أنها تجربة قاسية، يصعب على الإنسان تلقيها وقراءتها في عنفوانها وفي عنفها، وفي قساوتها وأخطائها أيضا، فبالأحرى امتلاك القدرة الذاتية والنفسية على حكيها، وإعادة كتابتها للتاريخ ولذاكرة المعتقلين الأموات وللأجيال الجديدة، أو اللجوء إلى كتابتها فقط من أجل محاولة نسيانها، أي عبر التخلص من تركتها وثقلها بواسطة الكتابة، وإن كان من الصعوبة على جروحها الموشومة أن تندمل هكذا بسهولة".11
وتندرج الرواية السجنية ضمن عالم الرواية الجديدة، لتكون بهذا المعنى كما ينطبق على قول أحد الكتاب الدراسين لكتابات يوسف فاضل في قوله: "رصدا لسيرة جماعية، كثيرا ما تدخلت المصادفات والأقدار في تشكيلها وفي بلورتها، وفي تحديد مصائر شخوصها، الأمر الذي أفضى لنا في النهاية بما يشبه ملحمة جماعية، نابعة من زمننا المغربي الراهن، ملحمة تحكي عن تحولات فئة اجتماعية معينة، وهي تبحث لنفسها ليس عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور، ولكن عن خلاص محتمل في مجتمع مأزوم. هي إذن شخوص في الصيرورة، حيث لا أحد من الشخوص يبقى في وضعيته ويستقر على حاله الكل يتحول نحو اللارجعة، نحو الأمام من دون التفكير في الوراء، الأمر الذي أضفى على هذه الرواية نوعا من الديناميكية في السرد والدلالة، إلا أنها صيرورات تبقى مرتبطة بالعديد من الإرغامات التي توجهها وجهات أخرى غير تلك المرغوب فيها، أي نحو معانقة آفاق، كثيرا ما تصطدم عندها الشخوص بالانغلاقية والسلبية والعدمية. فجُل الشخوص في هذه الرواية، تبدو حاملة أحلاما أكبر منها، لكن سرعان ما تصطدم أحلامها هاته بالانكسار والإحباط وخيبات الأمل والتلاشي عند حدود ذلك الأفق المسدود، هذا الذي يشكل البحر أبعد نقطة فيه وأكبرها"12 . وهو تأسيس لما يسمى بحساسية جديدة أو إطلالة فكرية وإبداعية جديدة تراعي الخصوصية والاختلاف للإبداع النسائي. "إن مجموع الرؤى أو الطرائق الفنية في الحساسية الجديدة، يمكن أن تستقر وتصبح نتاجا تاريخيا وزمنيا، وتتجاوزها وتقوم على إثرها حساسية جديدة أخرى"13 . أي كتابة جديدة لا تحترم التقنيات الجديدة فحسب، بل تستحضر أيضا كل أشكال التطور الاجتماعي والتاريخي، كما أبرز ذلك إدوارد الخراط. لهذا، يبحث صاحب الحساسية الجديدة عن النظرة الغامضة والمجهولة من خلال الكشف عن التفاصيل الحياتية الباهتة والهامشية في أعماله الإبداعية التي اشتهر بها. فإدوارد الخراط، رائد تيار الحساسية الجديدة في الرواية العربية من خلال عدة روايات أثمرت حضورها إبداعا وفكرا ونقدا، لامتلاك صاحبها خصوصيات لمكونات وآفاق الكتابة الإبداعية. يقول'الخراط'عن الحساسية الجديدة:"هي نقلة أساسية في أشكال ومضامين التقنيات الفنية أو طرائق التعبير أو على الأصح طرائق الوجود الفني، وهي تصاحب أو تسبق نقلة أساسية في التطور الاجتماعي والتاريخي."14
لقد اهتم"إدوارد"ومتابعيه بالحساسية الجديدة، بطرح تصور جديد لعملية الكتابة والإبداع وتحديد اتجاهات فنية واضحة، تستحضر المتلقي وتستثمر تساؤلاته المتعددة، كما أنه أرغمنا في دراساته النقدية على الانقلاب على ما هو تقليدي منظم إلى ما هو سردي لا يستسلم لنظام ولا لبناء سهل، بل يتسم بالتعقيد ومراعاة مكونات ومفاهيم جديدة للفن والكاتب، لهذا تبلورت آراء وأفكار تنقد مجهود الخراط تسعى إلى نفي سبقه الأدبي في ما أسماه " الحساسية الجديدة" لأسباب عديدة ذاتية وموضوعية. ولا غرابة في ذلك، فكل أدب وفكر جديد مستهدف بشتى وجوده النقد. هذا ما أثارته العديد من مداخلاته الأدبية والثقافية خاصة في"مهاجمة المستحيل"ردا على"القصر والتضييق"الذي يطال شخصيته واعتبره "انصياعا لانحياز عقلي له عواقبه الوبيلة من التعصب والفصل الطائفي"15 ، في حين تتغيب جمالية الكتابة والحساسية الإبداعية الجديدة التي صنعت اسم الكاتب، وحفرت له موقعا ضمن الاتجاه الجديد.
كيف إذن ينتقل النص النسائي نحو التجريب الفني والأدبي بما هو أفق لزعزعة ثوابت الجنس الأدبي السجني؟ كيف تمتلك المرأة المبدعة مفاتيح الإبداع لتخصيص لغة لها؟ هل من قوة وراء ذلك؟
لعل بروز ظاهرة كتابة أدبية جديدة مهتمة بكتابة الأدب السجني النسائي، نتيجة من نتائج المواجهة والتمرد على واقع مرفوض، كما أنها تمثل صراعا بين الأنا الجمعية ونظام قاسي في رد فعله"أنا" الجمعية ترفض الخضوع، فهي خارج عن الطاعة. لقد نضج هذا الأدب مع ظهور تجارب إبداعية أثارت ردود النقاد وأسالت حبر أقلامهم للدراسة والتحليل. وهي أعمال إبداعية اختارت لنفسها أن تكون رسما على البياض رغم سوداوية المرحلة وقتامتها، إنه ميل جديد لمتخيل جديد يسعى إلى لرؤية شمولية مغايرة عن المألوف من التقاليد والأعراف وما يحيط بها."إن المجتمعات مهما فكرت أو قررت، فالأثر الأدبي يتجاوزها ويخترقها، على هيأة شكل، تأتي المعاني الممكنة والتاريخية لتملأه الواحد بعد الآخر.إن الأثر لا يخلد لكونه فرض معنى وحيدا على أناس مختلفين، وإنما لكونه يوحي بمعاني مختلفة لإنسان وحيد، يتكلم دائما اللغة الرمزية نفسها خلال أزمنة متعددة: فالأثر يقترح والإنسان يدبّر."16
عند أي دراسة لسانية للدال والمدلول، لا بد من التوقف على مكونات الاثنين، وما تثيره من أضداد وتعارضات في الأصوات والحروف والكلمات. ولا بد من الإشارة إلى مكونات الزمن النصي واكتشاف تعددها وتداخلاتها المباشرة بالإشارة إليها (ماض، حاضر، مستقبل) أو غير مباشر بواسطة مشيرات سياقية دالة من خلال الفعل أو الاسم أو المكان، يضمن العلاقة بين تنوع الأزمنة وتعددها في تناميها وهبوطها وتواترها:
تعدد الأزمنة: تعدد القارئ
القارئ ---النص---القارئ(تأويل متعدد مفترض) زمن القراءة( قراءة مفترضة)
  زمن --------  زمن: 
       زمن الكتابة (الزمن الحاكي)
       زمن التاريخ(الزمن المحكي)

    لهذا، فالكاتب يروي، يسرد، ينص.. وقد يحكي عن الفرد الذي هو طرف في علاقة مع الواقع المادي، يحكي عنه حضورا في هذا المتخيل. يحاور الكاتب المتخيل، يحاوره من مسافة الكتابة، ويحاوره عالما له أساسه المادي ولكنه في المتخيل مستوى آخر.الكاتب آخر غير الذي مارس العلاقة مع الواقع المادي. الكاتب ذاكرة أخرى، تقيم المسافة مع هذا المتخيل، تتعامل معه، ترى فيه وتكتب منه. ولهذا المتخيل زمن تكونه وللكتابة زمنها المختلف، وبين الزمنين تستمر علاقة الفرد بالواقع المادي من حيث هو حضور فيه، في نظام العلاقات فيه، أي في ما يحدد له موقعا يحكمه ويتجاوزه كفرد."17 في محاولة دائمة لتقديم أهم النجازات التي حققتها الكتابة النسائية من البداية إلى حاضرنا، مبرزة التحول الذي يشهده هذا النوع من الكتابة جمالية كانت أم فكرية أم غير ذلك، حسب ما تفرضه الظاهرة المهيمنة على امتداد هذه المحطات الإبداعي، إنها تنصب على ما هو مكتوب رغم قصور معرفتنا بتجليات الكتابات الأخرى في جغرافيات أخرى تربطها بصلة مع أعمال مغربية عايشت نفس الحرقة والشغب الإبداعي. من المعاناة والقهر والإقصاء ومنافسة الآخر إلى محاولة التجريب، تجريب الظواهر والأشكال الجديدة والرؤى المتجددة اتجاه الأدب والفن والفكر. "فالتجريب قرين بالإبداع، لأنه يتمثل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة، فهو جوهر الإبداع وحقيقته عندما يتجاوز المألوف ويغامر في قلب المستقبل. مما يتطلب الشجاعة والمغامرة واستهداف المجهول دون التحقق من النجاح والفن التجريبي، يخترق مساره ضد التيارات السائدة بصعوبة شديدة. ونادرا ما يظفر بقبول المتلقين دفعة واحدة، بل يمتد إلى أوساطهم بتوجس وتؤدة، ويستثير خيالهم ورغبتهم في التجديد، باستثمار ما يسمى بجماليات الاختلاف. ويتوقف مصيره لا على استجابتهم فحسب -كما يبدو للوهلة الأولى-، بل على قدر ما يشبعه من تطلعاتهم البعيدة عن التوقع، ويوظفه من إمكاناتهم الكامنة. فجدل التجريب الإبداعي متعدد الأطراف، لا يجري داخل المبدع في عالمه الخاص، بل يمتد إلى التقاليد التي يتجاوزها والفضاء الذي يستشرفه المخيال الجماعي"18 . إنه الإحتراق الذي تقوده الإرادة والعزيمة والرفض يستوجب تقديم تاريخ حافل من الإبداع المكتوب، استمرارا لعمل جماعي يصور رؤية المرأة ونضرتها لذاتها وللواقع.
  وهو كلام يصنف جديد الإبداع النسائي الذي يفتح الحديث عن إبداع نسائي يرقى إلى مستوى التجريب بعد البدايات المتعترة والهامشية وغير الجريئة للمرأة المبدعة. وهو تصوير استشف من خلال عدة روايات وكتابات راصدة للصراع بين الذكورة والأنوثة.ف"لا ينبغي النظر إلى قضية المرأة على أن الحكم قد صدر فيها مقدما عن طريق الواقع القائم والرأي العام السائد، بل لابد من فتح النقاش على أساس أنها مسألة عدالة."19 ليكشف عن تجريب كتابة حديثة للمرأة، تتميز بفروق عن الكتابة التقليدية شكلا ومضمونا، لغة وتخييلا. وما يواكب هذا التجريب من دراسات نقدية، تحلل مقاصد الكتابة النسائية وأهدافها، كمنهج التحليل النصي، نظرا لأهمية الكاتب والقارئ والسياق الذي يؤطر النص ضمن تفاعلات عديدة كلها تستحضر لتقييمه. مادام النص، يشرع لنفسه عدة أبواب ونوافذ، تلقي به في عالم التأويلات والقراءات، فهي مواصلة للكشف عن ذات الكاتبة الغامضة ضمن فضاء تخييلي فريد لقد كانت هناك في الماضي أخلاق الخضوع، ثم جاءت بعدها أخلاق الفروسية والكرم، وقد آن الأوان أن تتحقق أخلاق العدالة كلما تقدم المجتمع نحو المساواة"20 . وبهذا طفت على السطح نماذج روائية وأعمال نسائية عربية ومغربية وغربية، "فالكتابة النسائية في المغرب لا يتجاوز زمن إرهاصاتها الأولى أربعين سنة، عمر قصير جدا في تاريخ الكتابة وفي الكتابة المغربية. وقد كان اقتحام النساء المغربيات لهذا المجال مغامرة وتحديا، ذلك أن الكتابة ليست اشتغالا على الكلمات وحدها، وإنما هي أيضا اشتغال على الذات، هي رسم بالجسد وعلى الجسد، هي إعادة بناء كينونة ووجود آخر مغاير لما أريد له أن يكون. في الواقع كتابة النساء، هي تحرير جسد من سجن ثقافة ذكورية سادت، أباحت للرجل حق التصرف فيه قولا وفعلا، وجعلته محظورا وغير مباح مطلقا أن تكتب المرأة منعا لها، من أن تطال كتابتها جسدا لا تمتلكه، وأن تخرج عبر الكتابة من دور الموضوع. لتصبح فاعلا، فتهدم كل الموروثات التي تجعل من وعيها ومن تفكيرها ومن جسدها ثالوثا محرما."21
لقد كان للذكورة فضاء واسعا للكتابة، وفّره الجسد الصامت الذي ألهم مخيلاتها للإبداع والعطاء، فصار التأنيث الإبداعي مهمة صعبة لدى المرأة الكاتبة لغة وتعبيرا وإحساسا.
إن الحديث عن تطور المحكي السجني، يفرض الحديث عن فعل الكتابة بشكل عام، فهذا النوع من المحكي قد وجد لذاته مستقرا داخل السياق الأدبي بكل ألوانه وأنساقه، وضمن المغامرات الأدبية والإبداعية الأخرى، مما يطرح السؤال هل الكتابة السجنية جديد أم استمرار كم فقط؟
فقد استرفد هذا المحكي خصائصه من شتى الأجناس الأدبية، وتأسس على ما عرفته من تطور في آليات إبداعها واشتغالها، لينشئ لنفسه عوالم فنية مختلفة ومتنوعة تحظى بالسؤال والبحث، فيفضي بنا إلى أن المحكي السجني محكي في طبعه مشاكس يتجاوز التقليدي السائد والروتيني المبتذل إلى ما هو متخيل بديل مستحدث لعلاقات الشكل وطبيعة القارئ. إنه محكي يتوسل إلى أساليب وطرق تحترم كينونة الكتابة وعمقها، استحضار فنية الشكل وجماليته وسلطة القارئ وشقائه في تفكيك دلالات النص والتعمق في سحر غياهبه، فيه قراءة لكل التفرعات التي عرفها هذا النوع من الكتابة المتمنعة، وتعبيراته الأدبية التي تجعل منه شكلا أدبيا متنوعا ومترابطا وتجريبيا للأساليب والصيغ والتقنيات الجديدة، وهو ما أظهر قدرة المحكي السجني على تأسيس خطاب له ضمن خطابات التعبير الأخرى أكثر انفتاحا على الممارسة والتجريب. فهذا الأخير "دلالة على البراعة في البناء والحرص والتجويد والسعي إلى مخالفة السائد"22 . و"النص نتيجة ونقطة انطلاق أيضا" 23 كما يقول أحد النقاد.
تكتسي ظاهرة التجريب بعدا شاملا في الأعمال المغربية، فالأمر لم يعد متعلقا بما هو شكلي وجمالي، بل تجاوز ذلك إلى ما هو فكري مضموني يراعي مكونات النص وعناصره وتضافرها في تأسيس خطابه العام، وبحسب رؤية فنية تطفو على السطح حين يحتضن الناقد العمل فيشرع في تحليله وتشريحه.
مفهوم التجريب كموضوع علمي ونظام مؤسس لتحولات أنساق المؤسسة الأدبية الحديثة بالمغرب ورصده في كل دراسة، خلفية نظرية تؤطر تحولات أسئلة المؤسسة الأدبية بالمغرب في رحلتها من طور التقليد إلى آفاق التحديث من خلال: الوقوف على الإشكاليات الفنية والثقافية والتاريخية والسياسية، ومن ثمة رصد مفهوم التجريب وهو يؤسس استراتيجياته النصية المتعددة ضمن وحدة المشروع الإبداعي العربي بالمغرب.
... يتبع

المراجع:

- 1- معركة السفور الجديدة، بنسلامة رجاء، 1961
- 2- في معرفة يمنى العيد، منشورات دار الآفاق الجديد، بيروت، ط 1، 1983، ص13
- 3- مذكراتي في سجن النساء، نوال السعداوي، مكتبة مدبولي، ط2006، 2، ص10
- 4- مذكراتي في سجن النساء، نوال السعداوي، نفسه، ص11
- 5- مذكراتي في سجن النساء، نفسه، ص73
-6- الجسد: نصوص من التراث، إعداد وتقديم محمود ميري، مجلة علامات المغربية، ع4، كلية الاداب والعلوم الانسانية، مكناس، 1995، ص116
ذاكرة الجسد والهوية، مقال لكاستيت.ب، ت.حميد سلاسي، مجلة علامات، مأخوذ من كتاب:Le corp et sa7- mémoire,Actes du VIo congrès international de psychomotricté,la Haye,1984,Doin Edition,paris,1986.
8 -David Le Breton: La sociologie du corps, que sais-je, 1992, P33
نساؤهم ونساؤنا، سعيد بنكراد، موفع سعيد بنكراد الإلكتروني، saidbengrad.free.fr9-
-10 Michel Bernard: Le corps, édition Universitaire, 1976, P124.
11- الكتابة وخطاب الذات (حوارات مع روائيات عربيات ) المركز الثقافي العربي ط 1، 2005، ص 39
12- سيرة الكتابة، عبد الرحيم العلام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط2002، 1، ص120
13- سيرة الكتابة، عبد الرحيم العلام، دار الثقافة البيضاء، ط 1، 2002. ص 146
14- الحساسية الجديدة، ادوارد الخراط، مقالات في الظاهرة القصصية، دار الآداب، بيروت، 1993
"15- أصوات حداثية"، اداود الخراط، دار الآداب، بيروت الطبعة 2. 1999. ص 342
"16- مهاجمة المستحيل " مقاطع من سيرة ذاتية ص 162 منشورات دار المدى للكتابة سوريا 1996
17- النقد والحقيقة، رولان بارط، ترجمة وتقديم:ابراهيم الخطيب، مراجعة محمد برادة، ط1985، 2، ص55
18- في معرفة النص، يمنى العيد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1985، ص13
19- مجلة عالم المعرفة، الرواية العربية.. ممكنات السرد، مداخلة: التجريب في الإبداع الروائي، د.صلاح فضل، ع357، نوفمبر2008، ص103
20- استعباد النساء، جون ستيورات مل، ترجمة:د.إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1998، 1، ص33
- 21- استعباد النساء، نفسه، ص71
22- المرأة والكتابة عن السجن والاعتقال بالمغرب، حليمة زين العابدين، الحوار المتمدن، ع 3750، /6/6/2012

23- التجريب في كتابات ابراهيم درغوثي القصصية والروائية، عمر حفيظ، دار صامد للنشر والتوزيع، ط1، تونس1999، ص