نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

حاجتـنا لبناء ثــقافــــة مجتمعية رصينة / نهاد الحــــديـثي


 نهاد الحديثي

لكل مجتمع مهما كان شكله أو طعمه أو رائحته ثقافة يمكن من خلالها تحديد ملامح هذا المجتمع، أما المقصود بالثقافة ،هنا ليس الفنون المكتوبة والآداب ولكن المقصود الحياة نفسها وكيف يعيش ذلك المجتمع حياته و ماهي أدواته للعيش وكيفيستخدمها. في كثير من المجتمعات يسهل عليك أن تجد الملامح الرئيسة لثقافة ذلك المجتمع وذلك في عدة مواقع فمثلا قدتذهب إلى الشارع أو تستمع إلى الراديو أو تشاهد التلفزيون أو تشاهد مسرحية أو فيلما في ذلك المجتمع عندها سوف تجد انكتستطيع أن تحدد أركان هذه ثقافة هذا المجتمع ببساطة، مثل هذه الثقافات سوف تكتشف بسرعة أنها تتفق على قضايا مشتركة،بين أفرادها بينما تترك ما تختلف عليه بعيدا عن واقعها لذلك أصبحت سهلة الفهم امام الاخرين---والسؤال الذي حيرنا جميعا وحير غيرنا هو: أين يمكن أن توجد ثقافتنا المجتمعية...؟ وبطريقة أخرى كيف يمكن أن نبني ثقافة مشتركة بيننا بعيدا عن الدوران فقط حول مجتمعنا بثقافات متعددة..؟ لنكن صرحاء حول ثقافتنا المجتمعية نحن كما يبدو من المشهد الاجتماعي لا نملك ثقافة متفقاً عليها من الجميع وهذا لب المشكلة، عندما نذهب إلى المسجد يوم الجمعة نجد ثقافة قد تتعارض كثيرا مع مقتنيات منازلنا وقد نجد من يصادر محتويات منازل الكثير من أفراد المجتمع

يتفق الباحثين والمختصين في مجال بناء المجتمع المدني وغرس الافكار الحديثة، الخطوة الرئيسية لنشر اية مفاهيم جديدة تتمثل في زيادة المعرفــــــــة في عقولهم،وان تكون الثقافة هي التقليد اليومي وجزء من مفردات الحياة عمليا وسلوكيا، ولنشر ثقافة السلام كي تصبح ثقافة مجتمعية لابد من الاخذ بنظر الاعتبارالافراد قبل القيادات ،وانتصبح هذه الثقافة جزءمن الموروث الحياتي اليومي ،وتلعب مؤسسات الاعلام دورا مهما في ترسيخ القيم التربوية والتعليمية لثقافة مجتمعية واعية ومن خلال ما تبثه وسائل الاعلام فهي تتطلب قدرة ومهارات معرفية كبيرة للعاملين في وسائل الاعلام بخصوص اسس بناء السلام ونشر وترسيخ السلام عبر برامج ومواد اعلامية مختلفة ومنوعة وهادفة ،دون اغفال دور الاسرة والمؤسسات المدنية بهذا الشأن او بما ينفذه من برامج وفعاليات في عدة ، تستند الى قبول التعددية والتنوع والاختلافوالاستعداد للعمل من اجل تعلم وممارسة اسس السلام من العائلة وطبيعي ان هذاالامر يحتاج الى كميات هائلة من المعرفة لان الموجودة حاليا لدى الافراد،قليلة جدا بهذا الخصوص.
وبخصوص المؤسسات التربوية لابد ان ترافقها بحوث ودراسات وموادة معرفيةتضخ باستمرار في عقول الاجيال حتى يتم تغير الموروث الرفضي لقبول هذهالثقافة بأعتبارها دخيلة كما يصفها البعض احيانا او بسبب قلة المعرفة حولهامع التأكيد على دور تأهيل المدرسين والمربين بهذا الشأن وزيادة مهاراتهمفي مجال هذه الثقافة وادخالهم دورات وفعاليات يتدربون على اليات نشر وترسيخثقافة السلام، هذا الامر ليس من الصعوبة تحقيقه اذا ما وضعت الخطط وخصصت ميزانية و تمتأهيل قادة و مسؤولين لادارة هذا الملف ، ايضا لابد من الاخذ بنظر الاعتبارتوظيف المعنيين وقادة المجتمع لكي يقوموا بمبادرات حول اهمية هذا الامر واعداد دراسات ميدانية عن حلقات الضعف والتحديات اتلتي تواجه نشر هذهالافكار وايجاد الحلول لها وصولا الى ان تصبح ثقافة السلام ثقافة مجتمعيةوجزء من الموروث اليومي لحياة الافراد.
كتب الأستاذ فهمي  هويدي عن واقعة الرئيس الألماني كريستيان فولف الذيانتخب لمنصبه حديثا واضطر للإنتقال من موطنه في مدينة هانوفر إلى برلينالعاصمة ، وفي برلين فشل في  إلحاق ابنه بدار حضانة حكومية تتقاضى أسعارارمزية حيث لم يجد مكانا شاغرا لأن الأماكن المتوفرة في الحضانات أو المدارسالحكومية لا تستوعب سوى 43% من أطفال مدينة برلين، فاضطر السيد الرئيس إلىتسجيل ابنه في قائمة الانتظار التي تضم كل عام عشرات الأطفال لحين خلو أحدالأماكن ، وقال الرئيس لبعض أجهزة الإعلام  أن منصبه يحظى باحترام كبيرحقا، لكن ذلك لا يعني أن يغير من نمط حياته هو وعائلته،أو أن يعاملوامعاملة خاصة تميزهم عن غيرهم من المواطنين. وقال الأستاذ فهمي "إن الرؤساءالذين نعرفهم ما إن يقبض الواحد منهم على منصبه حتى ينتقل من مصاف البشرإلى مصاف الآلهة" ولذلك كان طبيعيا أن يعجز المستشار عن حجز مكان لابنه فيالحضانة "في حين أن الآلهة في أقطارنا يحجزون الأوطان كلها لأبنائهم".
هي في الحقيقة ثقافة مجتمعية أكثر من كونها مسلك شخصي لمسئول بعينه في بلدمعين من بلدان العالم، سواء كان الحاكم في مصاف البشر العاديين أو في مقامأعلى منهم. كلا الحاكمين  سليل ثقافة مجتمعية معينة هي التي تشكل تصرفاته. حكى لي قبل سنوات أحد معارفي أنه كان مسافرا بالقطار في عطلة نهايةالأسبوع في السويد وتصادف أن كان مسافرا معه على نفس القمرة رئيس وزراءالسويد الراحل أولف بالمة ، استغرب صاحبنا من تلك المفارقة،كيف لرجل ذيمكانة عالمية مرموقة وحاكم دولة بمكانة السويد أن يسافر معه كراكب عادي علىنفس الدرجة ونفس القمرة بهذه البساطة. وفوق ذلك كان بالمة هو الذي ابتدرمعه الحوار ثم أخذ يصغي باهتمام شديد ويطرح بعض الأسئلة حينما كان صاحبنايحدثه عن السودان، وردا على تسائل تحرج صاحبنا من طرحه بشكل مباشر ولكنه لميفت على حصافة بالمة، قال إنه في عطلة قصيرة خاصة وليس هناك ما يمنعه منركوب القطار ويفعل مثلما يفعل الآخرون. المهم أن الرحلة  انتهت وترجل  الإثنان من القطار ثم ذهب كل واحد منهما  في سبيله، ولم يكن هناك من مستقبللأولف بالمة، ليس ذلك فحسب، كما لاحظ صاحبنا، ولكن أولف بالمة تسلل خارجامن المحطة في هدوء كغيره من المسافرين.
كريستيان فولف الذي أثار إعجاب الأستاذ فهمي هويدي، ومن قبله أولف بالمة،وكثيرون غيرهما،لم يأتوا من فراغ، ولم يكن مسلكهم مجرد اجتهادات وقناعاتشخصية ومناعة خلقية معزولة عن المجتمع، ولكنهم حصاد تراكمات حضارية  وتجاربطويلة  امتدت عبر  قرون وعقود من الزمان لم تكن خالية من الدماء والصعودوالسقوط، وهم أيضا تجسيد لثقافة اجتماعية اتخذت شكل المؤسسية الثابتة من قيمة العقل وقيمة الانسان، ونقولها للاسف إن مجتمعاتنا أصبحت غير قابلة للتحرك بل وترفض كثيراً من التحرك إلى الأمام نتيجة تزاحم الثقافات الجزئية السائدة فيه بحجة أن ذلك مختلف مع الماضي، نحن بحاجة إلى أن ندرك أين نحن وأين ثقافتنا لنشترك جميعا في بناء ثقافة مشتركة لا ترى أهمية إلا للمجتمع وحده ولحياته الفكرية والاجتماعية والسياسة والاقتصادية