نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

    برتولت بريشت - الشاعر الذي أضاء الزمن المظلم

    برتولت بريشت كان له حضور كبير في العالم العربي في الستينات باعتباره رائداً مسرحياً، غير أن أشعاره ظلت مجهولة إلى حد ما. الآن بات بإمكان القارئ الاطلاع على ترجمة شاملة لأشعاره صدرت حديثاً. ولكن ما راهنية شعر بريشت اليوم؟
    %25D9%2584%25D8%25B4%25D8%25A7%25D8%25B9%25D8%25B1%2B%25D9%2588%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2583%25D8%25A7%25D8%25AA%25D8%25A8%2B%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2585%25D8%25B3%25D8%25B1%25D8%25AD%25D9%258A%2B%25D8%25A8%25D8%25B1%25D8%25AA%25D9%2588%25D9%2584%25D8%25AA%2B%25D8%25A8%25D8%25B1%25D9%258A%25D8%25B4%25D8%25AA%2B%25D9%2581%25D9%258A%2B%25D8%25B4%25D8%25A8%25D8%25A7%25D8%25A8%25D9%2587
    برتولت بريشت في شبابه 

    برتولت بريشت كان له حضور كبير في العالم العربي في الستينات باعتباره رائداً مسرحياً، غير أن أشعاره ظلت مجهولة إلى حد ما. الآن بات بإمكان القارئ الاطلاع على ترجمة شاملة لأشعاره صدرت حديثاً. ولكن ما راهنية شعر بريشت اليوم؟

    لم يؤثر كاتب في المسرح الألماني مثلما فعل برتولت بريشت (1898 – 1956)، ولم يجدد أحد في المسرحيات الألمانية شكلاً وموضوعاً مثلما فعل رائد المسرح الملحمي. لم ينحصر تأثير بريشت على المنطقة الألمانية فحسب، إذ ترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم، وكان خلال الأربعينات والخمسينات من أكثر الكتاب حضوراً على خشبة المسرح العالمي. كما كان بريشت - المعروف عربياً بـ"بريخت" - حاضراً بقوة في العالم العربي خلال ستينات القرن الماضي. آنذاك انتشرت ما يشبه "حمى بريشت" في أنحاء المنطقة العربية، فأصابت أكثر من مترجم تنافسوا على نقل عدد كبير من مسرحياته، مثل "الاستثناء والقاعدة" و"دائرة الطباشير القوقازية" و"الأم شجاعة" و"غاليليو". أما مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة" فقد تم اقتباسها في أكثر من بلد عربي، ونذكر مثلا مسرحية "ملك الشحاتين" للشاعر المصري نجيب سرور، ومسرحية "عطوة أبو مطوة" للكاتب المصري ألفريد فرج.

    قصائد بريشت في العالم العربي
    ولكن ماذا عن الشاعر بريشت الذي يعتبر من أبرز الشعراء السياسيين في المنطقة الألمانية؟ لقد توارى بريشت الشاعر في العالم العربي خلف الكاتب المسرحي اليساري، ولذلك تأخر الاهتمام بشعره بعض الشيء. وكان المترجم وأستاذ الفلسفة عبد الغفار مكاوي من أبرز من عرّفوا القارئ العربي بأشعار بريشت، وهو قام قبل سنوات بجمع القصائد المبعثرة في المجلات وأعاد طباعتها في كتاب بعنوان "هذا هو كل شيء"، صدر عن "دار شرقيات" بالقاهرة.

    والآن، بات بإمكان القارئ العربي الاطلاع على "مختارات شعرية شاملة" لبرتولت بريشت، صدرت عن "دار الجمل"، وقام بإعدادها وترجمتها عن الانكليزية أحمد حسان. من بين نحو ألف قصيدة اختار حسان 325 قصيدة من مختلف المراحل الشعرية لدى بريشت لتقديمها للقارئ، وهو يقول عن هدفه من هذه المختارات في حديث لـ "دويتشه فيله": "كان هدفي أن أقدم الشاعر كله، بكل اتساع أفقه الشعري. في المجموعة هناك قصائد سياسية مباشرة، وقصائد كفاحية وتحريضية، كما أن هناك قصائد حب وتأمل وقصائد في الطبيعة. كان طموحي هو تقديم مختارات شاملة لبريشت."

    "إلى الأجيال المقبلة"
    أي زمن هذا
    الذي يكاد يُعد فيه الحديث عن الأشجار جريمة
    لأنه يتضمن الصمت على العديد من الفظائع؟

    بهذه الكلمات لخص برتولت بريشت مأساة جيله، وتراجيديا الشعر في زمن الحرب. استُدعي بريشت للتجنيد خلال الحرب العالمية الأولى، فخدم في مستشفيات الجيش، وهناك عايش عن قرب أهوال الحرب، ومن هذه التجربة نبع رفضه التام لكل الحروب. توقف بعد ذلك عن دراسته في كلية الطب وترك مسقط رأسه أوغسبورغ متوجهاً إلى برلين، عاصمة الثقافة والفن في أوروبا في العشرينات. وفي برلين انطلق نجم بريشت كاتباً مسرحياً، فنشر أول أعماله بعنوان "بعل" عام 1920، وبعد ثلاث سنوات نشر مسرحيته الكوميدية "طبول في الليل" وفيها نقرأ جملته التي وجهها للجمهور بعد ذلك في أكثر من عمل، وهي: "لا تحملقوا هكذا برومانسية." أعقبت ذلك مسرحيات عديدة، منها: "قائل نعم، وقائل لا" و"الاستثناء والقاعدة" و"ازدهار وسقوط مدينة مهاغوني". ولكن سرعان ما يصل هتلر إلى الحكم في ألمانيا، وهكذا تبدأ في حياة بريشت رحلة المنافي التي أخذته من برلين إلى براغ إلى باريس إلى موسكو إلى الدانمرك وإلى السويد. هذه الرحلة المريرة تحدث عنها بريشت في قصيدته المشهورة "إلى الأجيال المقبلة" حيث قال:

    "أنتم يا من ستعقبون الطوفان
    الذي غمرنا
    حينما تتحدثون عن إخفاقاتنا
    تذكروا كذلك
    الزمن الحالك
    الذي أفلتم منه.
    فقد مضينا نبدل بلدا ببلد أكثر مما نبدل حذاء بحذاء."

    استقر المقام بالشاعر في الولايات المتحدة، غير أن حملة المكارثية طالته عام 1947، فعاد إلى أوروبا، ثم استقر في برلين الشرقية. وفي عام 1956 رحل الشاعر ورائد المسرح الملحمي بعد حياة قصيرة، غزيرة الإنتاج، عميقة التأثير.

    قد يبدو شعر بريشت أحياناً سياسياً مباشراً يقف على النقيض تماماً من جماليات الشعر الحديث الهامس، فماذا يضيف إلينا اليوم؟ أحمد حسان يعتبر في مقدمته أن بريشت – رغم كل هذه السنين – "ما زال قادراً على إثارة الدهشة لدى جمهور آخر". وعن هذا الجمهور المختلف يقول في حواره مع "دويتشه فيله": "كنت متهيباً أن يحاكم الناس بريشت قبل أن يقرأوه، لاسيما وأن الاهتمام بالسياسة بات منحسراً الآن بشدة. غير أني لاحظت إقبالاً كبيراً على شعر بريشت من الشبان تحديداً، وهو اهتمام ينطلق من شعره وليس من مواقفه السياسية". هناك أسباب كثيرة تجعل عمل "هذا المبدع الكبير – وفي مركزه شعره – قادراً على البقاء كما تمنى رغم تغير الظروف وروح العصر"، يقول حسان في تقديمه للمختارات، وبترجمته الشاملة يدعو المترجم القارئ العربي إلى إعادة اكتشاف بريشت شاعراً إنسانياً جميلاً.

    نجمة الليل الحالك” مسرحية للكاتب اللبناني هشام زين الدين

    نجمة الليل الحالك
    مسرحية
    الشخصيات:
    السيد : شاب في العشرينات من العمر، متعجرف، متسلط.
    الأب : في الخمسينيات من العمر، تبدو عليه ملامح التعب والحزن، ضعيف البنية.
    الأم : في الأربعينيات من العمر، جميلة، متعبة، قاسية الملامح.
    الإبن : في متوسط العشرينيات من العمر، ماكر، وصولي.
    الإبنة : في أوائل العشرينيات من العمر، جميلة، قوية، ذكية، واثقة.
    السائق : في الخمسينيات من العمر، تبدو عليه ملامح التعب والحزن، مملوء الجسد.
    الديكور: صالة الاستقبال في قصر قديم متهالك، تتساقط من السقف قطرات الماء في مختلف أنحاء المكان بسبب التشققات الناتجة عن الاهمال فيما تظهر على المسرح أوعية بلاستيكية في أماكن تساقط المياه.
    (تقف على المسرح جميع الشخصيات بلباس الحداد باستثناء الإبنة التي ترتدي فستاناً أحمر اللون، وأمام الجميع يوجد تابوت مسجى على طاولة. نسمع أصوات الرياح الشتوية والطقس الماطر في الخارج التي تعلو حيناً وتخفت حيناً آخر طوال مدة المسرحية)
    السيد : (يقف أمام الجميع) رحمة الله عليك يا أبي.
    الأب : رحمة الله عليك يا سيدي الكبير، وشيخنا الجليل وقائدنا الحكيم…
    الأم : رحمة الله عليك يا صاحب القلب الكبير واليد المعطاء.
    الإبن : رحمة الله عليك أيها الأب الكبير والمعلم والناصح والراعي والحنون.
    الإبنة : رحمة الله عليك.
    السائق : رحمة الله عليك أيها الانسان الطيب النبيل الشهم الشريف.
    السيد : هل تألم كثيرًا قبل أن فارق الحياة؟؟
    الأب : لا أعلم… لا أحد يعلم… ربما…
    الأم : (تبكي)
    السائق : لا أعتقد أنه تألم لأنه كان في شبه غيبوبة…
    السيد : (بغضب سريع ومفاجئ) هل سألك أحد رأيك…؟ تعتقد أم لا تعتقد…؟؟ أنا سألت الذي كان إلى
    جانبه لحظة الوفاة ولم أسألك أنت…!!
    الإبن : (للسائق) اعتذر بسرعة… السيد لا يحب الثرثرة…
    السائق : أعتذر يا سيدي…
    الأب : إنه يريد تخفيف الهم والحزن عنك يا سيدي وهو لم يقصد أي إساءة…
    السائق : سيدي على حق… ليس من المفروض أن أتكلم …
    الأم : (تبكي)
    السيد : ما هذا البكاء اللعين.. علام تبكين… على فراق سيدك الذي كنت تتمنين موته منذ عشر
    سنوات… إخرسي ودعينا نكمل التأبين.
    الأم : حاضر… حاضر (تبكي بصمت)
    الإبن : أسكتي يا أمي…
    الأب : لا تغضب يا سيدي … ستوقف البكاء، ستصمت… البكاء يزيد الجو كآبة وحزنًا… معك حق يا
    سيدي…
    السيد : هل نستطيع استكمال مراسم التأبين؟
    (الجميع يبدون الموافقة والتأكيد على كلام السيد)
    السيد : (يتكلم بصيغة الخطاب الرسمي) أشعر بالحزن الذي يملأ قلوبكم على فقدان المرحوم والدي…
    أنتم الذين عملتم في خدمته عشرات السنين، وأنتم من تدركون قيمته الاجتماعية والسياسية
    والفكرية والاقتصادية والانسانية والثقافية والعلمية… لهذا السبب، ووفاءً لشخصه الذي لا ولن
    يتكرر… ستبقى جثة والدي المرحوم في مكانها هنا في القصر ولن تُدفن تحت التراب…
    الأم : (توقف البكاء فجأة) كيف ذلك يا سيدي؟؟؟ لا يمكن… هذا مستحيل…
    الأب : سيدي… لا يجوز ذلك شرعاً .. يجب أن تدفن الجثة…
    السيد : أنا من يقرر ما يجب وما لا يجب… أنا من يقرر ما هو الشرعي وما ليس شرعيًا…
    الإبن : بالطبع يا سيدي… القرار لك والأمر لك…
    الأب : عذراً سيدي…
    السيد : ولقد اتخذت القرار التاريخي الذي يمليه علي واجبي وأمرت بتحنيطه لكي يبقى حاضراً بينكم هنا،
    وذلك وفاء مني ومنكم جميعاً لسيد هذا القصر النموذج القائد الحكيم الفذ العظيم.
    (الجميع يتكلم مترحماً عليه لكن بتعابير مستغربة)
    الإبنة : (باعتراض واضح) لكن التحنيط نوع من الكفر والاعتراض على مشيئة الله سيدي.
    الإبن : (بانزعاج) هذا غير مذكور في الكتب السماوية يا أختي الحبيبة…
    الابنة : الفراعنة حنطوا موتاهم قبل نزول الأديان السماوية والشيوعيون حنطوا قائد ثورتهم لينين لأنهم
    ملحدون… هل فكرت في ذلك… سيدي ؟؟؟
    السيد : لقد أرسلت أخاك إلى الشيخ وسألته رأيه في الموضوع والشيخ نفسه أفتى بإمكانية التحنيط إذا
    كانت الشخصية المتوفاة استثنائية…(للإبن) صحيح هذا الكلام؟
    الإبن : صحيح يا سيدي …
    الابنة : ومن هو الشيخ الذي أفتى بذلك؟
    السيد : شيخ منطقتنا والأقاليم كلها…
    الإبنة : كان يجب عليك استشارة شيخ من رجال الدين الحقيقيين الذين يعملون عند الله وليس هذا
    الشيخ الذي يعمل عندك أنت…سيدي.
    الإبن : سامحك الله يا اختي… إن بعد الظن إثم…لقد قال لي الشيخ بالحرف الواحد …إن التحنيط
    يجوز إذا كانت الشخصية المتوفاة استثنائية…قبل أن يعلم من الشخص المقصود…
    السيد : هل أفهم من كلامكم أنكم لا تعتقدون أن شخصية المرحوم والدي استثنائية؟؟؟
    الإبن : لقد بكى الشيخ عندما أتى على ذكر المرحوم… وقال لي ، منذ مئات السنين لم تشهد بلادنا
    شخص بهذه الأهمية…
    السائق : استثنائية أكيد يا سيدي.
    الأب : نعم يا سيدي استثنائية استثنائية…
    الأم : اسثنائية طبعا طبعاً…
    الابنة : (بانفعال جزئي) كفانا خداعاً للذات يا أمي؟؟
    الأم : (مرتبكة) …
    السيد : لقد وافق الشيخ وانتهى الأمر ولا داعي لتوجيه الإهانات إلى أمك الفاضلة الآن…
    الإبن : لعن الله الجامعات والمدارس التي تعلم قلة الحياء وقلة الادب. الرحمة لروح المرحوم…
    الأب : رحمة الله عليه ووفق الله الشيخ الذي لا يمكن أن يفتي إلا بما يرضي الله…
    السيد : أسمعتي يا صاحبة الرداء الأحمر… وبالمناسبة، هل يعقل أن ترتدي اللون الأحمر وأنت في
    حداد؟؟
    الابنة : ذهبت إلى السوق لأشتري ثياب سوداء فلم أجد… لقد نفذت الثياب السوداء من السوق… كل
    الناس تلبس الأسود هذه الايام…
    الأم : لكن سنجد، سنجد سيدي غداً أو بعد غد كأبعد تقدير سترتدي الأسود انشالله…
    السيد : إنشالله… الأمر الآخر المهم والذي أريدكم أن تنتبهوا اليه أيضاً… أن التحنيط قد يتحلل إذا
    دخل إليه الهواء أو الحشرات الصغيرة …
    الأب : عفوا… لم نفهم القصد سيدي…؟!
    السيد : يعني يجب أن يبقى أحد منكم إلى جانب التابوت طوال الوقت لكي يمنع الهواء أو الحشرات من
    الدخول …
    الإبنة : بالامكان تغليف التابوت بمادة عازلة تمنع حصول ذلك…
    السيد : لا داعي لاستعراض معلوماتك الآن… أعرف أنه يوجد مادة عازلة… لكني لا أريدها … أنتم
    تعملون في هذا القصر وتعيشون فيه وعليكم تنفيذ القرارات التي تصدر عن سيده…
    الإبنة : لكنهم يعملون في المطبخ وفي الحديقة وفي صيانة القصر وقيادة السيارة…
    الإبن : وفي الصلاة والدعاء لكي يحفظ الله هذا القصر وسيده…
    الإبنة : أعتقد أن هناك أعمال يجب القيام بها تتعلق بترميم القصر وتحسين شروط العيش فيه…وهي
    أهم من الجلوس الى جانب المرحوم ومراقبة الهواء…
    السيد : (يقاطعها) وانت ؟ ماذا تعملين؟
    الابنة : أنا لا أعمل… أنا أدرس في الجامعة…
    الأم : سيدي دعني أشرح لك الموضوع… لقد تعهد المرحوم قبل وفاته بتكاليف تعليمها حتى التخرج
    من الجامعة وأعفاها من العمل في القصر لكي تتفرغ للدراسة…
    السيد : هذا كان في الماضي… اليوم تغير النظام… القاعدة الجديدة الآن، من لا يعمل لا يأكل، ولا
    يحصل على المال لدفع أقساط الجامعة…
    الأب : المرحوم كان يعامل ابنتنا كأنها أحد أولاده رحمه الله…
    السيد : (بحدة ) المرحوم مات…
    الأم : لا تغضب سيدي… سنعمل جميعًا ولن يدخل الهواء الى التابوت ولا الحشرات بإذن الله…
    السيد : لا… الكل سيعمل هنا في مراقبة الهواء… لا أريد أن تدخل حشرة واحدة الى هذا المكان
    المبارك… سيكون هذا هو عملكم من الآن وصاعداً…
    الأم : والواجبات الأخرى… التنظيف والغسيل…
    الأب : وزراعة الزهور ورعايتها والاهتمام بالحديقة وصيانة القصر…
    السيد : لا داعي لكل هذه السخافات…
    السائق : وأنا سيدي… هل تأمرني بالتواجد هنا إلى جانب الضريح، أم أبقى إلى جانبكم لقيادة السيارة؟؟
    السيد : هنا إلى جانب المرحوم… وأنت( يخاطب الإبنة) يا تلميذة الجامعة … اذا حصل أي خلل في
    التحنيط… وإذا دخلت الى هذا المكان ذبابة أو بعوضة أنت المسؤولة…(ساخراً) لأنك متعلمة
    أكثر منهم…
    الإبنة : لكني أدرس الحقوق ولا علاقة لي بعلم الحشرات…
    السيد : (يقاطعها باستهزاء) أنا من يحدد إذا يوجد علاقة أو لا يوجد وليس أنت… كلكم ستعملون ليل
    نهار في حراسة ضريح سيد القصر… المبارك…
    الإبنة : لكن القصر يتداعى وأنت ترى بعينك كيف يتسرب الماء إلى الداخل ووالدك لم يكن يهتم لهذا
    الخطر لأنه كان عاجزًا في السنوات الأخيرة…
    الإبن : أووووووف… أسكتي يا بنت…
    السيد : دعها تفرغ ما في جعبتها من علوم… يعني… بماذا تأمرين أيتها المحامية… أو القاضية؟؟
    الإبنة : يجب عليك الاهتمام بالقصر… بترميمه وتطويره وتجميله لكي تتمكن من العيش فيه ما تبقى
    لك من العمر…
    السيد : تقولين يجب علي… (ساخرًا) رائع… قلبك علي أم على نفسك… وعلى عائلتك…
    ومستقبلك…؟
    الإبنة : القصر لنا جميعاً صحيح أنت سيده وأنا إبنة الذين يعملان فيه، لكنه بيتنا جميعاً… أنت وأنا
    ولدنا هنا فيه … اسمح لي أن أقول لك… إنك تخطئ كثيرًا…
    السيد : (ساخرًا ومنفعلاً) ماشالله … إبنة الخادم تدرس أول سنة حقوق فتظن أن بامكانها مناقشة
    أسيادها بقراراتهم… وترتدي الأحمر دون حياء في مأتم سيدها وولي نعمتها ونعمة أبوها
    وأمها… ما هذه الوقاحة… أي جيل هو هذا…؟؟!! ابتعدي من أمامي وإياك أن تكرري
    حماقاتك… أيتها الوقحة… ناكرة الجميل .
    (الإبنة تخرج)
    الإبن : والله … لولا احترامي لوجودك سيدي… لضربتها بحذائي على رأسها الفارغ…
    الأم : (بارتباك) أرجو أن تهدأ يا سيدي… سامحها أرجوك… هي لا تزال صغيرة وتقرأ في الكتب كثيراً
    و… تحلم بأشياء… و…
    السيد : لا يهم لا يهم… ستتعود على النظام الجديد في القصر…(بشيء من الحزم) من الآن
    وصاعداً… لا أريدكم أن تقوموا بأي عمل سوى حراسة الهواء الى جانب الضريح … والصلاة
    على روحه الطاهرة… وأنا أجزم أن الله سيقدر لكم ذلك في الآخرة… فالسيد المرحوم… لم
    يكن انسانا عادياً وكان قريباً من الله وكان يحبه جداً… وانتم تعلمون ذلك جيداً…
    الإبن : كان زاهداً عابداً رحمة الله عليه…
    السائق : رحمة الله عليه… كان قريبًا جدًا من الله…
    الأب : نعم كان يقضي معظم وقته في الصلاة…
    الأم : رحمة الله عليه… كان النور يشع من وجهه كالقديسين والأنبياء…
    السيد : نعم هكذا… شكرا لوفائكم أيها الشرفاء… صلّوا من أجله دائمًا وانتم تراقبون الهواء…أريد أن
    يبقى كلام الله حاضرًا في هذا المكان… كلام الله … وهل هناك أهم من تلاوة كلام الله على
    روح القديسين والأنبياء والأولياء.
    الإبن : بارك الله بك سيدي…
    السائق : سيدي هل نرتدي ثياب العمل خلال الصلاة أم من الممكن أن نصلي بثيابنا العادية؟…
    السيد : سؤال سخيف لن أجيب عنه… سائق غبي…
    السائق : أعتذر سيدي لم أقصد أن …
    السيد : (مقاطعاً) والآن وبما أننا انتهينا من مراسم التأبين وكل هذه الأمور.. يمكنني أن أشرب القهوة
    في الحديقة؟
    الأب : آه نعم… انتهينا انتهينا… هل قلت أنك تريد أن تشرب القهوة يا سيدي؟
    السيد : ألم تسمعني أقول إني أريد أن أشرب القهوة…؟ لماذا تسأل إذاً…؟؟ أوووف ما أكثر كلامكم!
    الأم : حسنا حسنا… لا داعي لهذا الغضب… سأقوم بتحضير القهوة فوراً…
    الأب : وأنا سوف أقدمها لك يا سيدي في الحديقة…
    السيد : لا… بل اريد أن تقدمها لي ابنتك المثقفة …
    الأب : حسنا… كما تأمرون يا سيدي…
    السيد : أحبها سادة… (يخرج)
    الأم : حاضر يا سيدي…
    الأب : (للإبن) إذهب وقل لأختك أن تأتي فورًا…
    الإبن : لن ترضى بتقديم القهوة له… إنها عنيدة… تظن نفسها إبنة باشوات…
    الأم : بل ستقدمها… لعن الله الجامعة ومن اخترعها… إذهب ولا ترجع إلا وهي معك…
    السائق : (بجدية) يجب أن نقنعها جميعاً بضرورة الإذعان لأوامر السيد… لأن في ذلك مصلحة لنا
    جميعاً… ولن نقبل أن تجرنا وراءها الى الهاوية.
    الإبن : لكنكم تعرفونها جيداً … لن ترضى وستدخلنا في مواجهة قد تدمرنا جميعاً…أنا أعرف السيد
    أكثر منكم جميعاً… إنه قاس وعنيد…إني أحذركم…!
    السائق : (بجدية تقترب من التهديد) لن نسمح لها … اعذروني… المسألة ليست مزحة…
    الأم : نعم … ليست مزحة… لهذا السبب أَصَرَّ أن تقدم له القهوة بنفسها…
    الأب : يا رب… لا أسألك رد القضاء بل أسألك اللطف فيه… يا رب…(للإبن) إذهب وقل لأختك أن
    تأتي إلينا…
    (الإبن يذهب)
    السائق : يجب أن نفهم جميعاً أن هذا الشاب ليس كوالده ولهذا السبب لم تكن علاقتهما مع بعضهما
    البعض جيدة… كان يعتبر والده عجوزاً متساهلاً وضعيفاً ولا يهتم إلا بملذاته الشخصية…
    الأب : منذ ولدنا لا نفعل شيئاً سوى خدمة ملذاته الشخصية وكان والدي يخدم عند والده ويخدم ملذاته
    الشخصية… أوووف ما أتعسنا يا أخي…
    الام : ليس الآن وقت البكاء والنحيب… نحن في ورطة يجب الخروج منها سالمين…
    السائق : منذ مدة غير بعيدة كنت أقود السيارة وكان المرحوم يتحدث مع إبنه هذا على التلفون وكان
    غاضباً جداً… وبعد انتهاء المكالمة قال لي … ستترحمون علي كثيرًا بعد موتي…
    الأب : نحن نعرفه جيداً لقد ربيناه منذ كان طفلاً … وكنا نأمل منه خيراً…
    السائق : للأسف لا يبدو ذلك أبدًا…
    الأم : المهم أن نتمكن من إقناعها بالتنازل له قليلا لكي تمر هذه العاصفة على خير…
    (تدخل الإبنة والإبن متوتران)
    الإبنة : نعم … ؟!
    الأب : (مرتبكاً) اسمعيني يا ابنتي يا حبيبتي… طلب السيد أن يشرب القهوة …
    الإبنة : فليشربها…
    الأم : وطلب أن تقدميها له بنفسك…
    الإبنة : (باستغراب وتعجب) أنا …؟
    الأب : قدميها له يا ابنتي… لن تخسري شيئاً…
    السائق : أرجوك أن توافقي… يجب أن نتعامل مع التغيير الحاصل في حياتنا بذكاء، لكي تمر الأمور بأقل
    خسائر ممكنة… حياتنا كلها بين يديك…
    الإبنة : (بسخرية وغضب) حياتكم كلها متوقفة على موافقتي على تقديم القهوة لهذا السيد
    الصغير…؟؟ ألهذه الدرجة حياتكم سخيفة..؟؟
    الإبن : وماذا سيحصل لك إذا قدمتي القهوة للسيد…؟ من تظنين نفسك؟؟؟ كفى تكابراً واستعلاءً…
    الإبنة : قدمها أنت يا شيخ… أيها الشهم…
    الإبن : لو طلبها مني لقدمتها فوراً… هو السيد هنا وأنا الخادم إبن الخادم… هذه حقيقة وليست أوهاما
    كتلك التي تدور في رأسك…
    الابنة : انتم تعرفون أنه يريد تحقيري… يريد اعادتي إلى الاسطبل الذي أحاول الخروج منه… هل أنتم
    موافقون ؟؟؟
    (صمت)
    الإبن : لقد سألتكم ولم تجيبوا بعد… أنا موافق…
    السائق : وأنا أيضاً بكل أسف… موافق…
    الأم : يجب أن نوافق يا ابنتي… يجب…
    الإبنة : وأنت يا أبي…؟ موافق…؟
    الأب : كان يجب أعترض منذ خمسين سنة يا ابنتي… لأجلك ولأني خائف عليك… سأوافق…
    الإبنة : (بألم وتوتر شديدين وبعد صمت قصير) حسنا… سأفعل…
    الإبن : افعليها بإرادتك أفضل من أن تجبري على ذلك يا متعلمة…
    الإبنة : (بهدوء وخيبة أمل) كم أنت حقير يا أخي…
    الإبن : (ينفجر ضاحكاً) قلت يا أخي… (يضحك من جديد) قلت يا أخي…
    الأم : وما العجب في ذلك…؟
    الإبن : لا عجب في ذلك يا أمي… لكني لم أسمع منها كلمة أخي منذ زمن طويل…
    الإبنة : لأنك عبد حقير لسيدك ولشيخك ولمصلحتك الخاصة ولا تفكر إلا بنفسك…
    الأب : أوقفوا هذه المهزلة أنت وهي…
    السائق : السيد في الحديقة… لا يجب أن نتأخر عليه…
    الأم : سأحضر القهوة … وأرجوك يا ابنتي لا نريد أية مشاكل…(تخرج)
    (بعد خروج الأم صمت لبرهة )
    الأب : أعتقد أن السيد الصغير مصدوماً بسبب موت والده (صمت) ولهذا هو يتكلم بهذه الحدة ويتصرف
    بهذه الطريقة المستغربة (صمت) هذه الطريقة المرفوضة طبعاً…(صمت).. هل قلت شيئاً
    يزعجكم… لما هذا الصمت القاتل…؟؟
    الإبنة : (بخوف وقلق) كلنا في حالة ذهول … الموت، ثم مجيء السيد الصغير وكلامه وتصرفاته… هل
    هذا قليل يا أبي؟؟؟
    الأب : لكنكم … تنظرون إلي كأنهم تحملوني أنا مسؤولية كل ما يحصل… هل أستطيع رفض أوامر
    السيد الصغير؟؟ أنت قولي لي يا ابنتي … هل أستطيع؟؟
    السائق : لا لا يجوز… ولن نسمح لأحد بتدمير حياتنا…هو سيد القصر ونحن فيه خدم ليس أكثر…
    يجب أن لا ننسى ذلك أبداً. (يخرج)
    الإبن : هل فهمت… يعني يجب أن نعرف حدودنا ولا نتعداها…
    الابنة : لكن هذا لا يعني أن يعاملنا هذا الحقير كالبهائم…
    الإبن : وكيف تريدين أن يعاملك… كالأميرات…
    الابنة : لا… (بغضب) أريد فقط أن نعامل كما جميع البشر… لا أن نجلس كالمهابيل نراقب الهواء.
    الأب : لا داعي يا ابنتي… لا داعي لهذه النبرة الغاضبة… الوقت كفيل بكل شيء…
    الابنة : ورائحة الميت…؟؟!
    الأب : ستخف مع الوقت يا حبيبتي. وربما بعد يوم أو يومين سيغير السيد رأيه… ويأمر بدفنها…
    ويعود هو إلى أوروبا وتعود الأمور إلى ما كانت عليه…
    الإبنة : لا… لا يا أبي… المسألة ليست مسألة ميت ودفن… أنت تعرف ذلك جيدًا… المسألة…
    الأب : أعرف…
    الإبنة : (بانفعال) تعرف… وماذا؟ تصمت…؟؟ تنفذ الأوامر وتطأطأ راسك كالكلب أمامه…
    الأب : (مذهولاً) نعم … كالكلب… (يكاد يختنق من الضيق- صمت قصير)
    الإبنة : أعتذر…
    الأب : ( ينظر إلى الإبنة ويخرج متأثراً)
    الإبن : أيتها الفاجرة… كيف تكلمين أباك بهذه الطريقة… لقد أهنته…
    الإبنة : اعتذرت
    الإبن : بعد ماذا؟؟؟ هل رأيته كيف كاد يختنق من الغضب…
    الإبنة : قلت لك اعتذرت وكفى…
    الإبن : هكذا يعلمونك الدكاترة في كلية الحقوق؟؟!! تقتلين القتيل وتقولين له أعتذر… وكفى…
    الإبنة : لا تسخر أرجوك… تعرف أنني غير معجبة بحسك الفكاهي ولا بأي شيء آخر فيك…
    وخصوصاً ولائك الأعمى للسيد الأحمق ولجثة والده الممددة أمامك.
    الإبن : لولا هذه الجثة لكنت الآن تدورين على الشوارع تبيعين العلكة… ولولاها لما دخلت الجامعة
    وأصبحت تتكلمين كالمثقفين… أتنكرين فضله عليك؟؟ علينا كلنا.!؟
    الإبنة : (تنظر إلى الإبن باستغراب ولؤم)
    الإبن : أذهبي وقدمي القهوة لسيد القصر… سيدك… ولا تحاولي التذاكي لأنني وبكل صراحة
    ووضوح… لن أسمح لك بتدمير حياتي ومستقبلي ومصالحي… قسماً بالله لن أسمح
    لك…(يخرج)
    الإبنة : (لوحدها تكلم الجثة) أيها الخنزير النتن الذاهب إلى الجحيم… أيها العجوز الأجعد… لم أجرؤ
    يوما أن أعبر لك عما أشعر به تجاهك من قرف واحتقار…لقد دمرتنا بأخلاقك الساقطة أيها
    المغتصب… كنت تعرف أن أمي المسكينة تدفع لك من شرفها مرغمة دين العمر البائس…
    وكنت تشعر بها حين تتقيأ قرفاً منك… ومع ذلك لم تنفك يومًا عن أن تكون ذلك الحيوان
    المفترس الذي يسخر كل شيء لغريزته… لن ترتاح روحك أيها السيد النذل… سيظل صراخنا
    المؤجل المكبوت أنا وأمي وأبي يصدح في السماء، يلاحق روحك إلى آخر زاوية من زوايا
    الجحيم…
    (نسمع صوت الرعد والبرق والعواصف)
    (تدخل الأم ومعها القهوة)
    الأم : لن ينفع يا ابنتي..
    الإبنة : لن ينفع، لكني أحمل في صدري جبلاً من الغضب والدموع واليأس… أبوح… علني أرتاح قليلاً..
    الأم : تيقنت منذ وصوله أننا قادمون على كارثة… لهذا السبب كنت أبكي… خفت عليك…
    الإبنة : علي أنا…؟
    الأم : خفت أن يتكرر التاريخ مرة أخرى…
    الإبنة : التاريخ يتكرر لكننا نحن القادرون على تغييره … ونرتاح.
    الأم : لن ترتاحي يا حبيبتي… حملت في صدري الجبل عينه منذ صباي… مذ كنت عروساً بثوبها
    الأبيض… بكيت حتى جف الماء في العيون… تألمت حتى صار الألم هوائي الذي أتنشقه
    وخبزي ومائي ورفيقي…
    الإبنة : لو قاومت آنذاك… لو رفضتي وتمردتي… لو فضحته لما كان ما كان ولما كنا اليوم واقفين هنا
    مذلون مهانون ككلاب الشوارع…
    الأم : لو… لو… لو… !!!! تفضلي … ثوري، تمردي، افضحي… لقد أخبرتك حقيقة ما جرى بيني
    وبينه لكي تحذري من نذالتهم ولكي لا تسيري في درب الجلجلة ذاته…
    الإبنة : لكني عرفت الحقيقة بعد فوات الأوان…
    الإم : عرفتي الحقيقة قبل موت المرحوم… لماذا لم تتمردي… لماذا رضيتي بالعار والذل الذي لحق
    بنا…؟؟
    الإبنة : لأنكم ربيتموننا على العار والذل… ربيتموننا على طاعة السيد وأوامر السيد وغرائز السيد…
    الأم : صدقيني يا ابنتي… لم يكن أمامنا حل… كان الموت والعوز والتشرد والجوع بانتظارنا خلف
    الباب…
    الابنة : الموت أشرف… الجوع أشرف.. الفقر أشرف… ليتني مت قبل أن أولد… ليتكم متّوا قبل أن
    تولدوا جميعكم…
    الأم : كوني واقعية يا ابنتي… الحياة ليست رواية في كتاب… وليست محاضرة في جامعة…
    الابنة : نعم… معك حق… خصوصاً وأن رائحة المرحوم قريباً ستملأ المكان… ماذا يفعل السيد..؟
    الأم : ينتظر القهوة ويتحدث مع السائق عن أمجاده مع النساء في أوروبا.
    الابنة : وأخي؟
    الأم : يستمع إليه أيضًا…
    الابنة : وأبي؟
    الأم : في المطبخ يبكي …
    الإبنة : هذا أقصى ما يستطيعه… ونحن أيضاً لا نفعل شيئاً غير البكاء…
    الأم : أرجوك… خذي القهوة وقدميها له…
    الإبنة : لا أستطيع يا أمي… لا أستطيع…
    الام : لأجلنا جميعاً يجب أن تفعلي ذلك… (تعطيها القهوة)
    الإبنة :(تنظر الى القهوة ثم إلى أمها بتردد، تأخذ القهوة منها بانكسار وتخرج، تلحقها الأم، تطفىء الأنوار).
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    الفصل الثاني
    (الديكور نفسه، يزداد تساقط الماء من السقف، يهرع الأب والأم والسائق والإبنة إلى المسرح لتفريغ الأوعية البلاستيكية من الماء وإعادتهم الى مكانهم، يسمع صوت الرياح الشتوية وأصوات البرق والرعد)
    الإبنة : أمطري أيتها السماء وزلزلي كيان هذا القصر لكي ينهار… إفعلي ما نحن عاجزون عن القيام به.
    الأب : أمطري أيتها السماء وتغلغلي إلى أعماقنا واطفأي النار الأبدية المشتعلة في ذاكرتنا… النار التي
    تحرقنا كل يوم… كل ساعة… كل دقيقة… كل ثانية.
    الأم : أمطري أيتها السماء… طهرينا من تخاذلنا ومن جبننا ومن خطايانا… أزيلي عنا القناع وحوليه
    إلى غبار… أزيلي منا الخوف وحوليه إلى سراب…
    السائق : أمطري أيتها السماء… وبللي وجوهنا بالماء… فقد جفَّ الدمع في عيوننا وخدودنا عطشى
    للبكاء من الندم…
    (يرتفع صوت الريح والمطر ونرى الستائر في عمق المسرح تتطاير بفعل قوة الرياح ويزداد تساقط نقاط الماء من السقف)
    الأم : الرياح تعصف بقوة… وتسرب المياه يزداد…
    الأب : أنا خائف على هذا القصر من الانهيار فعلاً…
    السائق : يجب اقناع السيد بضرورة ترميم القصر… هذا لا يجوز…
    الإبنة : السيد يعلم أن القصر يتهاوى… وهو يرى بأم العين كيف تتسرب المياه من السقف…
    الأب : وماذا…؟ يعلم ولا يفعل شيئاً…
    الإبنة : ولن يفعل… هو لم يأتي من أوروبا لكي يبني لنا قصوراً ويعيد الينا الحياة الطبيعية… الزمن
    ليس زمن البناء بل هو زمن الهدم… ألم تفهموا بعد…؟؟
    السائق : أنت ناقمة عليه لأنه أجبرك على القيام بخدمته… لأنه أيقضك من الحلم الذي كنت تعيشين
    فيه وأعادك إلى الواقع يا صغيرتي…
    الإبنة : عن أي واقع تتحدث…؟ ماذا تقصد…؟
    السائق : أقصد أنك لن تتمكني من تغيير قدرك… ستعملين كما نعمل نحن في خدمة السيد…هذه هي
    الحقيقة والباقي كله وهم…
    الإبنة : مستحيل… لن أعمل كخادمة عند أحد في هذا العالم… سأنهي جامعتي واتدرج في مكتب
    للمحاماة وأصبح محامية، شاء من شاء وأبى من أبى…
    الأب : انشالله يا ابنتي انشالله… ستصبحين محامية لكن ليس الآن… ليس الآن…
    الابنة : أبي … ماذا أسمع…؟؟ أنا الآن في الجامعة ولا يمكنني أن أتركها…
    الأم : اسمعيني جيدا يا ابنتي… لقد رفض السيد أن تتابعي تعليمك في الجامعة… وقد أبلغنا جميعاً
    قراره هذا فور وصوله…
    الإبنة : ومن هو لكي يقرر عني…؟ وكيف يتكلم معكم بهذه الفوقية؟
    الأب : الأسياد يتكلمون هكذا دائماً…
    الأم : أنت لا تتذكري كيف كان السيد الكبير يعاملنا قبل مرضه وعجزه…
    الإبنة : لا أتذكر… ولا يهمني كيف كان يتكلم معكم وكيف يتكلم هذا المتخلّف الذي يعيش في القرون
    الوسطى.
    السائق : لن ينفع هذا الكلام بشيء… لقد اتخذ قراره بهذا الشأن ووضعنا جميعاً أمام مسؤولية تطبيقه
    وإلا…
    الابنة : وإلا ماذا؟؟؟
    الأم : يطردنا جميعاً من القصر…
    الإبنة : ماذا …؟ يطردكم جميعكم…؟ لماذا…؟ فليطردني انا وحدي…؟ ما ذنبكم أنتم …؟
    الأب : (بتأثر شديد) ذنبنا أننا مأمورون مذلون محرومون من الحلم ومن التفكير في أي تغيير…
    الابنة : (بغضب) لم نعد في زمن أسياد القصور وعبيدها… لقد مات سيد القصر ومات زمنه معه…
    السائق : أخشى أن تكوني واهمة… الأسياد لا يموتون… فقط يتبدلون… ونحن الذين نموت… نصيحتي
    لك… احتكمي إلى العقل والواقع…
    الإبنة : (يبدو عليها الغضب إلى حد الاختناق) الجو بارد… بارد جداً… (بغضب شديد) لكنني أشتعل
    غضباً… أنا أشتعل غضباً…
    (يدخل السيد وإلى جانبه الإبن بشكل مفاجئ)
    السيد : ما الذي يحصل ؟؟ ما هذه الفوضى …؟
    السائق : العاصفة يا سيدي… المياه تتسرب من الشقوق في السقف…
    السيد : آه … نعم … ستمر العاصفة وتعود الأمور إلى ما كانت عليه…
    الإبن : العاصفة تمر والكلاب تعوي…
    السيد : (يضحك) حلوة حلوة يا شيخ… في محلها تماماً…
    الإبن : سيدي … الموعد مع الشيخ… طلبت مني تذكيرك…
    السيد : آه نعم نعم … أريدكم أن تذهبوا جميعاً إلى الشيخ وأن تتقدموا باسمي بالشكر والعرفان على
    موقفه النبيل وموافقته على إنشاء ضريح سيدكم والدي المرحوم هنا في هذا المكان… وشكره
    أيضاً على تعيين أبنكم … مسؤولاً عن الضريح…
    الأم : إبننا ؟ من ؟؟
    الإبن : أنا يا أمي… وهل لديك إبن غيري…؟
    الأم : آه … نعم … مبروك يا ابني … مبروك.
    السيد : لم أسمع مباركة من الجميع…؟ ألستم فرحين بهذا التعيين …؟
    الأب : بالتاكيد سيدي … ألف مبروك يا بني… (يقبله ببرودة)
    السائق : (يقبل الإبن ) مبروك يا شيخ… تستحق هذا التعيين…
    السيد : (للابنة) وأنت …؟
    الابنة : (باستياء) مبروك…
    السيد : حسناً … بامكانكم الانطلاق … وبلغوا الشيخ تحياتي الحارة…
    الابنة : وهل يستطيع إبن خادم صغير في القصر أن يتحول من خادم إلى مسؤول عن ضريح…
    السيد : لا يوجد فارق بين المهمتين… كان يخدم أسياد القصر وارتقى ليصبح خادماً لله… لأنه يستحق
    هذا الشرف…
    الإبن : شكرا سيدي… هل أستطيع الاستئذان والانصراف مع الجميع لكي لا نتأخر عن الموعد مع
    الشيخ.
    السيد : نعم نعم … ولا تنسى أن تقدم له باسمي تبرعاً إضافياً للأيتام والفقراء…
    الإبن : حاضر سيدي… أدامك الله وأطال بعمرك… تفضلوا…
    (الجميع يتحرك للخروج)
    السيد : لن تتركوا الضريح وحيدا… أليس كذلك…؟
    الأب : يمكنني أن أبقى أنا هنا…
    السيد : لا لا لا … أنت والد الشيخ الجديد…؟ يجب أن تكون على رأس الوفد…
    الأم : هل أبقى أنا ؟
    السيد : ستبقى هنا صاحبة الرداء الأحمر… فمن غير اللائق أن تقابل الشيخ بهذا اللون الصارخ.
    (صمت، الجميع ينظرون الى بعضهم البعض بحيرة، يغادرون بصمت، يبقى السيد والإبنة على الخشبة، بعد خروج الجميع يقترب منها فيما هي تحاول الابتعاد عنه)
    السيد : منذ أيام الطفولة وأنت تحبين اللون الأحمر…
    الإبنة : أما زلت تذكر…
    السيد : وهل أستطيع ان أنسى…؟ أتذكرين عندما كنا صغاراً نلعب في القبو واقتربت منك لتقبيلك…
    كيف صفعتني بيدك وهربتي مني..؟
    الإبنة : والآن عدت من أوروبا لكي تنتقم مني؟؟
    السيد : لم أنس تلك الصفعة ولا زلت حتى هذه اللحظة أحس بالاهانة…
    الإبنة : دافعت عن نفسي وعن شرفي…
    السيد : شرفك؟؟؟ ما هذا الغباء …؟؟! هل الأوروبيون بلا شرف… قبلت ألف امرأة منهم..
    الإبنة : ما علاقتي أنا بذلك…؟
    السيد : أنت… أجمل من الألف…(يحاول الاقتراب منها)
    الإبنة : لا تقترب…
    السيد : لن تكرري الصفعة ذاتها… الآن اختلفت المواقع والأزمنة…
    الابنة : ماذا تعني…؟
    السيد : تفهمين جيدًا ماذا أعني… إن دمي في عروقي يغلي وقلبي يدق ألف دقة في الثانية ولن أسمح
    لك بالإفلات مني هذه المرة…
    الابنة : لا تحاول… أحذرك… سأملأ الدنيا بصراخي…
    السيد : سأقتلك إن فعلت … قسما بالله سأقتلك…
    الإبنة : إذاً … تقبل رفضي بروح رياضية ولا تتدخل في حياتي…
    السيد : لا يحق لك أن ترفضي لي طلباً مهما كان هذا الطلب…
    الابنة : لا يحق لي ؟؟…
    السيد : ولن ترفضي… لأن القيامة ستقوم ولن تقعد وسيحدث رفضك جلبة وفوضى وتداعيات
    ومشاورات، وفي النهاية ستقبلين بعد أن يتدخل والديك المسكينين، ويقبلان يدي وربما رجلي
    لكي أوافق أن أسامحك على طيشك وبلاهتك…
    الإبنة : هل هذا تهديد…؟؟
    السيد : بالعكس … هذا أعلان حب…
    الابنة : لم أتوقع ذلك منك … كنت أظن أنك تأثرت بالأوروبيين، بالمدنية وبالحضارة والرقي…
    السيد : (يضحك ساخراً) نعم نعم نعم… دعك من هذا الكلام الفارغ في المحاضرات الجامعية… الرجال
    في كل العالم يفكرون بنفس الطريقة… ومن يملك السلطة في كل العالم يمارسها بنفس
    الطريقة… يا حلوتي… دعك من هذا الوهم…
    الإبنة : وجهة نظر… قد تكون صحيحة لكنني لا أوافق عليها.
    السيد : وأنا لم أسألك رأيك ولا أناقشك في الموضوع لكي توافقي أم لا توافقي… أنا أبلغك قراري بطريقة
    مهذبة… (يقترب منها بفظاظة)
    الإبنة : اهدأ… اهدأ… اعطني فرصة… أعدك بأنني سأفكر بالأمر…
    السيد : ( بهدوء مصطنع) لكني لا أستطيع الانتظار يا جميلتي… يا أجمل نساء الأرض..
    الإبنة : فكر قليلاً… ما تفعله لا يليق بك أنت سيد القصر وأنا إبنة الخدم فيه…
    السيد : هذا في العلن… لكن في السر كل شيء مباح… صدقيني…
    الابنة : لكن الله يرى كل شيء… ألا تؤمن بذلك..؟
    السيد : إن الله غفور رحيم… يسامحنا إن أخطأنا… لا تشغلي بالك بهذه الامور يا حلوتي…
    الإبنة : هكذا إذاً…
    السيد : يبقى أن توافقي وتلحقي بي… بعد أن ينام القمر… إلى غرفتي.
    الإبنة : لا… لن أفعل…
    السيد : ( بهدوء مفتعل) لماذا؟؟ (بسخرية) هل أنت شريفة أكثر من أمك…؟؟؟ أم أن سلطة المرحوم
    على أمك كانت أقوى من سلطتي عليك الآن…؟
    الابنة : (بهدوء وتوتر داخلي شديد) أيها السيد … أنتم الأسياد كائنات غير قابلة للتغيير عبر
    العصور… لكن نحن الناس العاديين، في كل يوم نتغير… نتطور.
    السيد : لا تهمني عباراتك المتفلسفة الآن … ما يهمني، إنك ترفضين أوامري…؟
    الابنة : أرفض وحشيتك الحيوانية.
    السيد : (منفجراً ومهدداً) إنك تشعلين النار في غابة يابسة وسوف لن تتمكني من إخمادها …
    الإبنة : ( منفجرة هي الأخرى) فلتشتعل… ولتذهب الغابة والحيوانات التي تعيش فيها إلى الجحيم…
    لكني أحذرك… إذا اشتعلت الغابة فالنار لن تميز بين أسود ونعاج…( تهم بالخروج)
    السيد : (يمسكها من يدها) عودي إلى عملك…
    الإبنة : (تزيل يده عنها) عد إلى رشدك…
    السيد : (بهدوء مفتعل) لا تخبري أحدا بما جرى بينتا…
    الإبنة : تخاف على صورة الزعيم أن تتسخ..؟؟ لا تخف فالجميع يعلم كل شيء، لكنهم كتمثال القرود
    الثلاثة صمٌّ ، بكمٌ، عميان… إطمئن…
    السيد : (كالمسحور) ياه ما أجملك بين النساء… عنيدة ورأسك يابس… لكني سأصل إليك… أقسم بالله
    إني سأصل إليك يوماً ما… وأشبع رغباتي المؤجلة منذ سنوات… (يخرج)
    الابنة : (بعد خروجه) حقير إبن حقير…(تبصق على التابوت) تفو…
    ( تمشي باتجاه نقاط الماء المتساقطة تقف تحت إحداها، يبدو عليها الاستياء الشديد، تسلط الإضاءة عليها وحدها من الأعلى بحيث تظهر نقاط الماء المتساقطة عليها، نسمع موسيقى مؤثرة حزينة، تطفى الإضاءة)
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    الفصل الثالث
    (نسمع أصوات البرق والرعد والعواصف المترافقة مع تساقط الامطار، يسقط من الأعلى قسم من السقف ويحدث جلبة ويصدر منه غبار، يضاء على الخشبة ضوءان، واحد من جهة اليمين ويظهر تحته الأم والأب والإبنة، والثاني من الجهة اليسرى وتحته السيد والإبن، يتقطع الحوار بين الثنائيين بحسب رؤية المخرج.)
    الإبن : سيدي… ماذا حصل؟؟
    الأم : ماذا حصل… ؟
    السيد : لقد اخبرتك بما جرى بيني وبين أختك؟؟
    الأب : الحمدلله انت بخير … هل هناك شيء ما يا ابنتي؟
    الإبن : خائبة بلهاء يا سيدي…
    الإبنة : نعم… اسمعوني جيدا… أعرف أننا لا نتشارك القناعات والافكار ذاتها… وأنكم في واد وأنا في
    واد آخر.. لكن في النهاية نحن عائلة واحدة… صح…؟؟
    السيد : لكنك لن تفتح فمك بكلمة واحدة وإلا قطعت لسانك…
    الأب : صحيح…طبعًا…
    الإبن : أنا خادمك الأمين… أقسم بالله العظيم لن أخبر أحدًا حتى نفسي عمَّا سمعت…
    الإبنة : ما يحصل في هذا القصر لا يمكن أن يستمر…سيدكم الجديد هذا شاب نذل وبلا أخلاق.
    السيد : آه… الكذب والنميمة من الخطايا الكبيرة عند الله… انتبه.
    الأم : تحركت الغريزة الجامعية… هذا ما كنت أخاف منه…
    الابن : قرأت عن ذلك لكني لا أحفظ النصوص .. ذاكرتي ضعيفة سيدي…لهذا السبب تركت المدرسة منذ
    الصف الثالث…
    الأب : اسمعيها للآخر قبل أن تستخلصي العبر المأساوية…
    السيد : تركت الدراسة لاختك الذكية أليس كذلك…
    الإبنة : أمي… أبي… لقد تحرش بي… وهددني إذا رفضت، بالانتقام منا جميعاً…
    الإبن : لها الدنيا ولي الآخرة… أنا أدرس في كتاب الله…
    الأب : إهدأي يا صغيرتي… لا بد أن في الأمر سوء تفاهم… ما تقولينه غريب ومن الصعب
    تصديقه…
    السيد : وأين وصلت؟
    الإبنة : أقول لكم إنه تحرش بي… ويريدني أن أصعد إلى غرفته بعد منتصف الليل… هل تسمعون ما
    قلته؟؟
    الإبن : خلال السنوات العشر الأخيرة أنهيت حفظ الفاتحة غيباً…
    الإب : سمعنا طبعاً … وأنت هل سمعت ما قلت؟ لا يمكن أن يكون قد حصل ذلك.
    السيد : ( يضحك بشدة) حقاً… مذهل …
    الإبنة : أمي.. يريدني أن أنام في سريره…
    الإبن : سيدي… الشيخ يحبك جداً لقد أتى على ذكرك في خطبته البارحة…
    الأم : مجرد أوهام…
    السيد : الشيخ آه… قل لي … كم عمر أختك ؟
    الأم : إنها خيالات وأوهام … مفهوم…؟
    الإبن : عشرون… وشكرك علناً على تبرعاتك للأيتام والمحتاجين وأرسل اليك رسالة الشكر هذه( يعطيه
    الرسالة)
    الإبنة : لا… غير مفهوم… لم أفهم شيئاً… لم أفهم أي شيء…
    السيد : آه… ( ياخذ الرسالة ويمزقها فورًا من دون أن يقرأها) وهل لدى أختك أي صديق …
    حبيب…؟!
    الأب : هناك أشياء يا أبنتي لا تدرس في الجامعات… أشياء لا تفهم… أو لنقل.. الأفضل ألا تفهم..
    أفهمت الآن…
    الإبن : لا ابدًا… هذه الأمور ممنوعة في عائلتنا… نحن عائلة محافظة والحمد لله.
    الإبنة : أمعقول ما أسمعه… ؟
    السيد : لماذا ترفضني إذًا ؟؟
    الأب : لا تسأليني رأيي في الموضوع… فأنا أحبك يا ابنتي وأقصى ما يمكن أن أساعدك فيه هو أن
    أضمك إلى صدري.. وأبكي.
    الإبن : ترفضك؟؟؟ هل تقدمت بطلب يدها ورفضتك يا سيدي..؟(يضحكان)
    الإبنة : ماذا؟ تبكي… ؟؟ كنت أتوقع أن تثوروا كالبركان… وأن تقذفوا حممكم النارية باتجاه هذا النذل
    الحقير… ما بكم…؟ ما الذي يخيفكم…؟؟ ما الذي يخدر عقولكم إلى هذه الدرجة من المهانة
    والذل..
    السيد : غبي… وهل سأتزوجها لكي أطلب يدها؟؟؟
    الأب : ليتني أستطيع أن أختفي عن وجه الأرض…
    الإبن : آه نعم فهمت… لقد حاولت مغازلتها ورفضت… غبية… لو كنت مكانها لقبلت فوراً…
    الأم : الحرب مع الأقوياء خاسرة يا ابنتي… ونحن أضعف وأجبن من أن ننتحر… هل فهمت؟
    السيد : لماذا ترفض؟؟؟ ها..؟ تتكبر على سيدها…؟؟
    الإبنة : جبناء…
    الإبن : تتملص من القيام بواجباتها… لو كان لي سلطة عليها لجلبتها إلى تحت قدميك وقدمتها لك
    كإحدى سبايا الحرب…
    الأم : (تصفعها) اخرسي …
    السيد : أنت متأكد أنها ليست مغرومة بأحد في الجامعة…؟
    الأب : ماذا فعلت…؟
    الإبن : والله لقتلتها لو عرفت أنها تتكلم مع رجل بالحرام…
    الأم : صفعتها لكي تستيقض من نومها…
    السيد : سأحصل عليها… هل فهمت سأحصل عليها…
    الإبنة : أنت أيضاً يا أمي…
    الابن : باذن الله … الصبر مفتاح الفرج يا سيدي… ستحصل عليها انشالله…
    الأب : ليس لدي ما أقوله يا ابنتي… سامحيني…
    (تطفئ الإضاءة من الجهة اليسرى، ويختفي السيد والإبن)
    الأم : (تبكي بحسرة كأنها تقول ما يجب أن تقوله وليس ما هي مقتنعة به) منذ ولدنا ونحن في خدمة
    السيد… لم يبخل علينا بشيء طوال حياتنا… الأكل والشرب والسكن، وتعليمك في المدرسة
    والجامعة… ماذا نريد أكثر من هذا … ماذا نريد…؟؟
    الإبنة : (لا تتكلم، مذهولة )
    الأب : لا تنسي أنك تعلمتي بفضل السيد.. وهذه الأفكار ما كانت لتجد لها مكانا في رأسك لولا التعليم
    الذي حصلت عليه من فضل السيد…
    الأم : هذا ما تفرضه الأصول والأخلاق يا ابنتي… لا يجوز أن نشرب من البئر ونرمي فيه حجر.
    الإبنة : الأخلاق… (تضحك بهستيريا) تتكلمين عن الأخلاق… دماغي لا يحتمل هذا الانفصام… أكاد
    أجن… عن أية أخلاق تتحدثين…؟؟
    الأم : أتحدث بالقيم التي تربينا عليها… قيم الفقراء والمؤمنين والبسطاء…
    الإبنة : لكنه تحرّش بي ودعاني إلى سريره… وبالسر …
    الأم : وهل لديك خيار…؟؟ (تخرج).
    الإبنة : أنت يا أبي قل لي… هل يوجد في هذا القصر أخلاق؟؟ ( تصرخ بحدة) قل لي يا أبي… هل
    يوجد أخلاق في هذا القصر؟؟؟
    الأب : (تدمع عيناه) من أين جاءتنا كل هذه التعاسة يا ابنتي… يا حبيبتي… يا جميلتي…
    الإبنة : الظلم يا أبي… الظلم لا يحتمل… أكاد أختنق…
    الأب : الظلم لا يحتمل… لكننا تحملناه وصبرنا عليه يا حبيبتي… لأجلكما أنت وأخاك… عندما يولد
    الإنسان في أسفل درجات السلم يُفرض عليه أن يتحمل الدعس بكافة أنواع الأحذية لمن هم في
    الطبقات العليا من السلم… الدنيا درجات سلم يا حبيبتي… الأعلى يدوس على الأسفل…
    الإبنة : أبي…
    الأب : يا روح أبيك…
    الابنة : أتذكر الأغنية التي كنت تغنيها لي وأنت تمشط لي شعري بعد الحمام…
    الأب : (وهو يمسد لها شعرها، يغني أغنية حزينة مؤثرة للأطفال )
    الإبنة : ليتني لم أكبر يا أبي…
    الأب : ليتك لم تولدي يا صغيرتي…
    (يسمع صوت قهقهة في الخارج ثم يدخل السيد والسائق حيث نشاهد السيد يقهقه بشدة والسائق يلحقه مبتسمًا بخجل)
    السيد : غير معقول هذا الرجل… عبقري في التمثيل… خاصرتاي تؤلمانني من شدة الضحك… غير
    معقول هذا الرجل كيف يقلد الكلب… كأنه ولد من رحم كلبة…
    السائق : شكرا لهذا الاطراء سيدي… أنا أقوم بذلك للترفيه عنك فقط… لكي تخرج من جو الحزن
    قليلاً…
    السيد : نعم نعم… هيا هيا أعد ما فعلته في الحديقة مرة ثانية أمام أصدقائك …
    السائق : إنك تحرجني يا سيدي…
    السيد : أحرجك؟؟! ألم تفعل ذلك للتو…؟؟؟ كيف أحرجك…؟؟
    السائق : لقد فعلت ذلك أمامك فقط لأنك طلبت ذلك…
    السيد : وأنا أطلب ذلك منك الآن مرة ثانية… إنه تمثيل يا غبي إنه فن … إبداع… ثقافة… لن
    تصبح كلبًا إن قمت بتمثيل دور كلب… هيا هيا…
    السائق : (مرتبكاً وباحراج) لا أستطيع يا سيدي…
    السيد : (بحزم) بل ستفعل أيها السائق…
    السائق : (بانهزام) حاضر سيدي…
    السيد : (للأب والإبنة) بربكما أنظرا إليه كيف ينبح ويقفز كالكلاب … إنه موهوب جداً… سوف تنفجر
    خاصرتكما من الضحك… هيا هيا…
    السائق : ( يمثل دور الكلب الذي يقفز من مكان إلى مكان على المسرح ويقترب من السيد يمشي بين
    قدميه وهو ينبح كالكلب والسيد يقهقه بسعادة كالاطفال الصغار)
    السيد : لماذا لا تضحكان..؟ ألم تجدا ذلك مسلياً؟؟
    الأب : (بأسى) بلى بلى… مسليًا فعلاً…
    السيد : لكنكما لم تضحكا ؟ ماذا؟ تريدان الإيحاء بأنني سخيف وتافه؟؟
    الإبنة : لا طبعا ليس هذا هو القصد لكن ما يضحكك ليس بالضرورة أن يضحكنا… إنها مسألة
    شخصية جداً…
    السيد : آه … فهمت… أنتم طلاب الجامعات لا تضحكون إلا على الكاريكاتور السياسي … مثقفون
    ليس لديكم الوقت لهذه السخافات… أليس كذلك…؟؟
    الابنة : لم أقل أي شيء من هذا القبيل…
    السيد : لم تقولي… لكنك قصدتي ذلك بالفعل … إنك تهزأين مني…(يتكلم بصوت عال وبفجور)
    اسمعوا يا سكان القصر… خدم يهزأون من أسيادهم… الأقزام تهزأ من الجبابرة…
    ( تدخل الأم مسرعة)
    الأم : ما الذي حصل..؟
    الأب : أرجوك يا سيدي… لا تغضب…
    السيد : منذ عدت إلى القصر وهي منزعجة… كأنها صاحبة البيت وأنا الضيف غير المرغوب فيه…
    أنظر في عينيها فأرى فيهما كماً من الحقد والكراهية والاستكبار… (للإبنة) هل نسيت من
    أنت؟؟؟ هل تريدين أن أذكرك…؟ لقد أخطأ والدي المرحوم عندما سمح لك بالذهاب الى
    المدرسة… أيها الجاحدة… هل نسيت أن سيد هذا القصر… والدي أنا… هو ولي نعمتكم…
    ولولاه لما كنتم ما أنتم عليه الآن… لولاه، لكنتم الآن عراة مشردين تتسابقون مع الكلاب
    الشاردة على انتشال بقايا الطعام من المزابل.
    الإبنة : (بغضب) وما علاقتك أنت بكل ما فعله والدك من أجلنا؟ أنت تعلم ما كان ثمن ذلك ؟ أنت تعلم ما
    نعلمه جميعاً ولا نجرؤ على النطق به حتى أمام أنفسنا… أنت تعلم أننا دفعنا شرفنا وكرامتنا
    ثمناً…
    الأم : أسكتي…
    الإبنة : لا تقاطعيني… لكن ما لا تعلمه يا سيد… أن شرفنا وكرامتنا أغلى من سلالتك وتاريخك الحافل
    بالعهر والتسلط والظلم… ولا تعلم أن هذه الجيفة الممددة أمامنا هي في نظرنا أحقر خلق الله
    على وجه الأرض…
    الإبن : اسكتي أيتها الوقحة الملعونة… لعنك الله…
    الإبنة : إخرس أنت… وأنت لا تعلم أن زمن الأسياد والعبيد قد ولى ولن يعود أيها العائد من بلاد
    الحضارة والتقدم… ولا تعلم أننا نفتخر بأصلنا وبمعاناتنا وعذاباتنا وآلامنا وبأننا نحتقركم بقدر
    استعلائكم علينا…
    الأم : (ببكاء وخوف) يكفي… اسكتي أرجوك…
    الإبنة : سأسكت بعد أن أقول الكلمة الأخيرة… لقد مات والدك الذي اغتصب طهارتنا وسعادتنا وأحلامنا
    ومستقبلنا… ولن نسمح له بأن يعود…
    السيد : (يصفق بهدوء مفتعل وبسخرية) خطاب جميل… يصلح للإلقاء في مظاهرة النقابات العمالية…
    برافو… برافو… صفقوا لها … صفقوا … صفقوا… (ينقلب فجأة إلى الكلام بقسوة وحزم)
    سأطردك من هذا القصر ككلبة جرباء، ولن تحصلي بعد اليوم على مكان يأويكي ولا على مال
    لأقساط جامعتك… وسأستخدم كل نفوذي لمنعك من العمل في أي مكان… وستأكلي أصابعك
    ندماً على فعلتك الشنيعة هذه … قسماً بالله ستندمين على اللحظة التي ولدت فيها…
    الأم : سيدي… أرجوك… لا تفعل…إنها لا تزال صغيرة…
    السيد : بل سأفعل… هذا المرض لا ينفع معه العلاج… إنه سرطان يجب استئصاله…
    الأب : سيدي… الوعاء الكبير يستوعب الصغير… وتاريخكم حافل بمواقف الشهامة والفروسية
    والرجولة… إغفر لها خطيئتها فهي لا تدري ما تفعل…
    السائق : أرجو أن تقبل رجاء والديها يا سيدي فهي لا تزال صغيرة وطائشة… سامحها فالمسامح كريم…
    السيد : (بعد صمت قصير) قد أقبل … لكن بشرط..؟
    الأم : ضع الشروط التي تريد سيدي ونحن موافقون.
    السيد : تركع أمامي وتعتذر… وتتعهد بتنفيذ اوامري… كل أوامري.
    الأم : ستفعل سيدي.
    الابنة : (بغضب ورفض وثورة) لا… لن أفعل… لن أركع ولن أعتذر … وأفعل ما شئت أيها الفاسق
    المتعجرف المجنون.
    الإبن : (بحيرة واستغراب) هل جننت يا بنت (يصفعها على وجهها)…؟؟!
    الابنة : شكرا يا أخي… أنا خارجة…
    الأم : إلى أين أنت ذاهبة؟؟
    الابن : إلى بلاد الله الواسعة يا أمي.. لا تخافي، لن أموت من الجوع…
    الأب : الدنيا ليل والزعران يملأون الشوارع… أين ستنامي…؟
    السيد : لا تخافوا… ستعود…
    الإبنة : (بلؤم وحدة) متكبر حقير…(تخرج )
    السيد : (يضحك ضحكة مصطنعة، بعد أن تخرج ثم يقول بصوت عال) ستعودين .. وستركعين أمامي
    بإذلال أيتها الحمقاء ( يكلم السائق) أنت… أضحكني.. هيا…
    السائق : لن أفعل…
    السيد : ماذا ..؟ لن تفعل…؟ قلت لك أضحكني… هيا اقفز وانبح كالكلب… هيا؟؟
    السائق : قلت لك لن أفعل… لن أفعل … لن أفعل…(ينفجر غضباً) لن أفعل … لن أفعل… أنا لست
    كلبك… انا لست كلبك… لست كلبك…
    (الأب يمسك السائق من يديه ويحاول تهدأته)
    الإبن : ما هذا الكلام… لقد جن الرجل… حسبي الله ونعم الوكيل…
    السيد : قلت لك إن أفكار أختك سرطان يجب استئصاله…
    الأم : لا يا سيد القصر… ليس سرطاناً… بل أنت هو السرطان الحقيقي…
    الإبن : أمي…؟؟!!
    الأم : لا تلفظ هذه الكلمة على لسانك أيها العاق… كنت أنتظر منك أنت أن تتمرَّد وأن تثأر لشرفي
    ولكرامة عائلتك المهدورة المغتصبة…
    الإبن : اسكتي …
    الأم : إخرس أنت…
    السيد : كيف تتجرأين على …
    الأم : وأنت أيضاً إخرس… إخرس إخرس… فلنخرس جميعاً… وليمضي كل منا في طريقه…
    السيد : أخرجوا من هذا القصر…
    (يتصاعد صوت العاصفة ويسقط على الأرض قطعة من السقف تحدث جلبة)
    الأم : سنخرج… ونترك لكما القصر بكل ما فيه من فسق وفجور…
    الأب : هل سنلحق بإبنتنا…؟
    السائق : نعم … هيا نلحق بها قبل أن تبتعد…
    الإبن : الليل حالك جداً ولن تتمكنوا من السير في الطرقات…
    الأب : الليل حالك… لكن، ثمة نجمة حمراء تسطع في مداه ستنير لنا الطريق…
    السيد : أنتم لا تدرون عواقب ما تفعلون… عودوا إلى رشدكم…
    الأم : سنخرج من هذا القصر كما دخلناه… بملابسنا الوضيعة… وغداً… ستشرق علينا شمس
    جديدة… سنخلع هذه الثياب السود… ونرتدي ألوان الفرح والحياة…
    السيد : إلى أين ستذهبون؟ إلى أية هاوية ستسيرون؟
    الأب : لن نسير الى الهاوية بل نحن منها خارجون…
    الإبن : إنكم تدمرون أنفسكم يا أبي…
    الأب : نفوسنا مدمرة منذ خلقنا …
    السائق : لأول مرة في حياتي أشعر بالفرح الحقيقي …
    السيد : (مهدداً لكن بخيبة أمل) ستموتون من الجوع والبرد…
    الام : بل سنحيا… سنحيا… خارج قصر الموت والذل هذا…
    (يمشي الأب والأم والسائق باتجاه الخلف ويخرجون ويبقى على المسرح السيد والإبن)
    (تسقط من السقف قطعة أخرى)
    السيد : (مذهولاً ومنكسراً وبهدوء) ما هذا الذي يحصل يا شيخ؟
    الإبن : إنها العاصفة يا سيدي… أحياناً تكون قاسية ومدمّرة… لكنها ستمر…
    السيد : آه نعم… ستمرّ…
    الإبن : ستمرّ نعم… أعتقد أنها ستمرّ…
    السيد : آه … تعتقد أنها ستمرّ…
    الإبن : لقد حان موعد الصلاة يا سيدي…
    السيد : (بانكسار) صللي يا شيخ… صللي…
    (تسقط قطعة أخرى من السقف، يخاف الإبن، ويهم السيد بالخروج)
    الإبن : إلى أين سيدي…؟
    السيد : إلى الخارج… أريد أن أنظر إلى السماء… أريد ان أرى تلك النجمة الحمراء التي لن يقدر
    سواد الليل على إطفائها بعد اليوم.