نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

الناقد ناجح المعموري في كتابه ( قبعة موفق محمد ):بقلم: ناهض الخياط


 ناهض الخياط

الناقد ناجح المعموري في كتابه ( قبعة موفق محمد ):بقلم: ناهض الخياط
القبعة زي حديث لا يناسب رأس منهجه

بين أيدينا الآن للناقد والباحث ( ناجح المعموري ) كتابه الجديد ( قبعة موفق محمد ) ، الصادر عن دار تموز \ دمشق \ سنة 2012م . وقد تضمن الكتاب عشرة نصوص شعرية للشاعر ( موفق محمد ) ، مهدّ لها الكاتب بدراسة نقدية ، إعتمد في تقويمها على المنهج الأسطوري أولا ، وعلى (الفرويدي ) ثانيا ، مع ومضات من المنهج الواقعي التي تسللت إلى سياق نقده دون قصد منه ، كما أرى ، لأنها تشكل تناقضا مع المنهج الذي اعتمده لهذه النصوص ، كماتمثلَ التناقض أيضا في القبعة ، وهي زي حديث لا يناسب رأس منهجه .
لقد شغف المعموري بالبحوث الأسطورية اطلاعا وكتابة ، حتى تلبس ذهنه بخيال مدعيها السالفين ، ودرج في أحكامه النقدية على ما اعتقدوا به ، وسطروه ، فقدم عرضا شيقا لتصوراته عن نصوص الشاعر( موفق محمد ) ، وأجهد نفسه ليدفع بخطى القارئ إلى الطريق الذي حدده بمنهجه ، ويقنعنا
بأن ( لا وعينا هو الحاكم على إرادته ، وليس وعينا .
أشاد المعموري كثيرا بأهمية الشاعر ( موفق محمد ) في منجز الشعر، وما له من المكانة الأدبية والأجتماعية البارزة ، لدفاعه عن المظلومين والبائسين ، و احتضانه معاناتهم على مستوى العيش المكافح الحالم ، بخطابيته الشفاهية المباشرة ، والمؤثرة بالصوت والأداء . ويشيرالمعموري إلى
أولى خصائصه التي ميزته ، فيقول : ( لأنه شاعر مصوّت ويومي ، تتسع قاعدته بين الناس ، وعلى مختلف المستويات ، جمهوره متنوع وغفير ، ليس في مدينته ، وإنما في كل مدن العراق . وقوله : ويضفي موفق محمد مسحة من التراجيديا على ما يقرأ من قصائد ، ويفعّل بذلك ثنائية العلاقة ، الشاعر \ المتلقي . ويدعم رأيه بقول ل( بورخس ): (حقا يجب أن يُقرأ الشعرالرفيع بصوت عال ) . ولنا أن نسأل : أليس باستطاعتنا أن نقرأ الشعرالرفيع بصوت خفيض مع مرافقته بموسيقى هادئة ، أو نقرأه صمتا مع نفوسنا ، دون أن يفقد رفعته .
لقد قدم الناقد شرحا وافيا لنصوصه ، مبينا خصائصه الشعرية التي لا تتسع هذه الورقة لتمثلاتها الفنية ، وما للمؤثرات الأسطورية والأنوية في مضامينها. وقد أفاض بشرحه هذا بعد مقدمة موجزة ،
ليقحم القارئ قي أجواء منهجه بعيني نظارته النقدية ليقوده على هواه . ولكننا ، بهذه النظارة وبدونها، رأينا عالمين يتماسان حينا ، ثم يفترقان . وهما : عالم الشاعر ( موفق محمد ) الحقيقي المحدد بمكانه وزمنه ، وما مرّ ، ويمرالآن عليه من أحوال وظروف ، حافرة في وعيه وجسده ، عبرّ الشاعر عنها بصدق ووضوح ، وبشعرية خاصة مميزة ، عليها ما عليها ، ولها ما لها . ثم العالم الشعري الذي خلقه الناقد برؤيا الكاتب الأسطوري الذي كان يعبّر عما يعتقد به الناس قبل آلاف السنين ، فجاءت دراسته سردا ًأدبيا ممتعا موازيا لنصوص الشاعرفي دهشته.
لقد أتاحت اللغة الشعرية بمجازاتها في رموزها ، وأقنعتها ، وأخيلتها ، أتاحت للناقد اختراقها ، وتوجيه دلالاتها ، بلا وعيه هو، وكما يريد ، وقد ساعده على ذلك الأحساس الأنساني الأبدي ، والمشترك في معاناته الوجودية ، في أسئلته ، وفي محنه المتكررة عبر أشكال الصراع . فألبسها الزي الذي لايمكنه أن يكون مقنعا قي سياق الحقائق الثابتة التي يستحيل محوها .
يقول الشاعر( موفق محمد ) :
( لم أكن شاعرا في يوم ما ...
فانا راو ٍلشاعرة اسمها الحلة )
قبل أن تموت أمي
سقطت دمعة من رحمها
فكانت هذه الشجرة ( قصيدته \ الطاق )

ويقول فيها عن أمه : تأخذ أمي مكانتها في الشريعة
فياتي النهر إلى حضنها
وبصوت عذب من كل مياه الأرض
تهمس في أذنه :
( دللول يا الولد يبني دلل لول )
وعن أبيه يقول :
في الماء ينحني أبي ليلقي التحية على معلمه
فيرد النهر بأحسن منها
مما تلاحظه أن الشاعر يضفي على أمه وأبيه غلالة رمزية تشف عن علاقتهما الطاهرة بالحياة ، لأن النهرهو شريانها ورمزها ، أما الناقد فقد فسرمعناه بما أوحى له منهجه الأسطوري و( فرويد) معا ، فيقول : ( وأخضع الشاعر( موفق محمد ) النهر إلى مجال الأسطورة الأزلية المتوارثة مع عقائدها و طقوسها كما جعل منه غرائبيا ، وأضفى عليه خصائص آدمية ، لأنه معني بما هو إنساني وذكوري..\ ص63 ) . و( الأم المتمركزة في أغلب نصوص موفق محمد هي الأم الحقيقية والرمزية في الأسطورة ) . لقد اخترت أقل طروحات الناقد تطرفا لأعتبارات إجتماعية.
ولم يسلم من رؤيا الناقد حتى جسر الحلة القديم . قال ( موفق ) عنه في نصه ( غزل حلي ) :

وأعتذر.. أحب جسرها القديم
لم يحلق لحيته
رفقا بالصبية المتعلقين فيها
وأنام في موجة تحته
أسمع أ نينه وهو يرى الجنود
العابرين إلى الحروب
ويقول عته في نصه المقطعي :
مكتئبا ًأسيان
شاخ على مهل جسر الحلة
طالت لحيته وابيضت
فتعلق فيها الصبيان
يعلق الأستاذ الناقد فيقول : ( لم يكن الجسر في النصين شكلا معماريا ووسيطا لعبور المشاة ، بل هو وسيط رمزي اتصالي ، ينطوي على معنى اجتماعى ثقافي ، حضاري..\ ص 16
أما أنا فأقول : إن الجسر بنا ء معماري ، تقتضيه حركة الناس اليومية والحياتية في أي زمان ، وهو في مجازاتنا اللغوية رمز للتضحية لأولائك الذين يجعلون من أجسادهم وأرواحهم معابرللأخرين .
ولا أوضح من قول الشاعر ( الجواهري ) على دلالته رمزا للفداء :
سلام على جاعلين الحتوف جسرا ًإلى الموكب العابر ِ
ألم يكن ( موفق محمد ) الشاعروالمدرس المخلص ، والمضحي هو الجسرالذي يعبر عليه تلامذته،
ومنهم من أحرقتهم الحروب ، وهو يئن لهم ، ومع أولائك التلامذة الصبيان الذين يقضون شطرا ممتعا من حياتهم برفقته ، وهو يبلى ويشيخ ؟ وليس ( المعني بما هو إنساني وذكوري ) كما نعته ناقدنا .
وكما أخضع المعموري نصوص الشاعرلهيمنة الأسطورة في معاني مضامينها ، فقد جعل الشاعر محاكيا لما تتميز به الأسطورة من نكرار الجمل في سياق سردها. وأرى أنها تقنية أعتمدها الشاعرلشد انتباه المستمع إليه قي تصوصه المطولة ، ولتكرار ما يود تكراره ، حينما يلتقط صدى تأثيره في نفوس سامعيه.
لقد اختلق الناقد في نصوص الشاعر ( موفق محمد ) ، كما أرى ، مجالا لتطبيق منهجه الأسطوري باعتداد ، ضاربا بقوة كل العلامات المرشدة عن المطبات والمنحرفات ، وما يؤدي به إلى بدايته ،
فماذا لو توقف التاقد قليلا عند هذه اللوحة ليقرأ قول الشاعر :
ما أضيق العالم
وما أوسع ازقتنا
ونحن نرى العواصم
مثل رؤوس الدبابيس على الخارطة
الطاق ( بأهالي تشرشل )) فمن ورّط
وكذلك قوله : من نافذة في منتصف الليل
وعلى غفلة من الآلهة المتهارشين
على الكراسي
تاركين الوطن كعصف مأكول
فهنا ، وفي شواهد أخرى كثيرة في لحمة النصوص ، أبعدها الناقد عن تمثلاته الأسطورية ، لأنه لم يجد فيها منفذا لمجسات منهجه ، ولأنها تمثل وعي الشاعر بعصره ، وارتباطه بواقعه .
وعلى أية حال ، فإن اختلافنا مع الناقد في رؤيته ـ لا يقلل من قيمة أطاريحه بكونها ، أولا ، اجتراحا جريئا بين ما اعتدنا عليه من مدارس النقد في اتجاهاتها ، وثانيا ، إحتفاؤها بمنجز شاعر بارز له حضوره وأهميته في مسار الشعر الحديث ، ينبغي أن يكون هذا الأحتفاء الكبير، تقليدا ثابتا عندنا ، وإثارة للذين تصدروا النقد ، والحكم على ما يقدمه المبدعون ، أو ما قدموه .
  ناهض الخياط