نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

    العوسج رواية صدرت حديثا عن دار الأدب العربي للكاتبة السعودية الجوهرة الرمال



     صدرت روايةٌ جديدة للروائية السعودية الجوهرة الرمال بعنوان “العوسج”، وهي صادرة عن دار الأدب العربي، علماً بأنّ ‏عنوان الرواية نسبة لشجرة العوسج وفقاً للأسطورة، وهي شجرة تسكن تحتها قبيلةٌ من الجان، وتُسمّى في بعض الدول العربية “الشجرة الشيطانية”. ربما تبقى مجرّد أسطورة ولا علاقة لها بالواقع، لكن تم توظيفها بطريقةٍ تخدم فكرة الرواية.

    ‏بطل الروايه جبران الذي أصيب بلعنةٍ جعلته مصاباً بالأرق وتدفعه كلّ مرّة لاختيار ضحية لقتلها لينعم بعدها بنومٍ هادئ لمدّة أشهر، وأول ضحاياه هي أمّه، حتى تظهر كمد وهي جنية من قبيلة غيلان المعروفة بسيادتها وقوتها لتدلّه على شجرة العوسج ليتخلص من هذه اللعنة.

    الجوهرة الرمال روائية سعودية شابّة أصدرت ست روايات: “حب في غفوتك الأخيرة” (2015)، “أنا قبل كل شيء” (2017)، “ركض الخائفين” (2018)، “لي أنا أولاً” (2019)، “ورد” (2021)، “لقد وصلت إلى وجهتك” (2021)، وترجمت رواية “أنا قبل كل شيء” إلى لغاتٍ عدّة وبيعت منها 40 ألف نسخة.


    رأي وموقف : عن عاطف أبو سيف هذه المرة فراس حج محمد/ فلسطين

    في منشور قصير يكتبه بشير شلش في حسابه على الفيسبوك، يهاجم فيه عاطف أبو سيف، كاتباً ووزيرا للثقافة الفلسطينية. سبب هذا الهجوم ما نشرته دار نشر يصفها شلش بأنها "صهيونية" إعلانا عن صدور رواية "مشاة لا يعبرون الطريق" مترجمة إلى اللغة العبرية. تقول الدار  عن نفسها أنها لا تترجم كتابا دون إذن، ودون اتفاق مسبق مع الكاتب، يعني ذلك أن عاطف أبو سيف الوزير والكاتب الروائي في ورطة كبيرة، يصفها شلش بأنها خطوة تطبيعية.

    تبدو رواية أبو سيف مهمة بالنسبة لدار النشر، كون كاتبها من غزة، وتتحدث عن وضع غزة، فوضعت الترجمة في هذا السياق الدعائي الصهيوني الذي يخدم الحرب على قطاع غزة، فجاء على الموقع الإلكتروني للدار "في أول رواية غزية تترجم إلى العبرية، تتحدث عن الحياة في غزة من منظور رائع ومثير للدهشة".

    لا أظنّ أن أبو سيف في وضع يحسد عليه، لقد جاء الإعلان عن ترجمة الرواية في ظروف صعبة، ووصلت حالة التوتر والغضب الشعبي إلى أقصى مدى، بعد عمليات القتل الصهيوني للشباب والأطفال، وحصار المدن، وإجراءات سياسة جز العشب التي ينتهجها قادة الاحتلال، حيث القتل المستمر ببطء، ودون إحداث ضجة كبيرة، محدثة حالة من استنزاف الدم المتواصل يومياً، وما يتبعها من اعتقالات، ومضايقات من أفراد العصابات الصهيونية المجندة، ومن أفراد المستوطنين المسلحين المعربدين في كل نقاط التماس وعلى الطرقات. إن هذا الكيان الغاصب يشن حربا شاملة علينا لكن دون أن يعلن ذلك صراحة، لكن أفعاله وجرائمه على أرض الواقع تقول ذلك ببلاغة شديدة الوضوح.

    هذه الحالة التي خلقها الاحتلال لم تجد لها نصيرا حقيقيا من السلطة الفلسطينية، بل إن محافظ نابلس أدلى بتصريحات معيبة في حق أمهات الشهداء، ووصفهن بالشاذات، وبذلك فإنه يعبّر بلا أدنى شك عندي عن موقف المتنفذين في السلطة من قادة الأجهزة الأمنية والسياسية.

    جاءت رواية عاطف أبو سيف ليعبر فيها طريقا شائكاً، وفي غير محله، ويجلب له الكثير من الوجع، ويصيب عمله الثقافي العام في مقتل، إذ ترفع وزارة الثقافة التي يعتلي كرسيها منذ سنوات شعار "الثقافة مقاومة"، فكيف سيقاوم أبو سيف وهو يوافق على ترجمة الرواية إلى العبرية من دار نشر تغذي النزعات العدائية بالأدب، وهو عينه ما تقوم به المؤسسة الصهيونية في كلاسيكيات أنشطتها واستراتيجياتها.

    على السلطة الفلسطينية التحقيق في المسألة، وعليها أن تضع النقاط على الحروف، وتجلّي الأمر برمته، وتقطع الشك باليقين، وتتثبّت من أنه فعلا قد وافق أبو سيف على ترجمة الرواية وطباعتها في هذه الدار ذات التوجه العدائي الذي يعادي وجود الشعب الفلسطيني، ويضرب نضاله وحركته المستمرة للتحرر والتحرير، وإن ثبت فعلا تورطه لا يُكتفى بإقالته، بل محاكمته، لأنه يعزز من منظور ما الرواية الصهيونية بدعم سياستها، ويكون قد خان الوطن والمبادئ التي أقسم عليها. فلا يجب أن ينظر إلى أبو سيف على أنه كاتب أخطأ، بل لا بد من أن يعامل معاملة مسؤول أجرم وخالف ما هو مكلف فيه من أصله، إنْ فعلا ثبتت موافقته على الترجمة، هذا إن كانت السلطة جادة في تحقيق الرواية الفلسطينية وتعزيزها كما تدعي بخطابها المعلن، وكذلك إن لم تسع حركة فتح- كون أبو سيف أحد أعضائها- من التغاضي عن الموضوع واستتفاهه، والتجاوز عنه ليمر بسلام كأن شيئا لم يكن.

    كما أنّ على اتحاد الكتاب الفلسطينيين أن يستنكر هذا الفعل الحرام الذي يقوّض "الرواية الفلسطينية" ويصدر بيانا واضحاً وهذا أقل المفروض عليه، ويطرد أبو سيف من عضويته، ومقاطعة وزارة الثقافة ما دام فيها، بل عليها تدشين حملة من الكتاب والمثقفين لنزعه عن كرسي الوزارة. وألا يتم التهادن مع هذا المسألة الخطيرة، مع أنه في غالب الظن ستكون قيادة الاتحاد أجبن من أن تتخذ مثل هذا الموقف العملي، فهي لا تتقن إلا صياغة العبارات الإنشائية الخاوية من المعنى، يحسبها الظمآن ماء فإذا هي سراب محض.

    كما يجب على الكتاب جميعا اتخاذ موقف حازم من أبو سيف في حال ثبت تورطه في هذه المسألة، ولا يصح أن نتعامل مع المسألة بالمصلحة الشخصية، فثمة قضية كبرى رضي المثقفون بحملها، وهي حراسة الوعي، فليكونوا إذن على قدر هذا الحمل.

    لا يكفي أن يتحدث بشير شلش بهذه القضية وحده، بل هذا واجب علينا جميعا، ومن مهامنا الوجودية ما دمنا مشاة نعبر الطريق إلى فلسطين المحررة، وليس على متن رواية ترجمت إلى العبرية.

    وأخيراً، هل أبدو قد شخصنتُ الموضوع أو بدوت "فجاً" "ساذجاً" وأنا أكتب عن هذه القضية، كما ستتهمني واتهمتني سابقاً كاتبة "جبانة" فليكن، ولنكن كلنا غير مهذبين أيضا في موضوع وصف بأنه "آخر حصوننا"، فلا بد أن ندافع بشراسة عن ثقافتنا بوصفها آخر تلك الحصون قبل أن تنهار. ألا يستحق الأمر شيئاً من هذا برأيكم؟ وهل يمكن للأشخاص أن يكونوا بمنأى عن مثل هذا؟ بل إن أشخاصهم مدانة ومجرّمة، فكيف سنفصل الشخص عن فعله وقوله، وخاصة في مثل هذه المواقف التي لا حل فيها سوى الوضوح والحدة والشراسة.

    صدور ديوان على حافّة الشعر: ثمة عشق وثمة موت

    صدر للشاعر الفلسطيني فراس حج محمد في ألمانيا عن دار بدوي للنشر والتوزيع لصاحبها الأديب والأكاديمي السوداني د. محمد بدوي مصطفى ديوان "على حافّة الشعر: ثمة عشق وثمة موت"، ويقع الديوان في (246) صفحة، وتصدّرت غلاف الديوان لوحة للفنان التشكيلي السوداني محمد العتيبي، ومن تصميم الفنان بكري خضر.

    قدمت للديوان الشاعرة والروائية هند زيتوني، واصفة قصائد الديوان بأنها "إنسانيّة محمّلة بالجمال تارة والوجع تارةً أخرى". إضافة إلى "جمال اللغة وتفرّدها وجرأة الطرح والتعابير. وخاصّة في قصائده عن الحبّ والمرأة".

    لقد تنوعت قصائد الديوان بين الشعر المقفى الموزون وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، وجاءت معبرة عن كثير من القضايا المعاصرة، والهمّ الذاتي، ضمن منظومة أكبر هي منظومة العالم بكل ما فيه من أفكار وأشخاص وتشابكات وتعقيدات، وتوزعت في خمس مجموعات، جاء أولها تحت عنوان "في رعشة الريشة"، وضم (6) قصائد، يتحدث فيها الشاعر عن الشعر والإلهام، ثم مجموعة من القصائد القصيرة تحت عنوان "مُنَمْنَمات"، وضم (21) قصيدة، تناول فيها الحديث عن قضايا فكرية وجمالية وأسطورية.

    أما المجموعة الثالثة فجاءت تحت عنوان "إلّلات: محاولة جمع"، وكل هذه القصائد البالغ عددها (40) قصيدة يهديها إلى أصدقائه وإلى مجموعة من الكتاب والشعراء قديما وحديثا وإلى شخصيات عربية وأجنبية، وإلى بعض النساء، فذكر أسماء بعضهنّ، واكتفى أحيانا بالإشارة إلى بعضهنّ بذكر حرفين من أسمائهنّ أو بوصف ما يعطيه لإحداهنّ، كما ضمت هذه المجموعة بعض القصائد التي كتبتها شاعرات للشاعر حج محمد، وتمتد هذه "إلّلات" إلى قصائد خاصة يوجهها "إلى امرأة كانت هنا- امرأة عبرت دمي"، وبلغ مجموع هذه القصائد (10) قصائد، ثم مجموعة أخرى موجه لامرأة أطلق عليها اسم "صوفي"، وبلغت (15) قصيدة.

    وجاءت المجموعة الرابعة تحت عنوان "في مديح النهد"، واشتمل على (8) قصائد، وأما المجموعة الخامسة والأخيرة فضمت (16) قصيدة تحدث فيها الشاعر حول الهواجس الذاتية والعامة خلال الحجر الصحي في فترة انتشار فايروس كورونا، ولذلك فيعنون الشاعر هذه المجموعة بــ "في حبسة الكوفيد التاسع عشر".

     

    وديوان "على حافة الشعر: ثمة عشق وثمة موت" هو الديوان الثامن للشاعر فراس حج محمد، والكتاب الخامس والعشرون، بعد مجموعة من الكتب السردية والكتب النقدية، وسيكون الديوان ضمن إصدارات "دار بدوي للنشر والتوزيع" في معرض الكتاب الدولي في مدينة فرانكفورت الذي تنطلق فعالياته يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي وتستمر حتى 23 من الشهر نفسه.

    قراءة في رواية "منّ السماء/ للكاتبة غصون رحال حبّ وحرب صفاء أبو خضرة ... الأردنّ

    في روايتها "منُّ السماء" تمارسُ غصون رحال سطوتها الأدبية في سردٍ يُمعِن بالتفاصيل الدقيقة، تفاصيل الأمكنة، وتنقُلها من مكان إلى آخر، ومن حدث إلى آخر أيضاً في وصفٍ يكادُ يكون تصويرياً؛ كأنّ قلمها كاميرا توثيقية، تدخلنا في حكايات تلمس واقعاً مغموساً بالفوضى العارمة التي يعيشها العالم، من حروب واقتتال ومجازر وعذابات وهتك الخصوصيات واقتلاع الحقوق من أصحابها وكذلك الأرواح، تشيحُ الستارة عن كذبة السلام العالمي، وأنّ الحرب ما هي إلا نار ستزحفُ صوب العدالة أينما تكون "كم قتيل وذبيح ينبغي أنْ نحصيَ قبل أنْ يتغيّر العالم؟"

    ويبدو أن الكاتبة أسقطتْ مهنتها كمحامية في الرواية من حيث موسوعية الأفكار وطريقة طرحها وانتقادها للأحزاب والتنظيمات، ولا تخلو طريقتها في السرد من انتقادات لاذعة تشي باحترافية الفكرة ونمذجتها بحيث تخدم الموضوع...كما دمجتْ (فانتازيا) ظاهرة في كثير من مقاطع العمل، وظهر ذلك في مقطع "بعض الحِيل السحرية التي تـُمكّنني من خلع رأسي ووضعِه جانبًا، قبل الذهاب إلى النوم".

    وإذا ما التفتنا إلى العنوان سيتبادر إلى أذهاننا مباشرة الحلوى التي اشتُهرت بها العراق "منّ السلوى"، وإذا ما عدنا الى كلمة "منّ" بتشديد النون فهي تعود إلى "الهبة أو النعمة"، فلماذا اختارتْ هذا العنوان؟ربما أرادتْ الكاتبة أن تسقط أمنيتها بزوال الحروب والآلام وسنعرف ذلك من خلال حواراتها عبر شخصية "عهد" الناشطة السورية في مجال حقوق الإنسان واللاجئين وضحايا الحروب، خاصةً مع مديرها أو حتى في الأحلام التي راودتها في مشاهد فانتازية وغرائبية، وربما أرادتْ أن تبتعد عن التشاؤمية التي تسرّبت من ثنايا أحداث الرواية، لأننا ببساطة أمام رواية واقعية، رواية تُشبه المرآة التي تعكس ما نعيشه منذُ سنوات خاصةً في عالمنا العربي.

    وفي إسقاطٍ آخر في هذه الشخصية عندما عاشت حالة من الانفصام على الصعيد الشكلي أو الجسدي عندما كان يضع والدها الهرمونات خفية في طعامها ما أثر ذلك على أنوثتها، فهي لم تعشها كما أرادت، وأنّ أغلبية الرجال الذين تعاملوا معها، كانوا يعتبرونها رجلاً مثلهم، لكنها من داخلها المتألم من تلك الحالة، حلمت بالقبلة، والعلاقة مع الآخر كعلاقة طبيعية، تنشأ بين ذكر وأنثى، وهذا الإسقاط له تداعيات تشبه تداعيات الربيع العربي، اختلاف هوية الثورات واشتعالها على أنها ربيع بينما في الواقع تحوّلت إلى خراب عربي.

    تعجّ الرواية بالنقد اللاذع لكثير من التنظيمات السياسية والحكومات وسياساتهم، وحتى الانقسامات العربية والمحلية والإيدلوجيات، وكذلك للأمم المتحدة ومنهجيتها المتبعة. فمثلاً على لسان هاني تقول: "مشكلتنا دائماً مع مسؤولي البعثات السياسية في الأمم المتحدة يا كارمن، فهم مصّرون على جعل حقوق الإنسان كبش الفداء، لتمرير مصالح سياسية". وفي مقطع آخر: "الغريب أن مجلس الأمن لا ينعقد إلا عند استعمال السلاح الكيماوي، وكأن القتل بسلاح آخر مباح!".

    تأخذنا الكاتبة في جولة مع عدد من أبطالها وبطلاتها في بلدان متعددة من العالم الذي شهد أحداثاً و حضوراً  لتنظيم "داعش"، وألقت الضوء على جرائمهم، وخاصة في كردستان حيث اتّخذت النساء سبايا، حسب قولها وممارسات وحشية لا علاقة لهم بالإنسان والإنسانية، وليست مجرد أخبار وقصص مثيرة نسمع بها عن بعد. "الدواعش الكلاب أحرقوا تسع عشرة امرأة إيزيدية، وهنّ على قيد الحياة في مدينة الموصل، لأنهنّ رفضن أن يكنّ جواري عند مُسلّحي التنظيم".

    ولم تنس رحّال أن تلقي الضوء على القضية الفلسطينية؛ بحكم أنها قلب الصراع من جهة، وبحكم أصولها الفلسطينية، ابتداء من مخيم اليرموك في سوريا، وما حلّ به وبأهله من قتل وتدمير وتشتيت ومن غزة والمعابر والنزاع والانقسام الداخلي، وحتى بدايات الثورة الفلسطينية والشرخ الذي ساهم في انهيارها في مرحلة ما.

    وأعتقد أن الكاتبة هي الأولى- عربيا- من ألقت الضوء على عمل موظفي مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان من خلال أبطال العمل من حيث العمل الميداني والمكتبي، وبينت الضغوطات والهواجس والخطورة التي يتعرضون لها، فيما إذا كانت تقاريرهم لا ترضي الساسة، وربما أشخاص أقل نفوذا ما يجعلهم عرضة للرشوة أو الابتزاز، وما إلى غير ذلك من طرق غير شرعية تصب في نهاية المطاف إلى طمس الحقائق وتزييفها لصالح السياسة العامة عندما تتحول في كثير من الأوقات إلى موضة تتجدد حسب آخر صيحة.

    الرواية مليئة بالأحداث والأماكن والتاريخ، أقول أخيرا: إنّ غصون رحال أثقلت كاهلنا عندما جمعت كلّ عذاباتنا في رواية... هذه الرواية.


    صدور الرواية الثانية للكاتب السوري عواد جاسم الجدي

    صدر مؤخراً عن دار Inter Assist الألمانية الرواية الثانية للكاتب د. عواد جاسم الجدي (صداع في رأس الزمن). جاءت الرواية في (378) صفحة من القطع المتوسط، وتدور أحداثها في ريف الفرات الشرقي، وتتمحور على طريق الهجرة الواصلة بين مدينة الأحقاف على ضفة الفرات اليسرى وجمهورية ألمانية الاتحادية التي قصدها مئات الآلاف من السوريين؛ هرباً من براميل الموت وحمم الدمار والقتل التي توزعها (طائرات الوطن) بالتساوي إذ لا فرق بين إنسان وحيوان، طفل أو امرأة أو شيخ عجوز (في سوريا غير المستثناة).

    تتخذ الرواية بعدا توثيقيا، إذ جسدت بأحداثها المختلفة معاناة شعبٍ، أشعلت وسائل التدمير الوطنية والغازية النار فوق حياته وحضارته لا فرق بين مركز ثقافي أو مكتبة، فرن أو مدرسة، كنيسة أم مسجد. وأبرزت الرواية معاناة الهجرة والطريق الطويل بين الأحقاف وميونيخ مروراً بثلاثيتها المقدسة (الليل، البلم، البحر).

    صداع في رأس الزمن، جسدت نوعاً جديداً من الشيزوفرينيا الإنسانية، إنها (التربلفرينيا) الروائية أن يجتمع ثلاثة أشخاص في شخص، يبقى الطفل جميل العينين رغم الحزن الذي يسكنهما فلا يترك وطنه ولا يرحل، ويهاجر أسامة ابن الجرف مكرهاً يرافقه (البويهيمي الرمادي) الرفيق المناضل يسدي له النصح ويزين له العودة لحظن الوطن الذي لازال دافئاً، وبعد مفاجأتين من العيار الثقيل لا يحتمل أسامة هول الصدمتين فيقرر العودة.

    ترى ما الذي حدث ليقف البويهمي الرمادي عند المعبر بجانب الجدار الإسمنتي الكبير الذي شيده الأنصار خوفاً من تدفق المهاجرين؛ ليمنع أسامة من العودة إلى الفرات والضفاف والتفاصيل التي تجذرت في داخله ولم ترحل؟

    رواية "صداع في رأس الزمن" التي لم تنته، وصفت بأنها: "وثيقة تاريخية لأجيالٍ تعرف أنها من سورية، لكنها لم ترَ ذلك الوطن، عالج فيها الكاتب قضايا الوطن و صوّر فيها مراحل الشقاء بدءاً من الخروج من حدود الوطن، إلى المعاناة في تركيا، وطريق الوصول إلى بلاد الألمان، وما في هذه الرحلة الطويلة من شقاءٍ إن بحراً وإن براً، كما رسم لنا عقلية الشعب الألماني وطريقة تفكيره، وجاء كلُّ ذلك بحبكة رائعة أحسن فيها رسم الشخصيّات، وصنع الحدث، وقوة الحوار ومنطقيته".

    ولم أجد لقباً أطلقه على كاتبها أفضل من أن يوصف كاتبها بأنها غابرييل ماركيز العرب، فهذه الرواية ملحمة اجتماعية سياسية وطنية، لكنها بالدرجة الأولى ملحمة للرحيل والحب.

    أكراد في السجون الكردية: كرد يسجنون الكرد

                                                  أكراد في السجون الكردية: كرد يسجنون الكرد

    صدر مؤخراً للباحث الكردي المقيم في ألمانيا حسين جلبي كتاب جديد، يتناول شهادات واعترافات لعشرة معتقلين كرد في سجون الاتحاد الديمقراطي بعنوان: "أكراد في السجون الكردية" عن دار نرد للنشر والتوزيع في 200 صفحة من القطع الوسط، وبطباعة أنيقة، وهو الكتاب الرابع في سلسلة كتب الباحث عن كرد روج آفا خلال سنوات الثورة السورية،  وسلب إرادة كرد سوريا من قبل حزب العمال الكردستاني، إذ إن الباحث جلبي أحد الكتاب الكرد الأكثر جدية في تناول معاناة كرد سوريا في ظل من يعدون أخوتهم من الاتحاد الديمقراطي الجناح العسكري والسياسي لحزب العمال الكردستاني ب ك ك ، إلا إنهم جعلوا من كرد سوريا معبراً لأجندات خاصة بهم، وإن استغلوا دماء هؤلاء، إذ إن قلة من الكتاب الكرد ومن بينهم الباحث جلبي واجهوا هؤلاء بجرأة، بعيداً عن أية عاطفة، رغم أن بعض الكتاب الكرد لما يزل غير قادر على التخلص من ربقة عاطفته.

    يهدي الكاتب كتابه "إلى الذين كسروا صمت السُّجون الكُرديّة، فكان هذا الكتاب الذي أزاح الغبار عن بعض قضبانها، وإلى الذين غابوا دون أثر في غياهب تلك السُّجون، وما زالت أرواحهم تبحث عن طريق العودة، وإلى أرواح الذين فقدوا حيواتهم في تلك السُّجون، وكل من يعمل على تحقيق العدالة لضحاياها".

    يدحض الباحث وهم أخوة مستلب إرادة ذويه، ومن واجههم بالأسر والسجن والتغييب وامتصاص الخيرات بل والدماء من أجل محض أوهام. ومما جاء في مقدمة الكتاب التي تبين عالم هذا المبحث الأكثر أهمية:

    ليس مستغرباً وجود معارضين في سجون السلطات الحاكمة، في البلدان غير المستقرة، طالما أنَّ الاحتفاظ بالسلطة فيها يتم بالقوة، ويحسم انتقالها نتيجة الصراعات الدموية بدلاً من صناديق الانتخاب. لكن وجه الغرابة بالنسبة للكُرد في سوريا، الذين عانوا من عدم الاعتراف بهويتهم منذ تأسيس البلاد قبل قرن من الزمان، ومن حرمانهم من أبسط وسائل التعبير عن أنفسهم، وعدم منحهم أدنى أشكال إدارة شؤونهم، هو أن بناء السُّجون الكُرديّة وزج الكُرد فيها، سبق الإعلان عن أول إدارة باسمهم من قِبل حزب العمال الكُردستاني، وقَبل تقديم القائمين على تلك الإدارة أية خدمة لهم، درجة أن البيوت الواقعة على أطراف المدن الكُرديّة وفي قراها البعيدة، وحتى بعض الكهوف في جبالها النائية، بالإضافة إلى مقار التدريب العسكري السريّة التي أخذت بالتكاثر، استخدمها الحزب مراكز احتجاز وإخفاء وتعذيب للكُرد، قبل أن تبدأ الإدارة الحكومية السورية بالتراجع في المناطق الكُرديّة السوريّة إبّان الثورة على نظام الأسد، هذا قبل أن يستلم الحزبُ المنطقةَ وبعض سجونها من النظام، ثم يسارع إلى بناء أُخرى بعد إطلاق تسمية روجآفا عليها، وإعلانه عن الإدارة الذاتية الديمقراطية فيها، بعد ازدياد أعداد المعتقلين لديه، بما يفوق الطاقة الاستيعابيّة لمراكز الاحتجاز العشوائية والسجون القائمة، خاصةً بعد أن أضافت إدارته تهماً جديدة إلى تلك التي كانت توجَّه للكُرد عادةً، اختلقها على مقاس سياساته القائمة على الاستفراد بالسيطرة على المنطقة بأيِّ ثمن.

    ظهر مصطلح (الأكراد في السُّجون الكُرديّة) لأول مرة في سوريا، في التظاهرة التي شهدتها مدينة القامشلي في السادس والعشرين من آذار 2013، بدعوة من إئتلاف حركات شبابية يُطلق على نفسه (كلّنا لمناهضة الخطف)، للاحتجاج على تصاعد عمليات الخطف والاحتجاز والإخفاء والضرب بحقّ ناشطي الثّورة من الكُرد، التي وقف حزب العمال الكُردستاني وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي مع أذرعته العسكرية والأمنية وحتى المدنية وراءها. توجهت تلك المظاهرة نحو منزل الشّاب أحمد فرمان بونجق، الذي اختُطف على أيدي مجموعة ملثّمة، تبيّن بأنّها تابعة للحزب، ثم جرى قتله في وضح النهار بعد وقت قصير من الإفراج عنه، وأصبح المصطلح متداولاً على نطاق واسع، مع ازدياد أعداد النشطاء الكُرد في سجون الحزب، خاصةً بعد رفعه في المظاهرات التي جرت بعد ذلك بأيام، وأوسعها تلك التي شهدها حي العنترية من المدينة، والتي حوّلها منظموها إلى (اعتصام تضامني مع المختطفين الكُرد في السّجون الكُرديّة)، في إشارة إلى النّاشطين الكُرد المحتجزين في معتقلات حزب الاتحاد الديمقراطي.

    إن قصص الاختطاف والاحتجاز والتعذيب التي يتناولها هذا الكتاب، هي لكُرد ناجين من سجون حزب العمال الكُردستاني، تحدّث أصحابها عبر مقابلات حصريّة أجريتها معهم، عن بعض ما جرى لهم وهم تحت وقع صدمة مضاعفة، بسبب اعتقاد كثيرٌ منهم حتى لحظة اعتقاله، بوجوده بين أيدي كُردٍ مثلهم، أخوةٌ لهم، كانوا معاً ضحايا سياسات طويلة من القمع والإنكار القومي، دفع وقعها الثقيل وضياع الأفق واليأس كثيرين إلى تمنّي أيّ شكل من أشكال الحقوق، حتى إذا كانت في صورة سجّان كُردي وعلى يديه، توهّموا بأنّه سيعمل على رفع الظلم والإنكار عنهم، وتحقيق حقوقهم القومية وحتى أحلامهم الشخصية، هذا قبل أن تعيدهم صنوف التعذيب التي مورست عليهم إلى الواقع الذي يقول: إن سجّان البيت يعاني من الأميّة القوميّة ولن يكون بالتالي المُحرِّرَ من العدو الخارجي، ذلك أن ما تعرضوا له في سجونه تجاوز ما شهده بعضهم، أو علموا بوقوعه للكُرد في أقبية أجهزة مخابرات تعاديهم، وقد عزز مثل هذا اليقين، اختفاء آثار بعض المحتجزين إلى الأبد، وتوالي ظهور صور آخرين قُتلوا تحت التعذيب في سجون الحزب، والذين كانت روايتهم الوحيدة عما تعرضوا له، هي آثار التنكيل الذي ظهر على جثثهم، ولعل قصة الشاب حنان حمدوش من عفرين، والذي سُلِّمَتْ جثّتُه المشوّهة في اليوم التالي لعرسه، والشاب أمين عيسى من الحسكة، وهو والد طفلين، استخدم الحزبُ تقاريرَ طبية كاذبة لإنكار ما ظهر على جثته من آثار تعذيب وحشي، هما مثالان على مئات حالات القتل، وما يمكن أن يكون تعرض له مخفيون قسريون على أيدي الحزب.

    يضمُّ هذا الكتاب بين دفتيه، عدداً من قصص التعذيب الذي مارسه حزب العمال الكُردستاني على عددٍ من الكُرد، من بينهم نشطاء ثوريون وإعلاميون وسياسيون وعسكريون، لها طابع توثيقي مثلما هو قصصي، يروي فيها الضحايا، وبعضهم ممن لا يزال حريصاً على إخفاء هويته، علماً أن المطاف انتهى بمعظمهم إلى خارج البلاد، ما تعرضوا له خلال احتجازهم في معتقلات الحزب، في بدايات سيطرته على المناطق الكُرديّة السّورية، وبعض وسائل التعذيب التي استخدمها عليهم، ويُعتبر الكتاب بذلك صورة لأحد الجوانب المسكوت عنها في الوضع الكُرديّ، وأبعد من ذلك، وثيقة عن الانتهاكات التي تعرض لها الكُرد بأيادي كُرديّة.

    إن دوري وأنا أستمع إلى القصص المرعبة الواردة في الكتاب، وأشكر بالمناسبة أصحابها على الثقة التي منحوها لي، وقلوبهم الكبيرة التي فتحوها رغم الآلام التي تعتصرها، لم يكن سوى تدوين الشهادات التي قدموها، والتي تُبيّن شجاعتهم في مواجهة ما جرى لهم، رغم صعوبة التجربة التي مروا بها، وما فيها من لحظات ضعف إنساني، وربما ساعدهم في ذلك بالإضافة إلى إرادتهم، كون الحزب في بداياته وقتها، ولم يكن ذهب في تعامله إلى أقصى الحدود بعد، حسبما يستدل عليه من الشهادات، بل كان يهدف إلى التهويل، لتخويف الضحايا وتحييدهم وإخضاعهم، وحتى محاولة تجنيدهم في صفوفه.

    ويذكر أن لوحة غلاف الكتاب للفنان ديلاور عمر، والغلاف من تصميم فايز عباس.

    مقداد مسعود : (سبعة أصوات) للروائي محمد عبد حسن

    عن دار أمل الجديدة/ دمشق، ومنشورات عبد الكريم السامر: العراق – البصرة: صدرت (سبعة أصوات) الرواية الجديدة للقاص والروائي محمد عبد حسن. وهي التجربة الروائية الثالثة.. الأولى كانت روايته (سليمان الوضاح) الفائزة بالجائزة الثانية في 1996 مسابقة رابطة الكتّاب الأردنيين/ لغير الأعضاء. و(خرائط الشتات) هي الثانية/ دار ضفاف – بغداد – الشارقة في 2014. وله في القصة القصيرة (الطوفان وقصص 


     

    صدور كتاب جديد للأديب المغربي الدكتور مبارك ربيع بعنوان المدرسة والذكاء / عبده حقي

    صدر للأديب المغربي والباحث في علوم التربية والتعليم الدكتور مبارك ربيع كتاب جديد موسوما ب "المدرسة والذكاء " ومما جاء في كلمته على ظهر الغلاف : يتبلور التوجه في العمل على بناء الذكاء، باعتباره جملة التجليات الإنسانية الذهنية الحركية الوجدانية عبر كل ما يقدم للمتعلم أو ياتيه من فعالية تعلمية بدون ستثناء، بإشراكه ومشاركته حصريا بما يعني أن كل لحظة مدرسية، تمثل مكسبأ تعلمية، أي تقدم في نوعية في ارتقاء الذكاء، لا مجرد أن يكون في مستواه فحسب، فأحرى أن يقل عن ذلك








    نسوة فراس حج محمد في المدينة غير الفاضلة / هيثم جابر/ سجن النقب الصحراوي

    منذ أن تعرّفت على صديقي الأديب الناقد والشاعر والباحث فراس حج محمد، وأنا لا أوفر فرصة اصطياد كتبه وقراءتها بتمعن وروية واستمتاع. أرسل جنودي وعسسي ورجال مخابراتي الثقافية والأدبية والفكرية في كل مكان وفي كل اتجاه للبحث والتنقيب عن كتابات فراس حج محمد، حتى تعرفت عليه وتشرفت بمعرفته فوفر ذلك علي عناء مطاردة كتبه في المكتبات ودور النشر.

    بت أطلب مؤلفاته منه شخصيا إذا ما قام وأصدر مؤلفاً جديداً، وفراس ذو باع طويل وصبر كبير على جلد الكتابة وإصدار المؤلفات القيمة التي أضافت وتضيف الكثير للثقافة العربية عامة والفلسطينية خاصة.

    قرأت الكثير من مؤلفات الأديب الكبير فراس بمتعة كبيرة، ولا أبالغ إن قلت إنها أنارت لي شمعة جديدة في ظلمة السجن، وزودتني ببعض الدفء خلف جدران الصقيع، وفتحت مداركي على عوالم كنت أجهلها، اتفقت معه في الكثير مما قرأت له من مؤلفات، وعارضته في أخرى، وإذا ما عارضته في فكرة ما، أو نص ما، أو مضمون أحد هذه الكتب، كنت أبادر بالتواصل معه ومناقشته فيما عارضته، وهو بدوره كان يتقبل نقدي وملاحظاتي بصدر رحب وروح رياضية عالية، وأرجو أن يتسع صدر صديقي الكاتب الكبير فراس حج محمد لرأيي وما سأسجله هنا في مؤلفه "نسوة في المدينة" الذي تناول العلاقات غير المشروعة في الوسط الأدبي والثقافي في العالم الافتراضي، خاصة على صفحات الفيسبوك، وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي.

    في الحقيقة شعرت أن هذا الكتاب مختلف تماماً عن مؤلفات الأستاذ فراس حج محمد، لم أشعر بتلك المتعة المعهودة التي كنت أشعر بها وأنا أطالع كتبه السابقة من نقد أو شعر أو نثر.

    بدا لي أن هذه القصص كان فيها شيء من المبالغة في الوصف والتفصيل بطريقة تثير الغرائز والشهوات، وخاصةً أعضاء المرأة التناسلية ومفاتنها، ووصف بعض العلاقات والممارسات المحرمة والتفصيل فيها، شعرت أن هنالك كلمات مصطنعة مكررة، ولولا معرفتي الكبيرة برجل مربٍ وخلوق مثل الأستاذ فراس حج محمد لقلت إن هذه القصص هدفها إثارة الشهوات والغرائز فقط.

    فقلت رأيي للكاتب الكبير فراس ومعارضتي لمثل هذه القصص وهذا الأسلوب في الكتابة الأيروتيكية، وبهذا الشكل، خاصة في الأعمال النثرية، ربما لو استُخدمت ألفاظ مفاتن المرأة في الشعر لكان الأمر مختلفاً؛ لأن أي عضو أو جزء من جسد المرأة له دلالته الشعرية والرمزية، فالنهد هو عنوان الحياة والعطاء والاستمرارية في هذه الحياة، والخدّ عنوان من عناوين الجمال وهكذا. وأنا لا أرى أي صور جمالية أو فكرية من تصوير عملية جنسية بكل تفاصيلها أو أوضاعها في كتاب يستهدف مجتمعا عربيا محافظا ومسلماً، ولو صنف هذا الكتاب أنه كتاب جنسي، يستهدف الشباب من أجل هدف تثقيفي وتوعوي لكنت تفهمت ما جاء في الكتاب من وصف مبالغ فيه وصريح لا يخلو من الإثارة والتهويل.

    عندما أخبرت الأستاذ فراس برأيي في هذا الكتاب أخبرني أن هذا واقع، ويحدث كل يوم على صفحات التواصل الاجتماعي، والمصيبة الكبرى أنه يحدث بين فئات الطبقة المثقفة، وهو أراد تعرية هذا الزيف وكشف هذا السلوك، وأنا أصدّق الأستاذ فراس ومقتنع بصدقه ونواياه ولا أشكك في مصداقية صديق عزيز وكاتب كبير ومربٍ جليل، لكن ليس كل شيء شاذ وسلبي تستطيع نشره أو اعتباره ظاهرة. الدعارة أقدم مهنة في التاريخ ومع ذلك تبقى ممارستها منبوذة، وسلوكاً منبوذاً يمارسها من يمارسها في الخفاء وخلف الأبواب المغلقة ولا يخرج للعلن؛ كي يبقى عظيماً ارتكابه، ولا يصبح عادة يومياُ يستهين بها البشر، وبالتالي استسهال هذا الفعل الشنيع. فلا يجوز للكاتب والمثقف أن يسمع بأن تشيع الفاحشة في المجتمع ووصف أي سلوك منبوذ وخاطئ على أنه ظاهرة، وينبغي معالجتها، لذلك أعارض الأستاذ الكبير في هذا أيضاً.

    ربما لو كان الأستاذ فراس يبحث عن الشهرة والأضواء والانتشار لقلت إنه كتب هذا الكتاب من أجل إثارة الناس عليه، وبالتالي إثارة ضجة كبيرة حول الكتاب من أجل الشهرة والترويج للكتاب وإقبال الناس على اقتنائه وزيادة الطلب على الكتاب. فقد لجأ مؤخراً الكثير من الكتاب لمثل هذا الأسلوب؛ الكتابة في الأمور الجدلية والمس بها من أجل إحداث ضجة كبيرة حول المؤلَّف والكاتب، وبالتالي إكسابه شهرة كبيرة والشواهد على ذلك كثيرة، لكن لا أريد أن أذكر أمثلة، لأنه لا مجال للمقارنة بين هؤلاء وبين كاتب كبير صادق مثل الأستاذ فراس حج محمد.

    الأستاذ فراس ليس بحاجة للشهرة واسمه يسبقه دائما، صاحب اسم كبير في عالم الأدب والشهر والنثر والنقد تزخر المكتبة العربية بكتبه وإبداعاته فقد كتب أكثر من أربعين كتاب أثرى بها الثقافة والأدب والنقد والدراسات المهمة. فراس غنيّ عن الشهرة والأضواء، لأنه قامة أدبية وفكرية كبيرة، لكن أعتقد أنه اجتهد وله حق الاجتهاد، وحق إبداء الرأي، وله الحق فيما يكتب وفيما يبدع، وكذلك لنا الحق أن نعارض رأيه.

    أعتقد أنه أخطأ في علاج مثل هذه السلوكيات المنبوذة التي لا تصل بأن تكون ظاهرة. الدعارة والزنا والسلوكيات الخاطئة موجودة في كل المجتمعات، تبقى خاطئة في الظلام، وبالتالي إهمالها وتجاهلها هو العلاج حسب اعتقادي، ربما أختلف مع صديقي فراس في "نسوة في المدينة"، لكن هذا لا يمنع أن أسجل هنا أن الأستاذ فراس كاتب وشاعر وأديب وناقد كبير، وله باع طويل في عالم الأدب وأضاف الكثير للأدب العربي المعاصر، ويستحق أرقى وأثمن الجوائز الأدبية والثقافية للإبداع على مستوى الوطن العربي.

    وهنا أستذكر مقولة أفلاطون: قد أعارضك في كل ما تقول، لكنني مستعد للقتال من أجل أن تقول ما تقول. أنا أعارض الوصف والإثارة في قصص "نسوة في المدينة"، لكن أيضاُ لا بد لي أن أشير أن لغة الأستاذ فراس في كل مؤلفاته الإبداعية لغة تأسر القلوب والعقول، والبنية السردية والنثرية لا تقل جمالاً وبهاءً عن مثيلاتها في البناء الشعري والجمالي لدى الأستاذ الكبير فراس، وكما أسلفت هذا مجرد تسجيل رأي ولست ناقداُ أو باحثاُ بحجم الأستاذ الكبير فراس حج محمد. أتمنى أن يتسع صدر صديقي الكاتب الكبير لهذه المقالة المتواضعة.


    حول كتاب حطموا جمود الشعر .. للشاعر الكبير محمود حسن / د. محمد بكر البوجي

     كتب الدكتور محمد بكر البوجي ... رئيس جمعية النقاد الفلسطينيين

    حول كتاب حطموا جمود الشعر .. للشاعر الكبير  محمود حسن

    صادر عن دار شعلة في القاهرة ..

    الكتاب تنضيد وتنسيق الشاعرة الراقية أسماء جلال

    ندرك من العنوان  أن المشهد الشعري العربي في مراحله الأخيرة مصاب بحالة من الجمود .  صاحب الكتاب يرأس أهم مؤسسة شعرية في مصر وهي مؤسسة الكرمة  التي استضافت معظم الشعراء في مصر  والوطن العربي  بل ومن شعراء أفريقيا . ينضوي تحت جناحها شعراء ونقاد كبار يسهمون  دوما في إنعاش المشهد الشعري والنقدي ، شارك كاتب السطور في بعض أمسياتها .  تفتخر مؤسسة الكرمة أنها أسهمت بصورة واضحة في إدخال الأدب الرقمي بل والنقد الأدبي الرقمي إلى المشهد  الثقافي في  مصر من أوسع لبوابه ، عملت الكرمة مع انتشار وباء كورونا على التواصل مع معظم شعراء العربية ونقادها في الوطن العربي وكانت على مدى شهور  تشعل الفضاء الأزرق بصوت الشعراء من مصر ولبنان وسوريا والجزائر وفلسطين وكل أنحاء الوطن العربي . كان المشهد يستمر ساعات طوال ولأيام عدة ثم يستمر بصورة أخرى . أقول كان لمؤسسة الكرمة وأعضائها الفاعلين الفخر في نشر وتفعيل الحركة الأدبية والنقدية طوال فترة الإغلاق التي استمرت أكثر  من عامين ، وقد اشرت إلى هذا بتوسع في كتابي ، النقد الأدبي الرقمي، كتاب  جمود الشعر شهادة  عصر أدبي جاءت من قلب المشهد الشعري ، شاعرنا المؤلف أحد صانعي هذا المشهد ومحركه ،  شهادة تحفظها  الأيام والسنون وتكون مصدرا للدارسين والباحثين في المستقبل .
     نفهم من العنوان أن ما يقال من شعر على مجمل  الساحة العربية  يعبر عن جمود الشعر وعدم تطوره  بل وتراجعه إذا أردنا دقة التعبير ، شاعرنا مؤلف الكتاب يضع إصبعه على أهم أسباب هذه الحالة ، بأننا لا زلنا نكرر ما فعله شعراء منتصف القرن العشرين . نحن الجيل المعاصر تحملنا مسؤولية الشعر ومسؤولية تطوير النص شكلا ودلالة .  ربما من أهم الاختلاف بين المناخين السابق والحالي ،  مناخ ا لخمسينيات والستينيات كان مناخ ثورة وتغيير ، حالة استعمارية جثمت على صدر الوطن العربي ، كان الشعر أداة ثورية صادقة ، كان الفكر القومي العربي الذي يدعوا إلى الوحدة العربية هو أساس هذه الحالة والدعوة الصارخة نحو التطور العلمي والاستقلال واستخدام الثورة المسلحة  وسلمية الشعوب . هو أساس مضمون الشعر ، بخلاف المناخ الحالي  فقد سيطرت أفكار ليست ثورية بل نقول هي أفكار ردة تدعوا إلى التقوقع والعودة إلى الذات  التراثية ، صار التراث مقدسا والشعر الخليلي هو المقدس ومن يخرج عليه مشكوك في ذمته ، أدى هذا إلى عودة الشعر إلى عصر البارودي  بصورة أقل جودة  وتكرار واضح و ممجوج . أدى انتشار المد  الديني في المرحلة الأخيرة إلى التراجع  في كل شيء ثقافي وفني ونفسي ، حتى أداء مسرح  البالون في مصر قد تراجع بصورة كبيرة ، لقد تراجع الذوق العام والشعور العام والأفق العام إلى فكر لم يعد يناقش عصرنة الحياة ، أيضا تراجع الحكومات في احترام الكاتب وانتاجه ، فلم  تعد تطبع وتمنح الكاتب مقابلا يعوضه عن سهره وتعب الإبداع . الكتاب يطرح عشرات القضايا الناقدة وكل قضية تحتاج إلى كتاب مستقل ، مثل قضية الشعر والواقع :  ليس من مهام الشاعر أن يعالج الواقع وأن يضع حلولا، لكن الشاعر بطبعة هو ابن بيئته حتما ستكون صورته من البيئة وأفكاره ومخيلاته ولغته ، الأدب هو نتاج  بيئة الأديب،  نتاج تجارب شخصية ومجتمعية وأحداث وسلوكيات وأفكار مجتمعه ، لن  يستطيع الخروج عنها حتى لو حاول ، لن يستقيم ادبه ،  لكن هناك قضية الالتزام ، لا يستطيع أحد الزام الأديب بفكر معين أو أسلوب معين . هنا ياتي دور المتلقي الناقد في أن يعتني بما هو أقرب إلى وجدانه وفكره ، قد لا يلتفت إلى نصوص تطرح قضايا لا تمس نبض المجتمع ، هناك كاتب روائي فلسطيني  أصدر رواية تطرح موضوع الماسونية والدين دون ربطها بالقضية الفلسطينية ، لم يلتفت إليه أحد من كبار النقاد لأنها ليست موضوعنا،  نحن نعيش حالة نادرة في الظلم والعدوان الذي هو أصلا الموضوع الاول والأخير  للأديب في فلسطين. 
    موضوع آخر يطرحه المؤلف : وهو موضوع المصطلح النقدي المتداول الذي  يشوبه الغموض  وعدم ضبط الدلالة حتى عند مجمل النقاد ، بعضهم يستخدم المصطلح كما هو في بيئته التي أنتجته دون محاولة تعريبه ، مثل مصطلح ، الهرمونيطيقا ، الذي هو اصلا علم  تفسير الكتاب المقدس  ،  مصطلح في بيئته مصطلح كهنوتي  نعيد توظيفه هنا كما هو ،  أيضا تعددت المصطلحات وتداخلت في مفاهيمها والسبب في ذلك تعدد مشارب النقاد ، من جاء من روسيا يستخدم مصطلحات بعينها  من جاء من فرنسا كذلك  ، ومن جاء من أمريكا أيضا كذلك ، ليس لدينا هيئة  علمية خاصة في اختيار المصطلح الفكري الخاص الذي يتلائم والمناخ الثقافي العربي، مثلا اخوتنا النقاد والمفكرون في المغرب العربي مولعون  بمصطلحات فرنسية دون ترجمتها ، لهذا نجد أحيانا صعوبة في مشاركتهم استيعاب  ما يسطرون ، دعونا في مناسبات  كثيرة توحيد المصطلح باللغة العربية سواء في الإعلام أو في النقد الأدبي ..يبدو أن  مجامع اللغة  المنتشرة في كل عواصم الوطن العربي غير معنية بالموضوع ،   هذا امر مؤسف حقا ، رغم أن الاديب الكبير  محمد عثمان جلال تلميذ رفاعة الطهطاوي وضع لنا أسس الترجمة والتمصير والتعريب وله في ذلك باع طويل .
    كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى تراجع وجمود المشهد  الشعري كما يراها مؤلف الكتاب ، نحن الآن نناقش قضايا عمرها خمسون عاما انتهى منها الأقدمون ،نعيدها الآن لأنها برأيهم تمس شرف التراث ، عدنا نتبادل الشتائم حول قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة ، انتهى هذا الموضوع من أربعين عام مضت ، صار ت الحركة الشعرية معتمدة على ثلاثة  ركائز بمجملها رافعات للحركة الشعرية  ، العمودي والتفعيلة والقصيدة النثرية ،لا نقاش في ذلك لأن كل شكل يمتلك كما هائلا من الانتاج يستحيل محوه أو تكفيره ، الآن نخضع جميعا للمد الديني سواء بإرادتنا أو بدافع غامض في ذواتنا ، نحن بحاجة إلى انطلاقة ثقافية جديدة نتجاوز ما حققه أدباؤنا قبل سبعين عاما . غضب مني أحد الشعراء عندما قلت : أننا عالة على زمن منتصف القرن العشرين ،  ازعلته كلمة ،عالة ، هل نستطيع أن نجد لها بديلا ،  أرجو ذلك عندما يتحول المشهد من جموده إلى انطلاقه في كل مجالات الإبداع من الأغنية  والباليه والنحث والتشكيلي والمسرح وفن الكلمة.  مطلوب ثورة مستقبلية تحدد ملامح عصر قادم سريع الإيقاع ، هل سنبقى على الرصيف نشاهد قطار الإبداع الكوني يسير  ونحن  ننتظر أن يتوقف حتى نفكر بالصعود. لا أحد يملك أدوات محاسبة الشاعر  لأن الشعر هو مجهود ذاتي  صرف لا أتقاضى عليه أجرا أو وظيفة هو عمل شخصي ، من حقي أن اختار الشكل الملائم لفكرتي وومفرداتي ، أنت  إنسان متطرف دينيا هذا شأنك الخاص لا تفرضه على أحد  العلاقة بينك وبين الله فقط دون ضجيج ، دع غيرك يفكر في الكون وخالقه بطريقته الخاصة ،

    معظم الشعراء الكبار  إن لم يكن كلهم لم يستخدموا الجانب الديني في إبداعاتهم للهجوم على أحد ، من امرىء القيس والمتنبي وشوقي ودرويش وأدونيس .  لا أقصد هنا شعراء الصوفية ، هم حالة إبداعية خاصة لا توازيها حالة أخرى . من أسباب جمود الحركة الأدبية عموما والشعرية خاصة كما طرحها المؤلف : هو المتلقي  المعاصر الذي تبلدت أحاسيسه بفعل التطور التكنلوجي ، هذا المتلقي تتصارع عليه كل وسائل الإعلام بأساليبها المبهرة والمدهشة  هنا يتعقد دور الكلمة في إصابة المتلقي بحالة الدهشة ، الأديب بحاجة إلى مجهود مضاعف لصناعة  تركيب لغوي وصورة شعرية لإدهاش المتلقي، يصعب الآن أن تؤدي الكلمة دورها الذي كان قبل خمسين عاما ، لهذا ينكفىء المتلقي على نفسه  ولا يلتفت إلى قراءة إبداع أدبي وأمامه ما هو اقوى وأكثر دهشة من تقنيات معاصرة . أيضا من أسباب جمود الحركة الأدبية : انتهى عهد الحكومات العربية التي كانت تطبع الكتاب الإبداعي في مؤساستها بل وتمنح المؤلف بدلا ماليا ، الآن يدفع الكاتب من جيبه الخاص من أجل طباعة كتابه ، ثم تحاسبة المؤسسات الدينية على كلمة هنا أو هناك ، وتقوم بعض دور النشر  بسرقة وتزوير الكتاب دون حياء أو خوف لأن القانون هنا مائع  لا يحمي الحرية الفكرية بسهولة .
     طرح مؤلف الكتاب شاعرنا محمود حسن قضية نقدية مؤرقة للنقاد العرب ، ألا وهي صناعة نظرية نقدية في الوطن العربي ، كنت في ندوة فكرية في القاهرة ، طرحت رؤيتي نحو نظرية نقدية بعنوان ، الطاقة والتحليل الإبداعي نظرية جديدة في النقد ،  بعد نهاية كلمتي انتفض أستاذنا الدكتور جابر عصفور قائلا : نحن لسنا بحاجة إلى نظرية نقدية لأن سمات واضع النظرية هي فلسفية كونية وليست خاصة بالنقد الادبي ، أيده في ذلك الدكتور علاء عبد الهادي  رئيس  نقابة اتحاد كتاب مصر ، لكن الدكتور  أحمد درويش أستاذ النقد المعروف في كلية دار العلوم بالقاهرة قال من حقه أن يطرح رؤيته ومن حق الوطن العربي إفراز نظرية نقدية . صدر كتابي الموسوم ، الطاقة والتحليل الابداعي نظرية جديدة في النقد، وفيه تطبيق رؤيتي على بعض القصائد الشعرية والرواية ، لكن الكتاب لم يجد اهتماما لائقا في مصر ربما يعود إلى انتشار الكورونا أو أن كاتبه بعيد عن ساحة العاصمة الثقافية  القاهرة ، ، عدم الاههتمام يذكرني بما فعله الصحفي الكبير محمود السعدني في ثمانيات القرن العشرين عندما نشر قصة قصيرة وقال  إنها مترجمة عن الكاتب الإنجليزي فلان ، بدأ النقاد الصحفيون يكتبون عن التربيع والتدوير والكلام النقدي الكبير ، بعد أيام كتب السعدني : بصراحة أن القصة من إبداعه هو شخصيا وليست مترجمة ثم كتب عن عقدة الخواجة .

     الإهداء في مدخل الكتاب يثير مجموعة قضايا من صلب النقد بل هي قضية نقدية قديمة متجددة يقول المؤلف ، إهداء إلى ناقد ليس في نفسه من المبدع شيء ، جملة من صلب النقد الأدبي لأن العلاقة بين  روح الناقد والنص علاقة مباشرة  قد يكون صاحب النص من عصر أدبي قديم لكنني أحبه من خلال نصوصه وقد يكون معاصرا وتربطني به علاقة صداقة شخصية ، رائع ذلك لأن النص سيفتح لك عروة قميصه ويمنحك ما تبتغي ، ما يقصده شاعرنا المؤلف هنا في الإهداء هي العلاقة الضدية أي أن ينتقم  الناقد في رؤيته للنص  من خلال شخص صاحبه  لاختلاف في الرأي أو المعتقد او الجنس  هنا يبتعد النقد عن  النزاهة وقد يتطاول الناقد على حيثيات النص وصاحبه ، هذا ليس نقدا  بقدر ما هو موقف سلبي  مثال ذلك موقف بعض النقاد الذين يتطاولون على نجيب محفوظ ويوسف ادريس والمتنبي والمعري  وعبد المعطي حجازي ومحمود درويش وأدونيس  لأسباب فكرية ، هنا الناقد يحاسب شخص المبدع في سلوكه وفكره ولا يتفاعل مع النص بصورة محايدة ، النقد عملية ثقافية انسانية مستقلة، الأداب والفنون تنموا وتزدهر مع الثورات والمتغيرات الجذرية وتضعف مع الركود الفكري والتبعية.

     الكتاب بحق يستحق القراءة ، يطرح كما وافرا من القضايا العالقة في صلب الثقافة العربية ، وهو شهادة من شاعر ومفكر يعده البعض محركا ثقافيا ، أقول : الكتاب سيحتفظ برونقه وسطوته عبر تراكمات الزمن . دوما هي مصر منبع المرتكزات الثقافية في عاصمة الثقافة العربية بلا منازع ، القاهرة ، سندا وعضدا للأمة العربية.

    قراءة في رواية "نوار العلت" بقلم د. لينا الشيخ حشمة

    يافا حلمٌ في ظلال الواقع"-

    قراءة في رواية "نوّار العلت" للكاتب محمّد عليّ طه

    بقلم: لينا الشيخ- حشمة

    "نوّار العلت" رواية سياسيّة بالدرجة الأولى، تؤكّد العلاقة بين الأدب والسياسة والواقع. كيف لا والكاتب الفلسطينيّ مأزوم بالسياسة؟! مأزوم بها لأنّ مكانه بوتقة من الصراع السياسيّ، مكانه هو قضيّته وقضيّة وطن ووجود.  هي رواية ترصد الواقع السياسيّ الذي تعيشه الأقلّيّة الفلسطينيّة في إسرائيل دون أن تغفل عن واقعهم الاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ. تحصر الأحداث في العقود الأخيرة فتكشف معاناتهم اليوميّة والواقع المعيش وصراعاته. تصوّر رحلة الحياة بين البحث عن الذات وشرعيّة الوجود والبحث عن لقمة العيش.

    تقوم الرواية على جدليّات التضادّ، كاليمين مقابل اليسار، الذات والآخر، المدينة والقرية، الحبّ والبغض، الحياة والموت وغيرها. وهي تضادّات تنبثق بالأساس من الصراع بين الفلسطينيّ والإسرائيليّ. فلمّا كان واقعنا يقوم على صراع سياسيّ فإنّ حبكة الرواية تقوم على هذا النزاع والمواجهة بين الطرفين. فيضع الكاتب الطرفين أمام مرآة الذات كاشفًا أسباب العداء ومشاعر كلّ طرف وأزمته مع الآخر. كما يرصد اليهوديّ بصراعاته ورواسبه والجانب الإنسانيّ فيه، مصوّرًا علاقته مع العرب، والعلاقات بين اليهود أنفسهم حيث يوظّف شخصيّات يهوديّة من أصول مختلفة لإظهار الصراع بين الأشكناز والشرقيّين والكشف عن نظرة كلّ فئة منهما للعربيّ، ثمّ يتناول ازدياد تطرّف اليمين مقابل تراجع اليسار الذي بات يعتبر تهمة وشتيمة.  

    يحبك الكاتب روايته من التضادّ بين حلم منشود وواقع موجود. فيحلم بالسلام وانتهاء الاحتلال وشرعيّة الوجود. لكنه لا يطلب من الفلسطينيّ تنازلًا أو تذلّلًا لإرضاء الآخر. لم يطلب منه تنازلًا عن قوميّته أو هويّته.  فإنّ بحث عن مصالحة فلا يطلبها إلّا في نطاق الاحترام المتبادل واحترام التقاليد والتراث وشرعيّة الوجود. وهذا ما كانت تجسّده علاقة يافا بسمير. فالحبّ بينهما معادل موضوعيّ للعلاقة السياسيّة بين الشعبين، للسّلام المسكون بالمحبّة الإنسانيّة والعدل والاعتراف بالآخر وانبثاق الحياة. وحتّى يتمّ ذلك يجب أن تكسر الحواجز ويكون اللقاء والانكشاف والتنازل عن الآراء المسبقة والاعتراف بحقوق الآخر. أمّا حبّ نفتالي اليمينيّ المتطرّف فإنّه حبّ يصنع قاتلًا متطرّفًا شرسًا يقتل الأحلام والمستقبل. إذًا يعرض الكاتب المشكلة والحلّ. والحلّ موجود لكنّه مشروط. وهو ليس مشروطًا بالطرف العربيّ الذي قدّم تنازلات جمّة بقدر ما هو مشروط بالإسرائيليّ. لكنّ الكاتب على ما يبدو مقتنع بأنّ الحلّ الحلم في ظلال هذا الواقع، وفي ظلّ ازدياد الصوت اليمينيّ المتطرّف، ليس بالأمر القريب.

    ومن جانب آخر يرصد الكاتب معاناة الأقلّيّة العربيّة من العنف والجريمة، حيث الشرطة تتعامل معها من منطلق "بطّيخ يكسّر بعضه"(ص38). والحلّ لهذا كما يؤكّده الكاتب هو الثقافة والعلم ونبذ الجهل والتخلّف، كقول صبري: "العلم هو الذي سوف ينقذنا من التخلّف"(ص32). فكان بيته مثالًا يوتوبيًّا، إذ قالت الأمّ فاطمة: "بنينا هذا البيت على الحبّ والكرامة والاستقامة. أولادي لا يكذبون، ولا يسرقون، ولا ينافقون"(ص231). تبنّى بيتها العلم والثقافة وحرّيّة الرأي وحقّ الاختلاف. وكأنّي بالكاتب يهمس صارخًا: "كيف نستطيع التعاطيَ مع الآخر الذي يدّعي أنّنا شعب متخلّف جاهل ونحن نقتل بعضنا بعضًا؟ وكيف نستطيع الصمود إذا لم نكن ندًّا قويًّا مثقفًا قادرًا على الحوار دون التنازل عن حقّه"؟! على المجتمع العربيّ إذًا أن يتخلّص من أمراضه الداخليّة حتّى يبرأ جسده ويعزّز وعيه فيقوّم لسانه ويده. وحينها سيفوّت الفرصة على الشرطيّ الساعي دومًا لأن يجعل منه المتّهم والقاتل، مثلما فعل كلّ من أحمد وسمير في الرواية.

    تختلف صورة العربيّ لدى الإسرائيليّين بحسب الوعي الفكريّ والسياسيّ، لكنّ الكثيرين يعتبرونه عدوًّا، مُتخلّفًا، مُخرّبًا و "العربيّ القذر". فيدافع الكاتب عنه مختارًا شخصيّات أكاديميّة مثقّفة تتفوّق على الآخر المدجّج بالقوّة والشعور بالأفضليّة بأخلاقها وحبّها. فسمير كان قادرًا على صنع الحياة وتطهير حبيبته يافا من أدران البغض. بينما تمرّغ عشق نفتالي بكراهيّته التي قادته لقتل حبيبته من أبناء جلدته. ممّا يذكّرنا بقتل رئيس الحكومة "إسحق رابين". يظهر العربيّ في الرواية بصورة الرجل الذي يحترم المرأة ويقدّرها. ويتناقض هذا مع ادّعاء والد يافا الذي يرى بالمجتمع العربيّ ذكوريًّا يقتل النساء بحجّة "شرف العائلة"، فرأت يافا في سمير حبيبًا شريكًا يقدّرها كامرأة وإنسان، بخلاف نفتالي الذي اعتبرها قطعة من ممتلكاته، فيقتلها حين تتركه ويلصق التّهمة بحبيبها سمير، فما أسهل اتّهام العربيّ!

    يؤكّد الكاتب على دور الثقافة في تطهير الوعي ورقّيّه كضرورة لصنع التغيير عند الطرف الآخر أيضًا، فيختار أن تلتقي يافا بنفتالي خلال خدمتها العسكريّة حيث يحرّضها على الفلسطينيّ بكراهيّته السوداء. أمّا لقاؤها بسمير فيكون خلال دراستها الأكاديميّة فتعيش معه قصّة حبّ إنسانيّة أرقى.  وحتّى يؤكّد الكاتب قناعته هذه يجعل أوري ضابط الشرطة غير مستعدّ لقراءة أيّ كتاب، فيمسي رمزًا للجهل والغباء، الجهل الذي يقود للعنصريّة والعنف، والغباء الذي يعزّر شعور النقص لديه فيغفل عن خيانة زوجته.

    حين عرف سمير يافا كانت تحمل أفكارًا سيّئة عن العرب وتحمّل الفلسطينيّين استمرار الصراع معتقدة كمعظم الاسرائيليّين أنّها تملك الحقيقة(ص135)، لكنّه ينجح بتغيير أفكارها ويزيل الرواسب من عقلها فتغدو أكثر قدرة على تقبّل الآخر وحبّه واحتوائه. علّمها سمير حبّ الحياة، فأدركت كيف تكون الحياة ضدّ التطرّف والموت فتترك نفتالي وتزور قريته وتنام في بيتهم. يافا هي الشخصيّة الإسرائيليّة الوحيدة في الرواية التي تغيّر وجهة نظرها إزاء العرب. لم توافق سمير على آرائه كلّها لكنّهما تناقشا من منطلق محاولة الإقناع وشرح الموقف، ولم يفسد اختلاف الرأي المودّة والحبّ بينهما. كان سمير يؤمن أنّ لقاءها بأمّه الحلّ لصنع الحياة. كان يقول: "أنت وأنا سنشرق غدًا جميلًا"، "عندما نلتقي معًا تختفي عقود من الكراهيّة"، "فتستقلّ الدولة الفلسطينيّة، وتحلّ قضيّة القضايا"(ص241)، فتردّ: "أنا وأنت سنغيّر العالم". ينجح سمير ويافا في اليوتوبيا التي رسمها الكاتب على الورق بتوحيد عالمين متصارعين، لكنّ نفتالي المستوطن المتطرّف ينهب الحياة ويقتل الحلم بقتل يافا. ممّا يعني أنّ الكاتب يتراجع مؤكّدًا غلبة الواقع على الحلم، على الرغم ممّا تعد به روايته من أمل!  

    لم تمثّل الشخصيّات ذاتها لذاتها بل هي سيميائيّة رمزيّة. كما كان اختيار أسمائها موفّقًا ومدروسًا. فلمّا كانت الرواية تدور وفقًا للمعطيات النصّيّة في بداية القرن الحادي والعشرين كانت فاطمة في الستينيّات. واسم فاطمة اسم عربيّ تقليديّ. وفاطمة المهجّرة من الطنطورة رمز للأرض والأقلّيّة الفلسطينيّة التي بقيت تعيش هنا وعانت كذلك من التشرد والتهجير الداخليّ. وهي تمثّل التغيير الحاصل على هذه الأقلّيّة، فلم تكن ربّة منزل ولا فلّاحة مثلما كانت صورة المرأة الفلسطينيّة في قصص المراحل الأولى، بل يجعلها الكاتب معلّمة مثقّفة متقاعدة، ربّت أولادها على طلب العلم وحبّ القراءة، تحدّثت العبريّة وناقشت يافا. ولمّا كان الزوج/ الأب رمزًا لسلطة الدولة فإنّ فقد فاطمة لزوجها صبري يعني فقدها لسيادة دولتها الفلسطينيّة. لذا أصرّ الكاتب على ذكر العبارة "سمير يتيم الأب ويافا يتيمة الأمّ"، أي سمير ابن لفاطمة الأرض والأقلّيّة الفلسطينيّة التي أصبحت تحت سيادة الدولة اليهوديّة، وهو جزء من الشعب الفلسطينيّ الذي فقد دولته، وينتمي للقوميّة العربيّة. أمّا يافا فهي بلا أمّ لأن إسرائيل هي الدولة اليهوديّة الوحيدة في العالم.

    ليس المطلوب في المصالحة التي يريدها الكاتب بين الطرفين أن تتزوّج فاطمة فتنسى قوميّتها العربيّة الفلسطينيّة، فحين تسأل يافا سميرًا: "ماذا لو عرّفنا والدي بوالدتك؟" يردّ: "أمّي لن تعرف رجلًا بعد أبي"(ص217)، أي لن تتزوّج فاطمة من يوسف فتضطرّ لتغيير هويّتها. لن تتنازل عن هويّتها الفلسطينيّة العربيّة وستبقى على تراثها متمسّكة بأرضها. لذا قالت فاطمة ليافا: "نعيش معركة البقاء. نريد أن نعيش بهدوء وبكرامة وبمساواة"(ص231).

    وإذا دلّ اسم صبري على الصبر، دلالة صبره على قضيّته الفلسطينيّة التي لمّا تنته، فسمير يثير لدى يافا التساؤل حول هويّة حامله، بخلاف اسم أحمد. ويأتي اسما أحمد وسمير مناسبين لفكريهما وتوجّهاتهما. ويرمز "يوسف أهروني"، والد يافا وضابط الجيش، لدولة إسرائيل وحكومتها التي تقبل علاقة يافا بسمير على مضض، لكنّه يعترف بأنّه "لا يكره العرب لكنّه لا يثق بهم". كما اعترف بأنّه "يحقّ للعرب أن يكرهونا، فنحن نداهم بيوتهم ليلًا ونوقفهم على الحواجز"(ص95). لم يكن يساريًّا ولا يمينيًّا لكنّه لم يرتح لعلاقة ابنته مع نفتالي لكرهه لليمين المتطرّف، لكنّه بالنسبة إليه يهوديّ وأفضل من العربيّ. حذّرها منه قائلًا: "قد يرتكب نفتالي جرمًا. قد يقتل عربيًّا بدم بارد"(ص97)، لكنّه لم يتوقّع بأن تقوده كراهيّته السوداء للعربيّ لأن يقتل ابنته لأنّها أحبّت عربيًّا.

    أمّا يافا فوصفتها فاطمة: "بتحكي شويّة عربي. بُنيّة لا طويلة ولا قصيرة، لا سمرا ولا بيضا، لها عينان زرقاوان مثل نوّار العلت.. والله كأنّها بنيّة عرب"(ص29). وقد علّق ابنها أحمد بقوله: "يهوديّة بنيّة عرب أو صهيونيّة بنيّة عرب"(ص29). هذا وصف معادل لدولة إسرائيل وشعبها بعد تعرّفها على سمير وأمّه. "لا طويلة ولا قصيرة" دلالة مساحتها، "لا سمرا ولا بيضا" أي سكّانها من أصول وألوان متعدّدة. و"لها عينان زرقاوان" دلالة البحر، بحر يافا، واسمها يافا. أمّا "بتحكي شويّة عربي" فنسبة للأقلّيّة الفلسطينيّة.

    "تخلّصت يافا من الأفكار المسبقة عن الآخر"، "الآخر إنسان من لحم ودم. الآخر يحبّ ويكره، يفرح ويحزن يضحك ويبكي. الآخر في مدينتي وفي شارعي وفي غرفتي"(ص238). لقد أدركت يافا أنّه لا مجال للانفصال عن العرب، لذا تقول: "إنّ والدها لا يستطيع أن يكون بعيدًا عن العرب، العرب مواطنون في الدولة"(ص165)، ووالدها هو السلطة، وبيتها هو الدولة. ولمّا جعلها الكاتب تتحرّر من ثقافة الكراهيّة للعرب وتقرّر الزواج من سمير كان اختيار اسمها موائمًا لهذا. إذ لم يختر اسمًا عبريًّا بل اسمًا يقبل وجهين؛ فيافا لها وجودها في التاريخ الفلسطينيّ وحاضره، ولها وجودها الإسرائيليّ كذلك. فيدلّ على هويّة مزدوجة قابلة للتقاسم. هكذا صنع مستقبلًا متعالقًا مشتركًا دون محو للماضي الفلسطينيّ، بل انطلاقًا منه وتعزيزًا لشرعيّة وجوده. واسم يافا كنعانيّ ويعني الجميل، ولقّبت "بعروس فلسطين"، ويافا جميلة مثلما رآها سمير.

    أمّا أوري ضابط الشرطة فكان يحلم بالترقية على حساب أحمد وسمير، فالقاتل يجب أن يكون عربيًّا. أمّا فارس فهو عشيق شولا زوجة أوري. كان فارس متعلّمًا مثقّفًا لكنّه لم يجد عملًا بالتدريس فالتحق بمهنة فأرسلته الشركة إلى بيت أوري لإصلاح الغسّالة، فأعجب شولا واتّخذته عشيقًا. وأوري الذي يعاني من عقدة النقص يريد أن يعيش كالمجتمع الذي فوق "حيث لكلّ زوجة عشيق". لكنّه يتذمّر من اختيار شولا فيقول بألم: "عشيق عشيق أو صديق صديق! أمّا أن يكون عربيًّا فهذه مصيبة، أنا لا أثق بعربيّ في بيتي"(ص75). هكذا أصبح فارس "جزءًا من البيت" لكنّه "ليس شريكًا مئة بالمئة"(ص247) حسب وصف أوري. "ولولاه لما تعطّر وما مارس الرياضة وما أثنى على جمال شولا"(ص247).

    اعتقد أوري أنّه سيحصل على الترقية، لكنّه يتفاجأ بقول شولا: "سمع فارس الخبر.. فغادر البيت مهمومًا. كان صعبَا عليه أن يراك بعد أن قالوا في نشرة الأخبار إنّ المفتّش هنّأ أبراهام على اكتشافه الجريمة"(ص49). يترك فارس البيت لأنّه يدرك أنّ أوري سيصبّ غضبه عليه لأنّه عربيّ. فتنتهي الرواية بمفارقة تمثّل الواقع بسخرية.  بيت أوري هو تجسيد للدولة، وأوري رمز للسلطة. إنّ دخول فارس إلى بيته يعني أنّ العربيّ له وجود وهو جزء من الدولة، لكنّه من وجهة نظر أوري يقدّم خدمة، كعامل أو مصلّح أو طبيب أو غيره. وإذا قُبِل كصديق أو عشيق فسيجد من يحرض ضدّه وعلى وجوده، وسيتعرّض للتشكيك والاستهجان والاتّهام لأنّه منزوع الشرعيّة أصلًا.

    أمّا شولا فهي المرأة التي تمثّل الفئة التي تتعامل مع فارس بعين إنسانيّة متساوية. كانت شولا ترى بالإنسان إنسانًا، فهناك عربيّ جيّد وهناك عربيّ سيّئ، تمامًا مثلما هناك يهوديّ جيّد ويهوديّ سيّئ. التعميم خاطئ"(ص 73). كانت شولا تلومه على قسوته وتعامله غير الإنسانيّ مع العرب وادّعائه بأنّه لا يثق بعربيّ لأنّه لا يوجد عربيّ جيّد، فتردّ عليه: "تأبى أن تكون حضاريًّا لأنّك عشت طفولتك في نظام دكتاتوريّ أغلق أفواه الناس وسلب حرّيّاتهم... هذه عقدتك. أنا أعرف لماذا تكره العرب. أنت لا تستطيع أن تكون رجلًا عصريًّا"(ص73). أمّا فارس فلا يثق بالشرطيّ الذي يراه المتّهم دومًا، أي لا يثق بحكم الدولة عليه.

    وهكذا، علاقة شولا بفارس تقابل علاقة يافا بسمير. لكن، إذا كانت علاقة يافا بسمير صورة للحلم المنشود فإنّ علاقة شولا بفارس تجسيد للواقع المعيش دون تجميل وأحلام. وهي أكثر ارتباطًا بالواقع. فالعربيّ لا يزال منزوع الشرعيّة ومتّهمًا، و"ليس شريكًا مئة بالمئة" مثلما صرّح أوري. يضعنا الكاتب إذًا بين حكايتين، حكاية سمير ويافا، وهي الحلم الذي يصوغه بحبره، وتأخذ معظم الرواية، وحكاية شولا وفارس وهي حكاية يفرضها الواقع عليه فيرصدها بنسبة أقلّ بكثير، كنسبة وجود الأقلّيّة العربيّة هنا. وهي التي يختارها لينهي روايته ليذكّرنا بسطوة الواقع وغلبته. ممّا يعني أنّه يجانس المضمون بالشكل.

    تعتمد الرواية على آليّات حداثيّة ككسر التتابع الزمنيّ وتهشيم الحبكة التقليديّة باتّكائها على تيّار الوعي والمونولوج والاسترجاع الفنّيّ والتداعي والاستباق وغيرها. كما يطعّم الكاتب روايته بالحكاية الشعبيّة والفكاهة والسخرية وتوثيق التراث الفلسطينيّ وعاداته وتقاليده، وجغرافيّة الأماكن وأسمائها ونباتاتها. وليس هذا بغريب عنه فهذا من ديدن الكاتب محمّد علي طه في أدبه عامّة.

    ولعلّ أبرز الآليّات التي تؤكّد رسالة الرواية هي تعدّد الأصوات (البوليفونيّة)، أي توزيع السرد على شخصيّات متعدّدة. وقد ترك الكاتب شخصيّاته، إضافة إلى الراوي، تسرد الأحداث وتقدّم أفكارها من وجهة نظرها، وتتحدّث بلسانها بالضمير المتكلّم، ضمير البوح والاعتراف، سواء كانت الشخصيّة فلسطينيّة أو إسرائيليّة، كأحمد وسمير وأوري ويوسف ويافا. لم يحرم الشخصيّة اليهوديّة من التعبير عن وجهة نظرها، عدا نفتالي اليمينيّ المتطرّف الذي يؤمن بتغييب الصوت العربيّ ووجوده، فينتقم الكاتب منه بتغييب صوته وتهميشه لأنّه قاتل السلام والأحلام.

    ومن جهة أخرى أكّد الكاتب على تعدّديّة مجتمعه العربيّ مثلما يتوق إليه. فجعل البيت العربيّ مثقّفًا متعدّد التوجّهات، فكانت فاطمة متديّنة وكان صبري نقيضها. أمّا أحمد فيختلف عن سمير في أنّه يرى باتّفاق أوسلو اتفاقًا خاطئًا ولا يؤمن بيسار صهيونيّ. أمّا سمير فيؤيّد التعاون مع اليسار اليهوديّ واتّفاق أوسلو. لكنّهما قادران على الحوار واحترام رأي الآخر دون إلغائه. وكانت قريتهم نموذجًا للوفاق السياسيّ في الانتخابات، بخلاف البلدة المجاورة التي نهشها العنف والبذاءات.

    هكذا بنى الكاتب الرواية بطريقة يتوافق فيها مضمونها ورسالتها مع شكلها وأسلوبها. فالرواية السياسيّة عمومًا تفضّل تعدّد الأصوات لأنّ ذلك يحقّق لها قدرًا أكبر من الموضوعيّة، إذ يأتي تعدّد الأصوات، إضافة إلى كونه آليّة حداثيّة ورفضًا واعيًا لأساليب القصّ التقليديّة، رمزًا للديمقراطيّة وتعدّد وجهات النظر. إذ يؤدّي إلى زوال الراوي الأحاديّ العليم بكلّ شيء، ويلغي فكرة أحاديّة الصوت الذي يسعى إلى التسلّط وفرض الرأي وسلب حقوق الآخر. وهذا ما يمثّله المستوطن نفتالي. فتمسي الرواية مجموعة رؤى وأصوات تتقاسم السرد بتعدّديّة وديمقراطيّة واحترام الرأي كمَثَل الحياة التي يتوق إليها الكاتب حيث يتقاسم فيها المتنازعان الأرض والحياة بحقّ وعدل وحرّيّة.

    أمّا العنوان "النصّ الموازي" مثلما يسمّيه جيرار جينت، فهو العتبة الأولى للرواية، حيث تعتبر من أهمّ العتبات في دراسة النصّ الأدبيّ. إذ يعتبر العنوان في المنظور السيميائيّ إشارة ومفتاحًا ضروريًّا لسبر أغوار العمل الأدبيّ وتأويله لتشكيل الدّلالة. الأمر الذي يجعله يشكّل جزءًا لا يتجزّأ من النصّ، وبه يكتمل. "نوّار العلت" هو لقب منحته الأمّ فاطمة ليافا قائلة: "عيناك مثل نوّار العلت". ونوّاره لونه أزرق، رمز البحر. وهذا ما يؤكّده وصف سمير لها: "يافا عروس البحر"(124)، و"حيفا ببحرها الأزرق"(ص228)، و"عيناك بحري الذي أتشهّى أن أغرق فيه"(ص239). أمّا العلت فنبات. والنبات لا يكون إلّا بارتباطه بالأرض. والعلت من نباتات هذا الوطن، ومنه يحضّر طعام فلسطينيّ تراثيّ. والتراث يعني الماضي. والماضي هو التّاريخ وعمر الإنسان وجذوره وذاكرته، أي زمان. والوطن والأرض مكان. والزمان والمكان وجود وحياة. والإنسان زمكانيّ، وبهما تتكوّن حكاياته وذاكرته ووجوده. ونوّار العلت تؤكّد تمسّك الأقلّيّة الفلسطينيّة بوطنها وتراثها وأرضها. فيقول أحمد: "لا يزال فكر الترانسفير معشّشًا في عقول قادة إسرائيل وليس لنا إلّا الصمود والبقاء، ولا خيار سوى الانغراس في أرض الوطن"(ص50)، ويكون انغراسه بقراره زراعة الأرض. لقد كانت أسرته مشدودة بالأرض، فوالده صبري كان مزارعًا، وهو كذلك قرّر زراعة الأرض كمصدر رزق حين سدّت في وجهه سبل العمل.

    ولماذا يختار الكاتب عنوانًا يدلّ على النبات؟ لأنّ النبات هو الأرض. وإذا فَقَد الفلسطينيّ شيئًا فَقَدْ فَقَدَ الأرض. والنبات والأرض يعني خصوبة واستمرار حياة. وقد ربط بالنبات اللون الأزرق دلالة البحر. ويافا كانت المدينة، والعلت رمز للقرية ومعالمها. أي يجمع المدينة والقرية، والبحر والبرّ، وكلّ معالم الوطن وجغرافيّته. وفاطمة رأت بجمال يافا جمال الأرض والوطن فأكّدت انتماءها لوطنها وأرضها. ففي العلت الأرض والناس وتراثهم وطعامهم وذاكرتهم. وعليه، إنّه عنوان يؤكّد الانتماء والتعالق الوجدانيّ بالأرض. فيحتفي الكاتب بالطبيعة ويغازلها كما يتغزّل الرجل بالحبيبة وجسدها، كغزل سمير بيافا. فتكون الأنثى والأرض شيئًا واحدًا، لا تنفصل عنها أو عن جمالها ورائحتها وطعم زرعها. نوّار العلت يدلّ على الجمال فيوحي به. لذا لا غرو بأن تتضمّن لوحة الغلاف وجه امرأة جميلة وعلى وجهها نبتة العلت وزهره الأزرق. إذًا ليست لفظة نوّار العلت محايدة إنّما هي الدلالة ذاتها، هي وجهة النظر الفلسطينيّة، دلالة ذاتيّة تكشف فكر الكاتب وانتماءه وعاطفته، وتدلّ على تمسّكه بالأرض والبقاء والهويّة والتراث.

    وإذا كانت فاطمة من أطلق اسم نوّار العلت ونبع وصفها من مفاهيمها وعاداتها فسارة أمّ يافا أطلقت عليها "شجرة الكمّثرى"(ص196). والكمّثرى شجرة الإجاص. ولماذا اختار الكاتب شجرةً لسارة والعلت النبتة الصغيرة لفاطمة؟ لماذا لم يختر الخبّيزة مثلًا؟ وهي نبتة تقارب العلت كبرًا وارتفاعًا!  لماذا أصرّ الكاتب على منح "الشجرة" للطرف اليهوديّ والنبتة الصغيرة للطرف الفلسطينيّ؟ لقد أراد الكاتب برأيي أن يوازي ذلك على المستوى السياسيّ على خريطة الواقع، فالكمّثرى من حيث الكبر كإسرائيل. ويتأكّد هذا المعطى بقول سمير: "نحن نريد 22% من الوطن"(ص219). أوَ لعلّه يماثل هذه النسبة بين العلت والكمثرى؟! ربّما! فالمعنى عند الكاتب والدلالة عند القارئ. وما يؤكّد تساؤلي هذا واعتقادي بعدم عشوائيّة هذه المعطيات ما ورد في الرواية من حديث بين سمير ويافا، والمذكور في دفتر مذكّرات يافا الزهريّ المعنون بـ "شجرة الكمثرى ونوار العلت": "يقول لي: تعالي نزرع زيتونة. فأقول له: تعال نزرع قرنفلًا وفلًّا ونعناعًا"(ص 239). فلماذا يريد هو أن يزرع زيتونة، أي شجرة، في حين تريد هي أن تزرع "قرنفلًا وفلًّا ونعناعًا"، أي نباتات كالعلت؟ لماذا يعاكس ما منحته فاطمة وسارة ليافا؟ يافا هي كالشجرة عند أمّها اليهوديّة، وهي كالنبتة الصغيرة عند فاطمة الفلسطينيّة، فلماذا يريد سمير ابن فاطمة أن يزرع شجرة في حين يافا ابنة سارة تريد أن تزرع نبتة صغيرة؟ وكأنّي بالكاتب يبحث عن معادلة حسابيّة تقلب الموازين التاريخيّة وتساوي الدَيْنَ فتساوي بينهما! فهل المعادلات الحسابيّة على الورق، وفي العمل الأدبيّ، تعيد الحقّ وتساوي بين اثنين غير متساويين فعلًا؟!

    وأخيرًا، إذا كان النوّار يحمل معنى النور فهل بقتل يافا قتل لنور المستقبل؟ هل سيقتل الحلم في ظلال الواقع؟

    (ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار في نادي حيفا الثقافي يوم 11.11.2021)

    مجموعة شعرية جديدة للشاعر العراقيّ / جواد كاظم غلوم

    صدرت في بغداد مؤخرا المجموعة الشعرية للشاعر العراقي جواد غلوم المسماة " حجَرٌ نبيل وآخرُ من سِجِّيل " وقد قام اتحاد الادباء في العراق بإصدارها مبادرةً منه على تعضيد النشر  لأعضائه ممن يتوسّم فيهم الإبداع... وتضمنت المجموعة ثلاثٌ وثلاثون قصيدةً تنوّعت بين مايسمى القصائد العمودية والتفعلية إضافة الى القصائد النثرية .

    نقرأ شيئا من المقاطع ضمن القصيدة النثرية الحداثوية والتي انتقى الشاعر منها اسم المجموعة  :

    لا يمكنني ان أحشر حجَرا في فمي

    كي أسكتَ نفاد صبري

    حتما ستنطلق بفعل نفثات حسراتي

    لِتشجّ رأسي

    ***

    كم عليَّ ان افجّر العيون والينابيع

    وأكسر السدود

    لأوقف الجدبَ العائم فينا

    وحدها لطمةُ حجَرٍ على وجوه الجبابرة

    تفعلُ فعلَها وتُدمي طلعتهم .

    وفي قصيدة " وطنٌ في علبة سردين "  نقرأ :

    وطني إنّا أحببناك بعمقٍ أكثر

    وزرعنا في مسلك دربك عشبا أخضر

    أطعمناك الشهدَ مزيجا من بلّورات السكّر

    ضوّعنا  في أجوائك مسكاً

    يحرسهُ العطرُ وينعشه العنبر

    وركزنا في أرضك نخلاً أوفر

    وفرشنا القلب اليك بساطا

    وملأنا نفسك إيمانا

    فلماذا في الآخر تكفر  ؟؟

    وفي تساؤلٍ شعريّ مما يحيق بلاده من أذى .. يتساءل الشاعر  :

    كيف نسمي سَـقَرا مشتعلا مرعى وطنْ !

    كأننا لا نستحي حين نسمّيه سكنْ

    فالوطن الزاهر أمٌّ ومراحٌ وحضنْ

    الوطن المعطاءُ كنزٌ وسخاءٌ لا مِنَـنْ

    لسنا كلابا أو دجاجا ، وكرُنا جُحْرٌ وقِـنْ

    أيّ سنينٍ عجفتْ نعيشها هذا الزمن

    بابلُ في جنانِها تفوق جناتِ عدنْ

    عقولُنا نابغةٌ ، بشاسعٍ من الفطَنْ

    أهكذا يسومنا الخسفُ ويحوينا الدرَنْ ؟؟ !!

    ومن وجدانياته وغزلياته نقرأ بعض أبياته من العمود الشعري :

    احتمالي أذى غيابِك صعبٌ

    واشتياقي الى وجودك أصعبْ

    ليتني لم أكن بدنياك ذكرا

    دافق الروح في المنى أتقلّبْ

    كم خبرتُ النساء عقلا وقلبا

    لم أجدْ مثلها أمرّ وأطيبْ

    ساعة أرتجي مراحا وضحكا

    ساعة أنزوي وأبكي وأنحبْ

    فالحسِ الشهدَ لو صار مُرّا

    واطلب الحبّ انه خير مطلبْ

    هي كأسٌ مذاقُها كلّ حلْوٍ

    كلُّ مُرٍّ فكن جريئا لِتشربْ .