نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

الفنون الرقمية بين حرفية المبدع ومشكلة التلقي:بقلم:د. ثائر العذاري


 د. ثائر العذاري

الفنون الرقمية بين حرفية المبدع ومشكلة التلقي:بقلم:د. ثائر العذاري
تتيح تقنية (الوسائط المتعددة) إمكانات هائلة تطلق العنان لخيال المبدعين لإنتاج مختلف أشكال الفنون ابتداء بالرسم وانتهاء بالسينما مروراً بالموسيقى والنحت والكولاج والأسمبلاج وغيرها من الفنون. بالاعتماد على طيف واسع من البرمجيات التي تتيح التعامل مع الوسيط الرقمي، كما تتيح إمكانية النشر على الإنترنت سهولة الوصول إلى المتلقي أينما كان في المعمورة. غير أن مشكلتين كبيرتين ما زالتا تواجهان هذه الأنماط الجديدة من الفنون؛ أما الأولى فهي إضراب الكثير من الفنانين المبدعين عن خوض غمار هذا الفضاء الجديد؛ لأنه يتطلب منهم الاعتياد على نمط مختلف تماماً من المعالجات، فكل فن في العالم الواقعي ينشأ من خامات معينة يتعامل معها الفنان بأدوات خاصة. بينما يختلف الفضاء الرقمي في أنه يعطي الفنان أدوات، هي البرامجيات مثل Photoshop و3DMAX وVirtual DJ ويترك له خلق الخامة المناسبة اعتماداً على تلك الأدوات. ولا تبدو هذه مشكلة كبيرة فلقد مرت الفنون في تاريخها بهزات كبيرة في عصر الحداثة أدت إلى انقلاب الكثير من المفاهيم خاصة فيما يتعلق بالخامات كما فعل الدادائيون والتكعيبيون، ونريد هنا أن نُذكر فقط بما فعله (دو شامب) في قضية (المبولة) الشهيرة. فبعد حين سيظهر جيل من الفنانين يتعود النحت والتصوير والتأليف الموسيقي اعتماداً على برامج الحاسب لا غير.
لكن المشكلة الثانية هي العقبة الحقيقية التي تؤخر تطور الفنون الرقمية وشيوعها. وهي مشكلة خاصة بالمتلقي. فالتلقي عملية عقلية تقوم على مجموعة من العادات والخبرات التي يكتسبها المتلقي خلال حياته، فحين نقرأ قصيدة مثلٍا فنحن نقبل عليها وقد هيأنا أنفسنا لاستقبال نمط معين من اللغة والإيقاع والصور التي اعتدنا أن يلتزم بها الشعر. وحين نقبل على قراءة رواية نفتح أدمغتنا لاستقبال أشكال محددة، اعتدنا عليها من التلاعب بالزمن وصيغ تقديم الشخصيات، وقل مثل هذا عن الموسيقى والنحت والسينما. فعادات التلقي هي التي تشكل ردود أفعالنا واستجاباتنا للعمل الفني. فنحن نستمتع بقدر ما يستطيع المبدع إدهاشنا بما لا نتوقع من غير أن يخرج تماماً على منظومة توقعاتنا.
في الفنون الرقمية نجد أنفسنا بإزاء جنس فني جديد تماماً، لا نمتلك خبرة التلقي الكافية التي تجعلنا قادرين على بناء شكل نموذجي للتوقع، وهو ما يسميه المشتغلون بالنقد (أفق التلقي)، فنحن لم نطوّر بعد العادات والخبرات التي تمكننا من فعل ذلك.
من ناحية أخرى تتيح الفنون الرقمية إمكانات للتلقي لا تستطيع الفنون التقليدية إتاحتها؛ منها أنها تتيح للمتلقي التعبير عن استجابته لغوياً، من خلال وضع تعليقه على العمل المنشور في صفحة إلكترونية، وهذه سمة تساعد المتلقي على عدم الاكتفاء بالاستجابة الانطباعية، والتقدم خطوة نحو استجابة إيجابية يمكن التعبير عنها لغوياً، ومن هنا تأتي السمة الأخرى لهذه الفنون وهي إمكانية التفاعل بين المنتج والمتلقي والناقد، فمن خلال التعليقات والردود تنشأ عملية عصف ذهني ينتفع بها الثلاثة، إذ سيتطور عند الجميع فهم أفضل للعملية الإبداعية، في التجربة التالية لكل منهم.
 :د. ثائر العذاري