نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

    أشجار أحمد رفيق عوض تؤثِّث "الحياة كما ينبغي : الصحفية ناريمان شقورة/ منصة الاستقلال الثقافية


    يدٌ ظهرت عليها التجاعيد تحمل وردةً أطلَّت جذورها من بين الأصابع، ويخرج منها برعم زهرة. بينما يطل رأسها الوردي وهو يحمل رصاصةً مستعدةً للانطلاق، والخلفية جنودٌ مدجَّجون بالسلاح، قادمون من بعيد، تعلوهم سماء زرقاء.

    إنها ليست تابلوه ولا لوحة فنية تستحق الدراسة، بل هي خلفية لرواية "الحياة كما ينبغي"، أحدث روايات الروائي الفلسطيني أحمد رفيق عوض. وبما أن الغلاف هو أول ما يقع عليه نظر القارئ، وهو ما قد يدفعك بعنوانه للقراءة أو التصفح السريع كخطوة أولى، فحُقَّ لنا وصفه، مع الإشارة إلى أن لوحة الغلاف للفنان الفلسطيني عماد أبو اشتية، والغلاف من تصميم الفنان والشاعر زهير أبو شايب.

    وهذه العناصر القليلة الكثيرة لها في كل عين تفسير خاص، فقد توحي لك تلك اليد الجعداء بالتقدم بالسن وما دامت تحمل وردة فقد توحي بالتمسك بالأرض، وفي ذات الوقت تحمل رصاصة، ما قد يعزِّز أيضاً التشبُّث بالأرض والدفاع عنها، وقد تراها عينٌ أخرى يدَ المزارع الملتصق بالأرض. أما أولئك المدجَّجون بالسلاح فإنهم جنود الاحتلال الذين يبحثون في كل اتجاه عن أي حلم فلسطيني ليغتالوه أو يعتقلوه، أما السماء الزرقاء فهي إشارة الأمل.

    أشجارٌ.. فصولٌ.. وإهداء

    القندول، والزنزلخت، والدُّفلى، والبطم، والجرنك، والحور، والعبهر، والقيقب، والزعرور، والتبغ، وغيرها، كلها أسماء لنباتات اتخذ منها الروائي عناوين لفصوله، إلى جانب الأشجار المعروفة كالليمون، والصبّار، والبلوط والصنوبر، وكلها موجودة في فلسطين، حتى أن الإهداء كان موجهاً لأشجار البلاد وأهلها.

    الرواية في سطور

    ومما خصَّ به عوض "منصة الاستقلال الثقافية" حول الرواية، أنها "حكاية شاب فلسطيني ينفِّذ عملية مقاومة وتبدأ قوات الاحتلال بمطاردته فيختبئ في قرى جنين في محاولة للنجاة بالمعنى الوطني الكبير وليس الفردي، بالإضافة لتناول الرواية لشخصية أبي السعيد، وهو ضابط مخابرات إسرائيلي يعاني من عقد نفسية فردية وجماعية وينتهي به الأمر للانتحار، بينما ينتهي الأمر بالمطارد الفلسطيني بانطلاق الأمل والآفاق، لذلك تلخِّص الرواية فكرة الحرية والظلم والتاريخ ومآلاته، وهي أشبه بالعقدة البوليسية لكنها تتجاوز ذلك من خلال المعاني الكبرى: كالحياة والاشتباك للشعب الذي يريد الحياة والآخر الذي يحتله، ولأن منفذ العملية يختفي عن الأنظار؛ فتتوطد علاقته بالأرض والأشجار عوضاً عن البشر، بكل ما يعنيه الشجر من حماية وعطاء وحياة".

    وعن مفهومه للحياة أجاب عوض: الحياة دون كرامة أو حرية ليست بحياة، كما أن انعدام الأهداف أيضاً يُفقدنا الحياة، مشيراً أنها يجب أن تُعاش بالمعنى الحسّيّ بحيث تقوم على الانطلاق والحرية والسماء المفتوحة والأرض البِكْر والحياة الأسرية، مؤكداً على جمالها المستَمَدّ من الطبيعة والألوان والمعاني السامية، لافتاً إلى أن الحياة لا تخلو من المسؤولية، بل يجب أن تكون لتعطي للحياة معنى، فهي ليست فقط للمتعة التي تنتهي عادةً بالذنب.

    الاحتفاء بالرواية

    وفي حفل إشهار الرواية، واحتضنته مساء أول من أمس، قاعة الجليل في متحف محمود درويش بمدينة رام الله، حيث حاوره الكاتب تحسين يقين، بمشاركة الكاتبين فراس حج محمد وأمير داوود، وسط حضور نخبوي ضم عدداً من الكتاب والمسؤولين ومحاضري الجامعات والطلّاب.

    وأشار يقين إلى أن الكاتب في هذه الرواية التي تحمل العديد من الجماليات والرمزية قد جدَّد نفسه، مشيراً إلى تميز الكاتب روائياً حيث يكتب بنَفَس عالمي يجعلك توقظ حواسك الخمس عندما تقرأها، وتتحسَّس الطين وتشتم روائح الشجر، لافتاً إلى أن التاريخ جزءٌ من كتابات الروائي عوض، ومنوِّهاً إلى أن العنوان بحد ذاته مشوِّقٌ، وأن الرواية تشكل مقترحاً فكرياً وسياسيّاً ووطنياً، في إشارة إلى "انتفاضة السكاكين"، كما نوَّه يقين إلى أن الرواية تدحض روايات الاحتلال على أكثر من صعيد.

    من جهته أكَّد الكاتب أمير داوود أن الرواية تشكل رافعة للحالة الوطنية، وتستهدف الشباب والفئات الأخرى، مشيراً إلى أنها تحيل إلى مكانين: كيف هي الآن، وكيف عليها أن تكون في هذا السياق الأدبي... وقال: "هي رواية تُعيد الاعتبار للشعار الوطني في الزمن الذي تحوَّل فيه المواطن إلى مفرط في الفردية وفي الهَمّ الذاتي، بالتالي تعيد الاعتبار للشهداء والمخيمات والجراح وللتفاصيل الوطنية التي كادت تذوب في الهموم اليومية الصغيرة".

    وفي نقاش لجزء آخر من الرواية، أكد داوود أنها تُقفل في مكان وتفتح في مكان آخر، مشدداً على الأهمية التي يراها فيها، كون الرواية تطرح فكرة "لا انتصار تام ولا هزيمة تامة".

    ومما وصف به داوود الرواية أنها "مشروع لغوي ذهني يجعلك تقرأ للنهاية"، وأنها امتداد لرواية الكاتب "في بلاد البحر"، مشيراً إلى أنها تنتمي لـ"أدب الطبيعة وأدب الرحلات، ما ينم على ثقافة الروائي بالطبيعة الفلسطينية الممتزجة بالخصوصية العاطفية"، لافتاً إلى "الحبكة الذكية التي استخدمها الكاتب".

    من ناحيته أكَّدَ الكاتب فراس حج محمد أن "موضوع الرواية مهم، وتنبع أهميته من اقتراحاتها الجمالية ومقولاتها السياسية"، لافتاً إلى أنها "مبنية على الوعي الجمالي والفني والسياسي، كون الكاتب محاضر جامعي في مجال العلوم السياسية"، مشيراً إلى أن هذه الرواية تُحيل إلى الكاتب الفرنسي لوك فيري الذي محور كتابه "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، على هدف مهم وهو "الحياة كما ينبغي أن تعاش"، وقد وجد لها نظيرا في رواية د. عوض، مؤكداً أن "من أهم المقولات السياسية التي جاءت في الرواية: "نحن لا نقاوم من أجل أن نقاوم فقط، إذ لا بد من أن يكون هناك مكاسب سياسية".

    وتحدث حج محمد عن متلازمة ليما التي تجسدت في شخصية رجل المخابرات أبي السعيد الذي وقع في "غرام الضحية"، عبر حكاية ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي أُغْرِمَ بحياة الفلسطينيين، بينما كان يطاردهم، بل وسمَّى ابنه باسم عربي (سلمان)، وأصبح يأكل طعاماً فلسطينياً، ويتحدث العربية، ويدخن النارجيلة، رغم أنه "عبد" للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، متحدثاً عن "عمق نفسيٍّ كبير تطرحه الرواية في أبطالها".

    وبعد مداخلات ضيوف النقاش أكَّدَ عوض للحضور ارتباطه بالأرض والأشجار، بسبب نشأته في أسرة تهتم بالأرض... وعن الأسماء في الرواية أكَّد أنها كانت تقفز إليه دون تخطيط منه رغم دلالاتها، مشيراً في سياق حديثه للحضور إلى أننا "نعيش حالة انعدام للخصوصية"، ما يعزِّز أهمية الحرية وإنهاء حالة الذل التي نعيشها في يومياتنا تحت الاحتلال.

    من الجدير بالذكر أن رواية "الحياة كما ينبغي" صادرة عن الأهلية للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، وللكاتب روايات: "العذراء والقرية"، و"قدرون"، و"مقامات العشاق التجار"، و"آخر القرن"، و"القرمطي"، و"بلاد البحر"، و"عكا والملوك"، و"الصوفي والقصر".

    إلى من يدافعون عنهم : لم تقرؤوا تلك الكتب أنتم أيضاً فراس حج محمد/ فلسطين

    على خلفية ما تعرض له سلمان رشدي من اعتداء عليه، بالطريقة ذاتها تقريبا التي تم فيها الاعتداء على نجيب محفوظ، طعنات متعددة منها في منطقة العنق، انهالت بكائيات الكتاب في تمجيد حرية التعبير، شرقا وغربا، واصفين العمل بأنه عمل إرهابي وحشيّ. حادثة الاعتداء على رشدي أعادت إلى الواجهة ما حصل مع نجيب محفوظ، أو ما تعرض له الدكتور  حامد نصر أبو زيد وحيدر حيدر، ونسي القوم- على ما يبدو- فرج فودة الذي ذهب ضحية الجماعات المسلحة. لكل واحد من هؤلاء قصة لا يمكن أن تجتمع كلها معا إلا عن طريق التلفيق وإجبار الجمل لأن يدخل في سم الخياط، وأما بخصوص سلمان رشدي تحديدا، فلا بد من بيان النقاط الآتية:

    - لا يصح تحميل النظام الإيراني مسؤولية الاعتداء عليه، لأن الفتوى بمقتله تجاوزها النظام وحكامه ولم يعودوا يحفلوا بها، بل جاء الاعتداء على رشدي في قلب أمريكا، في نيويورك في مؤتمر، وعلى الهواء مباشرة. لقد تمكن الإرهابي من طعن رشدي 18 طعنة، قبل أن تتمكن الشرطة من السيطرة عليه، سلمان رشدي كان يعيش في بريطانيا باسم مستعار وتحت حراسة مشددة ما الذي جعل هذه الحراسة معدومة، بل ويتمكن المعتدي من الوصول إليه بهذه السهولة ويستمر في تسديد الطعنات. غالب الظن أن الأمر لم يكن أكثر من ورقة ضد النظام الإيراني، ولعل مفتعلها ممن لا يريدون للاتفاق النووي أن يتم، فلم يكن محور الأخبار الموالية لأمريكا عربيا ودوليا إلا فتوى الإمام الخميني، وتسجيل قديم للسيد حسن نصر الله يحرض فيها على مقتله، فهل تستطيع أمريكا أن تذهب في تحقيق مستقل للكشف عن الفاعل الحقيقي؛ من يقف وراء المعتدي؟ على عائلة سلمان رشدي أن يطالبوا بمثل هذا التحقيق وأن يطلعوا على أدق التفاصيل فيه.

    - كل ما قرأته من مقالات صحفية تتهم المعتدي أنه لم يقرأ رواية رشدي موضع الجدل، بل إنني على يقين أنهم أيضا هم هؤلاء المدافعون عن رشدي لم يقرؤوا تلك الرواية التي وصفها نقاد بالبائسة، ولم تكن رائجة في الأوساط الثقافية، وحسب علمي أنها غير مترجمة إلى العربية، وهي رواية- كما جاء في أحد التقارير الصحفية- مؤلفة من أكثر من (500) صفحة. ومن يستطيع قراءة رواية بائسة تمتد إلى مثل هذه المساحة؟ وأنه ثمة ما هو أكثر أهمية منها صدر قبلها، ولم يكتسب شهرته الأدبية منها بل من أعمال أخرى أكثر فنية، أيضا كما جاء في بعض التقارير.

    - إن هذه المقالات الواقفة مع رشدي تكاد تكون نسخة واحدة مكررة، المعنى نفسه، والتهمة واحدة، وهي نفسها التي كنت قرأتها في حادثة الاعتداء على نجيب محفوظ، بل إن كثيرين ممن دافعوا عن نجيب محفوظ لم يقرؤوا روايته تلك موضع الجدل أيضاً كما لم يقرأها المعتدي. لقد باتت هذه المقالات تعاني من البؤس الشديد إلى درجة الملل، فما عليك إلا أن تغير أسماء الأعلام لتكون صالحة في حادثة قادمة مشابهة. إن تهمة عدم القراءة لاحقت المرشد العام للثورة الإيرانية الإمام الخميني رحمه الله، كما جاء في تقرير لفضائية عربية موالية لأمريكا.

    لا أحد يستطيع أن يوجه لكاتب يقف ضد الاعتداء على رشدي سؤال: هل فعلا قرأت الرواية؟ وهل بإمكانك أن تعطينا- نحن الجهلة الكسالى- نبذة عن الرواية تؤكد أن الروائي لم يمس معتقداً؟ على كثرة تلك المقالات لم يتطوع أحد ليزيل جهلنا، بل ظل الجميع سادرين في غيهم، يمجدون الضحية ويشطنون الإرهابي المعتدي، ويتحسرون على العالم.

    وهل يعتقد هؤلاء الأغبياء أن جمهورا واسعا يثور ضد كاتب أو قضية لا يعرف عنها شيئاً؟ يكفي هنا في هذه المسائل أن يقف الناس وقفة جادة بناء على رأي صحيح من شخص تثق فيه الجماهير، كما تفعل هذه الجماهير في السياسة؟ إنها تنصاع للحاكم لأنها تثق فيه أو لأنها تخاف منه، إنهم يتناسون "سيكولوجية تحريك الجماهير"، ليس مطلوبا من كل فرد أن يطلع على خيانات الحاكم ليثوروا ضده، إنما قام به أحدهم والجماهير تثق فيه، وعليه تقاد الجماهير وتتحرك.

    عندما اشتعلت فتنة "حيدر حيدر" وروايته "وليمة لأعشاب البحر" في التسعينيات، قرأت من بعض من دافعوا عن حيدر حيدر عن روايته، وفسروا المواقف الإشكالية فيها فنيا، لقد كان الكتّاب في ذلك الوقت أكثر رصانة وحكمة ومقولية، على ما يبدو مما هم عليه الآن. في حالة حيدر حيدر لم تكن السيطرة على العقول بهذه السهولة التي نقع فرائس لها هذه الأيام.

    - على أية حال، من يتحمل مسؤولية نفخ سلمان رشدي هو تلك الفتوى الشيعية التي جاءت بناء على مصدر معارضة سنية في باكستان، ولعل ظروف نشأتها كانت سياسية، فمعروف عن الخميني أنه كان ضد كل ما يفرق بين السنة والشيعة، وقام بإجراءات متعددة حتى لا يؤذي المشاعر الدينية للمسلمين السنة في إيران، وكان بحاجة والثورة في بدايتها تقريبا إلى تعزيز الثورة ومكانة إيران الإسلامية، هل معنى ذلك أن الإمام تسرع في إصدار الفتوى؟ وهل إلى هذه الدرجة يتم إهدار دماء الناس؟ هنا يجب ألا نصدق أن رجلا كالخميني اكتفى بكلام عابر ليصدر فتواه، بل إن عنده من الأدلة الكافية لفعل ذلك. لقد سعى الإعلام الأمريكي المتصهين شيطنة الخميني وتجهيله، وهذا أيضا من دائرة الحرب على النظام الإيراني الذي يخوض معركة ليست سهلة مع العالم من أجل إثبات حقه في أن يكون له مشروعه النووي. إنه صراع سياسي محتدم، وكل الأسلحة فيه مشرعة وشرعيّة.

    - أعتقد أنه لا أجمل ولا أنفع من ألا يدخل الأدب في معمعة الصراع السياسي، وقتل الأدباء، وأفضل طريقة للخلاص من رشدي وأمثاله هو السكوت عليهم وعدم منحهم فرصة أن يكونوا أيقونات حرية، فمثل هذه الأحداث تصنع منهم تماثيل حرية خاوية، تمرر من خلالها كثير من الأهداف. لذلك فإن ما حدث أيام طه حسين في الرد عليه وعلى أطروحاته في كتابه "في الشعر الجاهلي" هي أسلم طريقة، مواجهة الحجة بالحجة، بل إنه أنتجت الكثير من المؤلفات النافعة التي ما زالت مراجع ومصادر إلى اليوم، لكنني أعود وأكرر بصريح العبارة: أنه من الممكن أن يكون وراء هذا الحادث والأحداث المشابهة أيدي مخابرات قذرة، لتحقيق مصالح سياسية. فلا تدري كيف يدار هذا العالم، وأي آلهة خفية تلعب به، حتى أنني أكاد أكون على يقين أنه لو انقطعت الكهرباء في قريتنا النائية التي تقف على طرف العالم الهش سيكون وراءها يد تعمل لصالح الإرهاب العالمي التي تقوده أمريكا، وينفذه عملاؤها، فهل كثير عليهم أن يهيئوا الأجواء ليطعن رشدي 18 طعنة قبل أن ينقل إلى المشفى؟

    - أتمنى لرشدي السلامة فعلا، لكن عليه وعلى أمثاله ألا يقعوا فرائس النظام العالمي المجرم، فهل سيتعلم هؤلاء القوم الدرس؟ أم سنعيد الأسطوانة مع كل صنم حرية جديد لنظل ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، ونعيد إنتاج ما لم يعد صالحاً للحياة من أصله.

    في ذكرى الرحيل : علاقتي البحثية بالشاعر محمود درويش فراس حج محمد/ فلسطين


    أولا: مرحلة البكالوريوس:

    تعرفت إلى محمود درويش أولا بوصفه شاعرا من شعراء المقاومة في المساق الجامعي "تذوق النص الأدبي" وكان أن تذوقنا مع أستاذنا الدكتور عادل الأسطة مجموعة من النصوص كان من بينها نص بعنوان "رحلة المتنبي إلى مصر" ورسالة درويش "يهطل المطر وتنبت الحقيقة" التي يخاطب فيها صديقه الشاعر سميح القاسم. ثم تسير بنا مواد تخصص اللغة العربية فندرس الأدب الفلسطيني الحديث مع الدكتور الأسطة أيضا، فأتعرف أكثر على الشاعر درويش، فأشتري ديوانه، إذ أحضرته لي والدتي من الأردن في عام 1994 أو قبل ذلك بعام ربما. فقرأت الديوان، ومن ثم أخذت أتابع دواوينه واحدا واحدا. وتكون خاتمة مرحلة البكالوريوس بعمل بحث ضمن مساق "البحث العلمي" مع الدكتور يحيى جبر فأتكلف بعمل دراسة خاصة حول مدلول كلمة "القمر في شعر محمود درويش"، بالإضافة إلى بحث أتتبع فيه بحقول دلالية مفردات الكواكب والنجوم في ديوان النابغة الذبياني وديوان امرئ القيس. لقد امتدح الدكتور المشرف عليّ حينها عملي في هذا البحث، لكنه ضاع للأسف في فترة كنت لا أمتلك ما يوفر لي نسخة مصورة من البحث، كما ضاعت كل أبحاث فترة البكالوريوس للسبب ذاته، وكنت قد بذلت فيها مجهودا بحثيا جيدا، أهلني لأكون باحثا جيدا عند كل من تلقيت العلم على يديه في قاعات الدرس الجامعي.

    ثانيا: مرحلة الماجستير:

    لا أذكر الآن تماما أننا درسنا شيئا من شعر محمود درويش في هذه المرحلة، ولكنه لم يغب عنا بالتأكيد، لأن أساتذة الأدب الحديث في الجامعة في تلك الفترة العادلان: الأسطة وأبو عمشة كانا كثيرا ما يرددان اسمه وأشعاره. كان ثمة تركيز على الرواية، وأذكر أننا توقفنا عند رواية أحمد حرب "البقايا- أرض الميعاد"، وحللتُ رواية "صيادون في شارع ضيق" لجبرا إبراهيم جبرا، وأتذكر أنني حصلت تقييما جيدا جدا في ذلك التحليل. جعلني أحتفظ بالبحث، ليكون بعد أكثر من عشرين عاما في كتابي "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية" كأول بحث أنجزته، وكأقدم دراسة في هذا الكتاب. فكان من عادة الدكتور الأسطة أن يقرأ الأبحاث ويقيمها من الجوانب كافّة، ويردّها لنا ثانية، على العكس من الأساتذة الآخرين، فلم يكونوا ملزمين أنفسهم بإعادة أبحاثنا لنا، فضاعت كثير من الأبحاث، ولم يتبق منها غير بحث آخر نحويّ بعنوان "أبو العباس المبرد نحويا وكتابه الكامل في اللغة والأدب" كان لحسن الحظ مطبوعاً، إذ لم يكن شائعا الحاسوب شيوع هذه الأيام، فلم نكن نطبع الأبحاث في المراكز المخصصة للطباعة إلا إذا تيسر لنا الأمر ماديّاً. فكنا نكتب الأبحاث في العادة بأيدينا، ومراجعنا فيها كلها حقيقية من المكتبة.

    يعود درويش إلى مركز الاهتمام عندما قدمت خطة البحث لرسالة الماجستير، وكانت بعنوان "السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم بين عامي 1948-1993"، وتم تعيين الدكتور الأسطة مشرفا عليّ، وضمت الرسالة البحثية ثلاثة فصول بعد التمهيد كان لدرويش حضور فيها جميعا، فدرست السخرية في أشعاره بين عامي 1964 وحتى 1966 ضمن الفصل الخاص بالسخرية بين عامي (1948-1967)، ثم يحضر ثانية في الفصل الثاني، فتناولت أشعاره مع شعراء آخرين بين عامي "1967-1987"، لقد كان أهم ما تناولته من شعر درويش في هذه الفترة مجموعة قصائده المعنونة بـ"خطب الدكتاتور الموزونة". ثم في الفصل الثالث المخصص لبحث السخرية في شعر الانتفاضة، تناولت قصيدته الإشكالية "عابرون في كلام عابر".

    بقيت هذه الأطروحة مخطوطة لم تنشر على أهميتها وريادتها، وكثيرا ما نصحني الدكتور الأسطة بعد ذلك بنشرها، فهي تعد مرجعا مهما لكل من بحث ظاهرة السخرية في الأدب والشعر الفلسطيني تحديدا، وبالفعل لقد كانت مرجعا لكثير من الدارسين بعدي، بل أيضا لباحثين يتقدمون بأبحاثهم لنيل الترقيات الجامعية كما فعلت إحداهن في إحدى الجامعات العربية عندما درست مجموعة خطب الدكتاتور الموزونة لم يكن لها بد إلا أن تشير في دراستها إلى جهدي البحثي المبذول في هذه الأطروحة. وبسبب ما قدمتُه في الأطروحة من تحليل وافٍ أيضا يتم رفض بحث أحدهم عندما يكون أحد المحكمين الدكتور الأسطة، لأنه كما أبلغني أن الباحث لم يضف جديدا لما قدمتُه قبله، وكذلك لم يشر إلى ما قدمته بوصفه دراسة سابقة، بل لم يطلع عليه كما كان غالبا على ظن أستاذي الدكتور عادل الأسطة.

    لم ينس الأستاذ أمر الأطروحة فيرشحها في أوائل عام 2020 لتكون ضمن إصدارات وزارة الثقافة مع أطروحتين أخريين، وأتت كورونا وأزمتها وتعطل كل شيء، وبقي ما كتبته عن درويش في هذه الأطروحة مخطوطا لم ينشر. وعندما استأنفت الوزارة مشروعها في طباعة الكتب، كانت المخطوطة تعاني من مشاكل في ضبط التوثيق، ونظرا للانشغالات الكثيرة لم أقم بإصلاح التوثيق، وإلى الآن لم أقم بذلك، فتم التخلي عن نشرها، ليطبع بدلا عنها ديوان شعر بعنوان "وشيء من سرد قليل".

    أتخرج من رحلة الماجستير وقد قرأت كل أشعار درويش وكثيرا من نثره، وحرصت على أن أقرأ أكثره فيما بعد، وتعرفت إلى مجلة الكرمل، وتابعت أعدادها التي صدرت في فلسطين منذ العدد (50) وحتى العدد (90) حيث توقفت عن الصدور، ولم تكمل "الكرمل الجديد" مسيرتها إلا ببضع أعداد فقط وتوقفت أيضا عن الصدور.

    كنت شغوفا دائما بقراءة أي حوار يجريه الأدباء مع درويش وينشر في الكرمل وقراءة الافتتاحية التي يكتبها درويش، ومنها افتتاحيته الخاصة أحيانا لأعداد قليلة بقصائد شعرية كقصيدة القربان الذي تحدث فيها عن الشهيد محمد الدرة. ولأجل متابعة درويش وحواراته والنقد المكتوب عنه تابعت واقتنيت أعداد مجلة مشارف التي كان يرأس تحريرها إميل حبيبي، ولدرويش حضور طاغٍ فيها بطبيعة الحال، ومجلة "الشعراء" أيضا التي كانت تصدر عن بيت الشعر الفلسطيني، ولدرويش الحضور ذاته، وقد خصصت المجلة عددا ممتازا للاحتفاء بدرويش المختلف، عددا ضخما ببضع مئات من الصفحات، كتبتها عشرات الأقلام من الكتاب الفلسطينيين والعرب، هذا العدد الذي تحول فيما بعد إلى كتاب صدر في عمان.

    ولعل أهم كتاب نقدي قرأته يخص الشاعر محمود درويش في تلك الفترة (مرحلة الماجستير) هو كتاب شاكر النابلسي "مجنون التراب". هذا الكتاب المجلد الضخم، يتجاوز (500) صفحة مع أنه من الحجم الوسط، يسير بقارئه رويدا رويدا ليعلمه خبايا النص الدرويشي، ولهذا الكتاب على وجه التحديد، الفضل الكبير عليّ في أنه علّمني مفاتيح القصيدة، وكيفية التعامل معها، وآليات تفكيكها لفهمها أولا قبل الكتابة عنها، متكاملة مع نصيحة أستاذي ومشرفي على رسالة الماجستير دكتور عادل الأسطة أنك إذا أردت أن تفهم درويش عليك أن تسير معه وتتبعه تاريخيا، وتقرأ نثره وحواراته وما يكتبه من مقالات وافتتاحيات. وكأنه يريد من قارئ درويش أن يفهم الحالة أو الظاهرة الدرويشية التي كانت سببا في إنشاء النص.

    ثالثا: القراءات الخاصة المتحررة من المنهج

    بالفعل، لقد كانت هذه الطريقة ناجحة تماما، جعلتني أصرف كثيرا من الجهد المنظم فيما بعد لدراسة درويش، وإن قدمت حوله قراءات متناثرة هنا وهناك من شعره ونثره إلا أنني ربما صرت أكثر قدرة على فهم النص وما يتحكم فيه من خلفية معرفية وثقافية. وأنجزت بعد رسالة الماجستير كتابي الذي جمعت فيه كل ما كتبته عن درويش بعد مرحلة الماجستير وجاء تحت عنوان "في ذكرى محمود درويش" واحتفلت بإطلاقه في الخامس عشر من آذار 2016 في متحف محمود درويش في رام الله بعد يومين من انطلاق فعاليات أسبوع الثقافة الوطنية التي تبدأ عادة بتاريخ 13 آذار (يوم ميلاد درويش، وهو اليوم المعين ليكون يوما للثقافة الفلسطينية)، كما استضافتني في هذا اليوم للحديث عن الشاعر والكتاب فضائية جامعة النجاح الوطنية في البرنامج الصباحي.

    كان حدث إطلاق الكتاب في المتحف مهما جدا بالنسبة لي، على الرغم من قلة عدد الحضور في ذلك اليوم، كان يوما ممطرا مطرا غزيراً، إلا أن التغطية الإعلامية للحدث كانت أمرا أكثر توفيقا من الحضور نفسه. فشعرت بعدها أن الظروف تساعدني لترفعني على كتفيها، لأبدو كاتبا وباحثا في أشعار درويش في ذكرى مولده. ولم أستطع التخلص من سيطرة درويش البحثية عليّ، فحضر مرة أخرى ضمن كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" بمقال "درويش تلك الظاهرة الشعرية الفريدة"، هذا المقال الذي يمتدحه الدكتور سليمان جبران فيرسل لي رسالة عبر الإيميل يقول فيها: "الأستاذ فراس، تحيّة. قرأت مقالتك عن درويش، والصرح الذي أقيم تخليدا له، بحقّ! يبدو أنّك من العارفين قدر درويش شاعرا، فاسمح لي إطلاعك على كتابي عن الصديق محمود. نشر الكتاب في بيروت وفي حيفا. مع احترامي/ سليمان جبران"، وأرسل إليّ نسخة إلكترونية من كتابه حول شعر درويش: "الإيقاع في شعر درويش - نظم كأنّه نثر".

    بعد هذا الكتاب لم يتوقف البحث في عوالم محمود درويش الشعرية والنثرية، فتكاثرت المقالات والاجتهادات البحثية، ليحتل حيّزا لا بأس به في كتابي المعد للنشر "في حضرة الشعراء" في الفصل المخصص بالقراءات النقدية، وفي الفصل الخاص بجمع بعض قصائده التي لم تنشر سابقا في أي ديوان أو كتاب لدرويش، وحصّلت كمّا لا بأس به من القصائد في هذا الباب لكبار الشعراء، وكان لدرويش النصيب الأكبر من هذه القصائد غير المنشورة. إن ما كتبته في هذا الكتاب "في حضرة الشعراء" عن درويش يعادل كتابا كاملا، ربما فكرت أن أجعله كتابا خاصا. لم أحسم الأمر بعد.

    لقد تركت هذه المعايشة في نفسي شيئا كبيرا معترفا به وبقوة من حب درويش الشاعر الفذ، ربما بسبب هذه المحبة كثيرا ما دافعت عن الشاعر فيه ضد ما تعرض له من هجوم بعد رحيله، واتهامه بالسرقة، فكتبت مقالا أغضب المحرر الثقافي لبعض الصحف العربية وتوقف عن نشر ما أرسلته له لاحقا من مقالات نقدية، بل صار يتجاهلني تماما، وبقي على هذا الاختفاء والتجاهل إلى أن ترك الصحيفة ومسؤولية التحرير الثقافي ليتواصل معي ويعرض علي دواوينه التي سبق له أن نشرها، لمراجعتها ولأبدي رأيي فيها، استعدادا لإصدارها في مجموعة كاملة، كان قد وعده بنشرها وزير ثقافة ما، لكن الوزير تغيّر، وبقيت المجموعة الناجزة الكاملة من أعمال هذا الشاعر في عداد الغيب، ربما تنتظر وعدا جديدا من وزير ثقافةٍ جديد. وليس كل الوزراء سواء أيها الشاعر المنتظر، وربما لسوء حظه أن وزيرنا الحالي روائيّ وليس له من الشعر نصيب يذكر، هذا ما نعلمه- نحن الكتاب- وربما كان شاعرا ونحن لا ندري. من يعلم؟ ربما

    وبسبب هذا الحب للشاعر درويش ولنصوصه العبقرية التي تطربني وتغذيني لغة وشعرا وإيقاعا دخلت معمعة الابنة المفترضة التي أثارها مقال سليم بركات "محمود درويش وأنا"، وشاركت في ذلك الجدل الذي ربما بدا للبعض كأنه معركة دونكشوتية لا طائل من ورائها، فكتبت مقالات عدة أغضبت أناسا وأرضت آخرين، لكنها في النهاية كانت تعبر عن مواقفي تجاه شاعر أثّر فيّ كثيرا، بل ربما وجد كثير من الدارسين أنني أتناص مع كثير من قصائده في أشعاري.

    لقد ذهبت أبعد من هذا؛ عندما استوحيت من تجربته بكتابة قصيدة "هي جملة اسمية" فاتخذت من اسم النص الدرويشي اسما لديوان لي معد للنشر بالاسم نفسه "هي جملة اسمية- كتابٌ لا فعل فيه". وبوحي من هذا النص الخارج عن السياق تفتّقت عندي ملحوظات جمة حول الشعراء وتقنية الكتابة بالجملة الاسمية وخصصت لها وقفة بحثية معمقة نشرت تحت عنوان "تقنية الكتابة بالجملة الاسمية"، أسفرت حسب ظني إلى استنتاجات مهمة تخص الشاعرية العربية، تابعتها ببحثين آخرين يبحثان في حضور الاسم أو فلسفة حضوره، أولهما "لماذا علم الله آدم الأسماء كلها؟"، والآخر يرصد حضور الاسم في الترجمة العربية لبعض النصوص من الشعر الإنجليزي تحت عنوان "الجملة الاسمية والترجمة".

    ثم توسعت الأبحاث لتشكل دراسة متكاملة من زوايا متعددة، تبحث في الاسم وفلسفته كذلك، جعلتها مقدمة مطولة للديوان نفسه. وكنت قد ناقشت هذا المشروع مع الدكتورة ريم غنايم، وهي تجربة مختلفة في الشعر ونقده أرجو أن ترى النور قريباً، بعد أن تعطل نشر الكتاب بقسميه، حيث كان من المقرر أن تنشره دار روافد المصرية، فتوقف الناشر عن المضي قدما في ذلك، بعد أن تم توقيع العقد بيننا قبل ما يقرب من عامين، ولم أدر السبب.

    لا شك في أن درويش شاعر عظيم، أحبه شاعرا، ولا أرى أنّ شاعرا يمكن أن يشبهه أو يضاهيه شعرا، وأسلوبا وأناقة في القصيدة، فقد حقق درويش القصيدة الصافية الخالية من الزوائد، لا شيء فيها زائد عن المعنى، فإما أن يتساوى اللفظ فيها مع المعنى، وإما أن يزيد المعنى عن اللفظ، أما أن يزيد اللفظ عن معنى السطر أو البيت أو النص فهي ثرثرة ممقوتة في عالم الشعر تخلّص منها شعر درويش، فجاء شعره صافيا صلباً معنى ولغة، وكل حرف له وزنه في المعمار الفني للقصيدة، فقرب النص الدرويشي ليكون مُعْجزاً.

    هذا هو درويش شاعرا وناثرا من وجهة نظري، أما سياسيا وفكريا، فكثيرون يختلفون معه، وربما أختلف معه كثيرا في قضايا سياسية متعددة، وذكرت ذلك في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" عندما ناقشت "ظاهرة الشعراء المدجنين". إن حب درويش وشاعريته الفخمة شفعا له عند كثير من القراء، حتى عند القرّاء المتدينين الذين يحبون شعره ويترنمون به ويقتبسونه مرارا وتكرارا على صفحاتهم الفيسبوكية وفي كتبهم، وربما في بعض مكاتباتهم وخطبهم الرنانة. عدا حضور الشاعر الخلّاق في الدراسات النقديّة التي لم تكن لتتوقف حتى بعد رحيل الشاعر، فما زال النقاد يعتاشون على أشعاره في دراساتهم ومقالاتهم.

    درويش يبقى الشاعر الفخم الذي لا يتكرر، وحسبنا منه شعره، وكل ما هو خارج هذه الدائرة لا يعنيني أنا شخصيا، ولا أبني عليه أية مواقف، وربما لا يكون له عندي أثر في توجيه النص لِلَيّ عنقه ليؤيد أمرا متوهما أو حتى ردّ تهمة يبغي الآخرون إلصاقها به، ومهما اتخذ من آراء سياسية أو مهما أحبّ أو غرق في علاقات شخصية، فليحاسبه عليها من شاء أما أنا فلي منه شعره الذي أحبه. وأي شاعر ليس له من العلاقات ما يعجز هو ربما عن حصرها فليقف لدرويش بالمرصاد؟ فالظهور أحيانا بملابس القدّيسين يجعلنا نكتة لا تثير إلا الاشمئزاز، لأنها بلا شك نكتة تافهة وساذجة لا يتوقف عندها عاقل ليسمعها عدا أن يحفل بها ويمنحها شيئا من الاهتمام.

    في تأمّل تجربة الكتابة رسالة إلى رُقَيّة هاشم فراس حج محمد/ فلسطين

    رسالة إلى رُقَيّة هاشم
    من الردود التي تلقيتها على مقالة “رسالة إلى سلمى” رد من الشاعرة والمترجمة الماليزية رقية هاشم. جمعتنا الصدفة معاً لنكون أصدقاء افتراضيين، أتذكرُ تماماً أنني أنا من بادر بإرسال طلب صداقة على الفيسبوك. رقية لا تتقن العربية، وأنا لا أتقن إلا العربية، مع بعض الاستثناءات لنصوص قصيرة باللغة الإنجليزية ذات اللغة البسيطة والتراكيب غير المعقدة. دفعتني هذه البساطة لأكتب نصين باللغة الإنجليزية؛ أحدهما نشرته في كتاب “كأنها نصف الحقيقة”، وقد راجعته لي في حينه المرأة التي كتبته فيها، والنص الآخر قصيدة عن الحرب نشرتها مع مجموعة قصائد قصيرة عن الحرب تحت عنوان “عن الحرب مرّة أخرى” في موقع ألترا صوت بتاريخ: 18-مايو-2021.

    تلاحظ الصديقة رقية أنني أكتب الشعر، فتبادر بطلب قصائد لي باللغة الإنجليزية لتساعدني في نشرها بعد أن تترجمها من الإنجليزية إلى اللغة الماليزية، لكنني لم أجد من يترجم لي بعض النصوص، فضاعت هذه الفرصة، إلى أن تبادر مرة أخرى بعد أكثر من عام لتطلب مني قصائد أو قصص قصيرة مع سيرة ذاتية مصحوبة بصورة شخصية، لتنشرها باللغة العربية في موقعها الإلكتروني (Peace Be Upon You Davos)، إذ لا حاجة كما قالت لأن تترجمها، ونشرت تلك النصوص في موقعها مع احتفائها بها ونشرها أيضا على صفحتها في الفيسبوك.

    لا شك في أن الشاعرة رقية صديقة جيدة في الحقيقة لكنها ربما ضاقت ذرعاً بمقالي بخصوص القارئة التي تسمي نفسها “سلمى”، تصف الصديقة رقية الموقف بأنه غير أخلاقي، لا أدري هل هي قصدت مقالتي في الرد على “سلمى” أم ما كتبته سلمى أم أن الموقف كله بطرفيه غير أخلاقي، فترسل هذه الرسالة الحادة، وتقول فيها إن ما أرسلته للمرة الثانية للنشر في موقعها لم ينشر بعد، وفيما يأتي نص رسالتها الأولى التي تعترض فيها على مقالة “رسالة إلى سلمى”:

    Salam Feras,

    Please don’t send this kind of article to me. I don’t want any polemics on your works or anything answering others.

    criticisms of your works. This is very unethical and I don’t want this kind of writings on my magazines. Literature articles, reviews yes.

    I will take. But not polemics and answering others write ups on you. Hope you understand.

    Besides, I still have your poems not published yet and don’t send too many of your works to me.

    Thank you.

    Rokiah H.

    لم تقف اعتراضات الشاعرة رقية هاشم عند هذا الحدّ، بل إنها تعود إليّ برسالة ثانية هذا الصباح (14/7/2022)، لتعترض على النصوص التي أرسلتها، بدعوى أنها قصائد غزل، وأن عندها من قصائد الحب التي بعثها شعراء أوروبيون ما يكفي، وأنه ينبغي علي أن أكتب قصائد عن فلسطين. تعني رسالتها أنها لن تنشر لي هذه القصائد، وهذه هي رسالتها الثانية:

    Salam Feras, please don’t send love poems to me. I expect Palestinian issues from Palestine poets. I received many love poems from European poets and that’s enough. Please use this platform for Palestine issues. Shukran.

    غريبة هذه الرسالة، كأنه لا ينبغي للشاعر الفلسطيني أن يكتب قصائد حبّ، وكأنه محكوم بالكتابة المباشرة عن السياسة والقضية الفلسطينية، على الرغم من أنني كتبت وكتبت كثيرا في هذا الجانب، مقالات، وقصائد، وقصصا، كما كتبت في الحب كثيرا. إذ لا أرى تعارضا نهائيا بين شعر الغزل وشعر المقاومة، أو بين أن تكون عاشقا ومقاوما في اللحظة ذاتها. أكتب ذلك وفي ذهني الشاعر الجاهلي عنترة العبسي الذي مزج بين شعر الحرب وبين الغزل في بيتين من الشعر مهمين:

    وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِــــــــــلٌ مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي

    فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا لَمَعَــــــــــتْ كَبَارِقِ ثَغْــرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ

    هذه الرسالة تعيد النقاش مرة أخرى حول مهمة الشاعر ووظيفته، كما تعيد سؤال شرعية الكتابة الوجدانية للشاعر أو الكاتب الخاضع للاحتلال أو الواقع تحت تأثير قضية كبرى مثل القضية الفلسطينية بأبعادها المفتوحة على سؤال الحرية والمقاومة، وطبيعة الكتابة التي تناضل من أجل تحقيق العدالة وحق تقرير المصير.

    لعلّ الشاعرة رقية هاشم لا تعلم أن أجمل ما كتبه الشاعر محمود درويش من شعر كان الشعر الوجداني الغزلي الصرف غير المرتبط مباشرة بالقضية الفلسطينية، ففي كثير من دواوينه قصائد من عمق المعاناة في الحب، عدا ديوانه الممتع “سرير الغريبة” المخصص كله لشعر الحب، وما في هذا الديوان من أبعاد ثقافية وأسطورية متصلة بموضوع الحب، وما يتضمن بعض تلك القصائد من إيحاءات أيروسية. بل إن درويش يؤكد أنه كتب للمرأة، وأن المرأة في أشعاره هي المرأة، دون أن تعني فلسطين، كما كان يحاول بعض النقاد تفسير بعض قصائد درويش الغزلية، ألم تقرأ ما كتبه درويش في قصيدة “انتظار”:

    وربما نظرت إلى المرآة قبل خروجها

    من نفسها، وتحسَّست أجاصَتَيْن كبيرتينِ

    تُموِّجان حريرَها، فتنهَّدت وترددت:

    هل يستحقُّ أنوثتي أحد سواي

    وقوله في قصيدة أخرى بعنوان “لم تأتِ” لا تقلّ جمالا عن سابقتها، على الرغم مما تحمله من نفس الشاعر العاشق المهزوم الواقع تحت تأثير المرأة فينتظرها دون أن تأتي، بل يظل مشغولا فيها، فكرا وشعرا وجغرافيا:

    لا سرّ في جسدي أمام الليل إلا

    ما انتظرتُ وما خسرتُ…

    سخرتُ من هَوَسي بتنظيف الهواء لأجلها

    عطرته برذاذ ماء الورد والليمون

    وغيرهما الكثير، فالكاتب الفلسطيني إنسان يحب وينتشي إن وجد امرأة تحبّه، ويهزم في الحب أيضاً، ويعيش مأساة فردية ككل العشاق المهزومين، ويعشق النساء ويطاردهنّ، ويشتهي أن يعيش قصة حب عاصفة بكل ما فيها من لذة وشهوة ومتعة في السرير مع من يحب. فليس درويش وحده من فعل ذلك، فغسان كنفاني هذا الكاتب الشهيد الذي عرف باندماجه كلية بالقضية الفلسطينية والهمّ السياسي كان له تجربة حب مع الكاتبة غادة السمان، فكتب لها رسائل تقطر وجدا ورغبة وجنونا وشهوة أيروسية، فإن لم يشتهِ الشاعر محبوبته ليتذوق طعمها فمن يشتهي إذاً؟ كل العشاق فعلوا ذلك، شعراء، وفلاسفة، وأناساً عاديين. إنه لمنطق غريب أن ينغلق الكاتب على همه السياسي ليظل محصورا فيه، فهو إنسان، وكتلة متوهجة من المشاعر لا بد من أن تفيض أشعارا ونصوصاً غاية في الجمال.

    من زاوية أخرى، فإن كتابة قصائد الحب للشاعر المقاوم نوع من المقاومة، بعيداً عن اصطناع الفلسفة، فلا بد من أن يمارس الناس هذا الجانب من حياتهم ممارسة طبيعية. عليهم أن يحبوا، ويتزوجوا، وينجبوا الأطفال، ويغنوا أغاني الفرح، ويقيموا الأعراس، واحتفالات النجاح المدرسية والجامعية وترقيات العمل وأعياد الميلاد وعيد الحب، ففي ممارستهم لكل تلك الطقوس تغذية لحس الحياة الحقيقية، وأنه بالفعل “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. ففي هذا إغاظة للمحتلين الذين يزعجهم أن نفرح، وأن نناضل بالحب كما نناضل بالبندقية، لا فرق؛ إنهما يصبّان في المصبّ ذاته، وهو القدرة على العيش والتجذر في الأرض والتعبير عن الانتماء لها، فهي أرضنا، ظاهرا وباطناً، برا وبحرا وسماء، وقمرا وشمساً وغيوماً.

    لا أريد أن أحمّل رسائل الصديقة رقية هاشم أكثر مما تحتمل، لكنه من المفيد جدا أن يتعرف شعراء العالم على ما نكتبه من قصائد في الحبّ، كما نرغب أن يتعرفوا علينا ونحن نكتب عن فلسطين، وعن الثوار، وعن الشهداء والأسرى، فنحن شعب لنا في أرضنا ما نعملُ، ولنا صوت الحياة الأولُ، فجذورنا ضاربة في عمق التاريخ، ولنا الكثير من الأساطير والقصص والحكايات. كما لنا تجاربنا الإنسانية أسوة بالآخرين، فليست قصائد الحب من حق الشعراء الأوروبيين وحدهم، فنحن أيضاً لنا محبوباتنا اللواتي ينتظرن كل صباح قصائد الغزل ليشعرن بأهمية وجودهن على هذه الأرض التي تستحق الحرية والحب والجمال والتحرير، فعلى العالم أن يرانا ونحن نحبّ ونعشق النساء، كما يرانا ونحن نقاوم ونثور ضد المحتلين؛ أعداء الإنسانية والحرية والحياة.

    وأخيراً، هل ستقول عني الشاعرة رقية هاشم أيضا إنني غير أخلاقي، إذ كتبت عن رسائلها هذه المرة؛ أسوة بالرسالة التي كتبتها إلى القارئة “سلمى”؟ أنتظر لأرى، لعلي أحظى بما يفتح الباب لنقاش آخر، ذي بُعْدٍ أكثر أخلاقية وأهمّية. وهل سيلومني أصدقائي على هذه الكتابة كما لامني بعضهم، لأنني أعرتُ “سلمى” شيئا من الاهتمام بالكتابة عنها ولها؟

    شيرين أبو عاقلة وميزان الشعب الصادق فازع دراوشة/ فلسطين

    تبلورت فكرة مقالي هذا بعد ساعات من استشهاد شيرين رحمها الله تعالى، وذلك بعد متابعتي لردود الأفعال العاجلة والعفوية والصادقة سواء أكانت  شعبية- وهذا هو الأهم- أم رسمية، وهذا أمر له دلالة. تلك الردود التي أجمعت  على الإشادة بشيرين.

    وأجلت الكتابة  أياما.

     وفي أثناء ذلك كنت أفكر في الأسباب التي دفعت الناس باختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية وغيرها، للإشادة منقطعة النظير بالمرحومة شيرين، ولن أكرر الحديث  عن الجنازة الماراثونية اللائقة التي حظيت بها  الأستاذة شيرين والمحطات التي توقفت بها لتختتم بعد ظهر الجمعة 13 أيار الجاري. وشاء الله، أن يظهر غباء العدو ولؤمه وطغيانه وتعديه على الأموات  والأحياء  بمشهد اعتداء جلاوزة العدو بالضرب  لحملة نعش الراحلة المميزة.

    لقد خدمت شيرين قضية شعبها حية وميتة خدمة لم يحققها كثير من أبناء شعبها، ومن  يشك بذلك فليتابع الإعلام  العالمي والعربي والفلسطيني، وأكدت قصة استشهاد شيرين وما تم بعد ذلك، وما سوف يتم أن وجدان الشعب صادق وإحساسه صادق أيضا. ووجدان الشعب هذا  والتفافه لا يناله  كثير من الذين يحسبهم الناس في صفوف "الوطنيين ".

    ولعل أبرز الأسباب التي جعلت من الناس  يمجدون  هذه الإعلامية المناضلة من وجهة نظري:

    1. إتقان العمل: فلقد أجمع كل من تحدث أو كتب عن الراحلة شيرين على إتقانها عملها والانتماء له سواء أكان هؤلاء من العرب أم غير العرب، ومن الفلسطينيين أم غير الفلسطينيين، ومن متابعي الجزيرة ومحترميها أم ممن يهاجمونها جهلا وتعصبا وببغاويا.

    وبإتقانها عملها تكون الراحلة شيرين قد طبقت فعلا لا قولا حديث سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". وهو مبدأ راسخ في العقيدة الإسلامية رغم عدم الالتزام به من طرف كثير من "المسلمين". ويكون الشعب دائما خير من يميز متقنا عمله من غيره  وعرف الشعب بفطرته أن شيرين- رحمها الله- من الصنف الأول.

    شاهدتها عن قرب صباح  يوم الاثنين: 15 تشرين الأول 2018  في ساحات مدرسة الساوية/ اللبن الثانوية، حيث كان الجيش الإسرائيلي قد فرض إغلاق المدرسة، وتم التصدي لقراره  وعدم الإغلاق، وتواجدت الجزيرة  لتغطية الحدث، وكانت شيرين (مايسترو) العمل تركض  لهذه الجهة، وتقفز من هذا المكان إلى ذاك، وتعمل اللازم دون جلبة ودون لغة متكلفة ودون ابتذال، ودون سعي لمقابلة مع أحد، وكما نعلم فالجزيرة يسعى الناس إليها لتقابلهم، وليس العكس كما في القنوات البائسات.

    ثانيا: ولعل واحدا من الأسباب التي جعلت الشعب الفلسطيني وغيره يمجد شيرين كونها لم   تكن  مكشوفة الهوية الدينية، والتي يسعى بعض الناس من المسيحيين والمسلمين  إلى ديمومة التصريح بها، وقد يقوم باستغلالها أحيانا.

    ولقد لاحظت أن كثيرا من الناس لم يكونوا يعلمون أن الشهيدة شيرين كانت من الإخوة المسيحيين. وإن دل هذا الأمر على شيء فإنه يدل على تحييد استعراض الهوية الدينية لأي عامل في المهمة العامة، و لاسيما تلك التي تتطلب التعامل مع فئات الناس كافة.

    ثالثا: انتماء شيرين للشعب الفلسطيني، وليس لأيما فصيل من الفصائل التي تملأ المشهد الفلسطيني، وهو انتماء لا يقدره إلا من كان انتماؤه للشعب. فلم يظهر على الراحلة شيرين ما يشي بأنها مع هذا التنظيم أو ذاك، وهذا أمر لا يقدره حق قدره إلا صادقو الانتماء للشعب.

    رابعا: قيام الراحلة شيرين بتغطية بقاع فلسطين كافة ما جعلها معروفة لأبناء الشعب كافة، ولاسيما التلقائيين منهم والصادقين والعاديين.

    وربما يجد المرء أسبابا أخرى تدفع كلها باتجاه تمجيد الناس لهذه الإعلامية المحترفة والمحترمة، والتي  كان يمجدها كل من تابع تقاريرها بالمؤسسة الإعلامية الأولى عربيا، وربما عالميا،  والتي  أعطت شيرين كل ما  تريد فأبدعت، وأعطت مؤسستها كل ما تستطيع وبصدق  واحتراف نادرين. ولقد انضم للتمجيد أناس كانوا لا يفوتون فرصة في مهاجمة غير محقة  للمؤسسة التي عملت بها  شيرين طيلة ربع قرن تقريبا.

    رحم الله شيرين أبو عاقلة، والتي أثبتت قدرة الشعب على ميز المخلصين من أبنائه بوضوح  رؤية تام. فميزان الشعب الواعي والصادق والمخلص وغير الموجه هو الميزان الذي قلّما  يخطئ.

    سيميائية الترجمة : النص الدرويشي بين إخفاقات اللعبي وآخرين [1] بقلم/ نداء يونس[2]

    يعتبر فهم النظام السيميائي للغة الشعرية أكثر تعقيدًا من ذاك الذي للفن أو للإعلانات مثلا. ولأن له معانيَ مرجعية. يجب على المترجم أن يتعامل مع الدلالات والأيديولوجيا ليكون قادرًا على فهم العلاقات الرمزية بين الدال والمدلول في أبعادها الأيقونية والرمزية والإشارية.

    تعتبر دورة حياة العلامات في الشعر عملية ذات شقين. يعتمد ذلك على النص ذاته، وعلى تاريخ وقدرة المترجم على بناء واقع المعنى. وبهذا المعنى، يُبنى الواقع من خلال الكلمات وترجماتها.

    تعتمد صورة درويش الشعرية بشكل كبير على إقامة علاقات جديدة بين الدوال والمدلولات، وعلى الرمزية العميقة التي تكشف الكثير عن المعاني المرئية وغير المرئية؛ أي ما يقال وما يتم تمثيله. من حيث التقنيات، يستخدم درويش Metonymy والمجاز المرسل Synecdoche والإرداف الخلفي أو التناقضات اللغوية Oxymoron من بين أمور أخرى. تدفع تقنيات بناء الصورة للكلمات المتشابهة والدلالات والثنائيات المترادفة/ المتضادة الصورة للانتقال من المجال اللغوي المجرد إلى العوالم الفكرية المعرفية. يعتبر ضيق الوقت من الموتيفات الشائعة في شعر درويش.

    قصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" التي كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 1986 كانت دعوة للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، شكل اليأس موتيفا تكرر ثلاث مرات في القصيدة التي كانت نبوءة لاندلاع الانتفاضة الأولى في 1987-1988، وأصبحت هذه الجملة شعارًا رمزيًا كرره رماة الحجارة في كل مكان. تمثل هذه الجملة دعوة للتذكير بما يستحق الحياة على الأرض الفلسطينية وبإحالة إلى معنى رمزي واحد وهو ضيق الوقت الباقي لفعل شيء ما لقضية طال أمده نضال أصحابها؛ وهي بذلك ترتكز على موتيف "الزمن" الذي يتحول إلى إشارة تنفتح على كل علاقة في القصيدة بين الدوال والمدلولات. إذ دون فهم الزمن كدال فإن "نهاية سبتمبر" و"المشمش" و"المرأة" التي يُعتقد على نطاق واسع أنها جوهر هذه الشذرة الشعرية، يحول الترجمة إلى إخفاق ويشكل معنى جديدا قد يدمر السياق أو يستبدله.

    في منزله الباريسي، أخبرني أحد الأصدقاء أن محمود درويش كان غاضبًا من الترجمة الضحلة، وغير ذات الصلة لجملة "امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها" التي وقعت عليها عينه صدفة أثناء تصفح مجموعته الشعرية "ورد أقل" الصادرة عن دار Minuit، بالفرنسية، وألقى بالكتاب على الأرض، إذ قام المترجم، عبد اللطيف اللعبي، بترجمة "امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها" على النحو التالي: "امرأة تدخل الأربعين بكامل نسغها/ عصارتها" -"une dame qui entre، de toute sa sève، dans la quarantine".

    تحيد هذه الترجمة المكونات السيميائية. فالمرأة هنا حامل جنسي، والدلالة ليست قصر الوقت بل الإغواء. الكلمة الفرنسية "quarantine" لها نفس المعنى: الأربعين ومنطقة الحجر الصحي؛ وهنا أدى عدم إضافة كلمة "d'age" كما في "quarantaine d'age" إلى خلخلة في المعنى وإرباك لمعنى  quarantine الذي يتخذ مدلولا جديدا مربكا في اللغة الثانية؛ هو المرض، كأن امرأة تدخل حجرا صحيا بكامل نسغها، وكذلك كان سيفعل المشمش الذي كان ليدل على الغذاء في سياق كهذا، هذا لو ترجمت الكلمة التي قام المترجم بعدم ترجمتها أصلا رغم أهمية دلالتها.

    لم يكن الفشل في فهم علاقة الدال بالمدلول مقتصرا على الترجمة الفرنسية، إذ ترجم كريم أبو عوض وآخرون  الصورة نفسها باللغة الإنجليزية إلى "سيدة تتخطى الأربعين من عمرها دون أن تفقد ألقها". لم تستطع كلتا الترجمتين إدراك القصدية في نص درويش، لأنها لم تأخذ في الاعتبار السياق، ولا المعرفة الدنيوية المطلوبة لفهم سياق وقت المشمش وعلاقته بوقت القضية، ونهاية سبتمبر، وما توحي به الأربعون من اقتراب سن اليأس، وقِصر ساعة الشمس في السجن وهكذا.

    لمتابعة علاقات الدال والمشار إليها في هذا الاقتباس، نبدأ بالدال الأساسي في الجملة "على هذه الأرض..": الأرض التي تعني فلسطين، والموضوع في هذه الحالة الوطن. هنا يستخدم درويش الأرض كرمز لفلسطين الوطن الذي طُرد منه. إن هذا الخطاب ما بعد القومي يعبر عن الانتماء للضرورة التي هي في حقيقتها ضرورة جمالية. كلمات مثل نهاية سبتمبر، امرأة، تدخل الأربعين، وبكامل مشمشها، وساعة الشمس في السجن وكلها تمثيلات تدل على الحصاد، والخصوبة وانقطاع الطمث، والموسم القصير لعمر الثمرة ولوقت الضوء لديها مرجعية واحدة لتفسيرها: الوقت القصير المتبقي قبل عمل أي شيء ويقصد هنا تحرير فلسطين. إذاً، هذه العلاقات ترمز إلى القضية الفلسطينية. ولفهم ذلك، يجب أن نعلم أن هذه القصيدة كتبت عام 1986، وهو تاريخ إحياء الذكرى 38 للنكبة الفلسطينية.

    مجازيا، يقول الشاعر هنا أن القضية الفلسطينية تقترب من مرحلة حرجة، لقد حان الوقت لحصاد ثمار النضال الطويل، وإنهاء الاحتلال الذي طال أمده، وإنهاء قضية اللاجئين. تتحدث هذه القصيدة ببلاغة عن الشرط الإنساني كما طرحته حنا آردنت. وللتوضيح؛ فإن الأربعين هي سن النضج العقلي والفكري وتحقيق الأحلام وجني ثمار الحياة. إنه أيضًا السن الذي يمكن أن تبدأ فيه المرأة بالشعور بالاكتئاب خوفًا من التقدم في السن وانقطاع الطمث. سبتمبر ، الشهر الذي ينتهي فيه الصيف ويقترب الخريف بخطوات واسعة، هو أيضا وقت الحصاد الذي يشير إلى نهاية العمل الجاد، وربما وقت الاسترخاء. لدينا كلمة "مشمش" التي تمثل دلالة أخرى تم إهمالها في معظم الترجمات التي قامت بتحويلها إلى أزهار كما في بعض الترجمات إلى الإنجليزية أو  إلى "نسغ أو عصارة" كما في ترجمة اللعبي.

    لفهم الاستعارة هنا، يجب أن يعرف المترجم أن المشمش لا يعيش أكثر من أسبوع. موسم المشمش قصير جدًا، وعادة ما يقطفه المزارعون بسرعة. يرسم درويش من خلال تقنية الإرداف الخلفي Oxymoron الوقت الذي يقترب من النهاية، وهو وقت العمل الذي يجب استثماره قبل أن يصبح من غير الممكن فعل أي شيء للقضية الفلسطينية، ونستدل على ذلك من خلال تكرار الإشارة الى الوقت الذي تشير اليه عدة دوال مثل حلول شهر سبتمبر، وسن الخصوبة عند النساء، وموسم المشمش. هذه أيضا علامات تحذير، اذ يتنبأ درويش بالمستقبل بينما يحذر من انقضاء الوقت الذي يمكن فيه إنجاز شيء.

    لسوء الحظ، في كثير من الترجمات لم يتم فهم هذه العلاقات السيميائية بدقة. وفقًا لذلك، أسيء فهم هذه القصيدة وتمت ترجمتها بشكل خاطئ كما هو الأمر هنا "a woman leaving forty in full blossom" للمترجم كريم أبو عوض. هذه الترجمة فشلت في إدراك العلاقة السيميائية. والنتيجة هي خلق معنى مشوه مختلف يقود القارئ إلى فهم دلالة دخول امرأة في الأربعينيات من عمرها تحمل سلة من المشمش، وهي بكامل إزهارها وحيث تشير هذه الترجمة إلى مدلول جنسي، إذ وحيث يدل المشمش على الإغواء والجاذبية. استنادا إلى علاقة سيميائية لم يقصدها الشاعر، يدمر المترجم "الوقت" كمرجع. كما يؤدي الخلل في ترجمة الفعل الذي استخدمه درويش؛ أي "تدخل" إلى ترجمة نقيضة، أي "تترك" إلى تفجير المعنى المقصود للقارئ وكل العلامات، حيث تصبح الوحدة بين الدوال التي تشير إلى قصر الوقت والمشار إليها في هذه القصيدة غير ذات صلة. ويصبح معنى انقطاع الطمث كتحذير من العقم بلا معنى، وبالتالي، تنتزع رمزيته؛ وبالأحرى، يتم إعطاؤه بعدا رمزيا جديدا جنسيا ينزعه من سياقه، وبما يمثل دعوة إلى علاقة مع فتاة جميلة قبل أن تدخل في فترة يأسها، والتي تدمر السياق الطبيعي لحب الوطن، إذ بهذه الترجمة يصبح حب امرأة أحد أسباب الحياة على هذه الأرض، وليست الأرض ذاتها وقضيتها وفي هذا تدمير للسياق.

    تمس مشاكل الترجمة الأهمية المادية للإشارة التي لا يمكن ترجمتها وفقًا لدريدا، بالإضافة إلى الفشل في تعيين علاقات الدال والمدلول. هذه الأشياء لا يمكن بحال إهمالها؛ إذ تؤدي أهم الأدوار على مسرح النص.

    الهوامش:

    [1] من بحث قدم للدكتور فريدر ناكه ضمن مادة السيميائيات، جامعة القدس أبو ديس، 2021.

    [2] شاعرة، ومترجمة، وإعلامية فلسطينية، صدر لها عدة مجموعات شعرية، ترجم لها نصوص إلى اللغة الفرنسية والإيطالية والإنجليزية، تقيم في مدينة رام الله.

    فهمانُ يرى الشيطانَ باستخدام الفيزياء النووية ج3 / إبراهيم أمين مؤمن-مصر

         فهمانُ يرى الشيطانَ باستخدام الفيزياء النووية ج3

    إبراهيم أمين مؤمن - مصر

    بعد أن برأ فهمان تماما من الصاعقة التي أصابته بعد أن سافر إلى المستقبل وشاهد بنفسه أهل النار يعذبون -وقد كان منهم كاجيتا- دعا جاك مجددا لاستئناف التجارب قائلا: «جرّب التصادم هذه المرة على 350 تيرا إلكترون فولت.»

    ابتسم جاك له وهو يقول:  «300 تيرا إلكترون فولت سفّرتك إلى المستقبل حيث انتهت الحياة الأرضية، فما بالك ب 350!»

    بادله فهمان الابتسامة، ثم قال حزينا: «هل تصدقني لو قلت لك إني أفضل السفر إلى إبليس في وقتنا الحاضر عن السفر إلى المستقبل لرؤية أهل الجنة؟»

    تقلصت ملامح جاك بعد الابتسامات العريضة التي كانت تبسط وجهه بسطا بسبب إخلاص فهمان الذي لم يعهد بمثله في الحياة، وقال بتأثر وهو يهز رأسه: «أصدقك.»

    - «ما دمت تصدقني فعلام الانتظار، هيا نجري الارتطام.»

                                    ***

    توجه جاك على الفور إلى ليناك 64 (هو من يدفع حزم البروتونات) لوضع حزمتي البروتونات، ووقف فهمان مجددا داخل الفقاعة الرابيديومية بعد أن ارتدى البذلة الفضائية وأمسك بالمجس.

    كانت يدا جاك تضطرب بشدة خوفا على صديقه من أن يحدث له مكروه مرة أخرى.

    أطلق جاك حزمتي البروتونات وتصادمت بعد ثلث ساعة، وتولدت الثقوب السوداء المجهرية، وبوساطة برنامج حاسوب تمكن جاك من جعلها في صورة دائرية كما كان سابقا في التجربة الأولى (تجربة 300 تيرا إلكترون فولت).

    أمسك فهمان بالمنظار في انتظار أن يضرب جاك جانبا من ذرات الرابيديوم السالبة في أحد قلوب الثقوب السوداء -التي تحيط به في شكل دائرة- لتخليق الثقب الدودي ليرى به ما خلفه (الثقب الأسود) من أكوان. لكنه لم يتمكن إذ حدثت كارثة!

    حدث خلل في جهاز الليزر، فأحدث تفاوتا في قوى حزم الليزر المنطلقة؛ مما تسبب في تفاوت قوى أفق أحداث الثقوب الجاذبة، وهذا التفاوت في القوى تسبب في وجود قوى تنافر في جزء من الفقاعة لم يقابلها نفس قوى التنافر في الجزء المقابل فدفعت فهمان قوى التنافر الأكبر الناجمة عن الثقب الأسود فوقع المنظار من يده على الفور، وارتطم بالجدار بتأثير قوى جذب الثقب (طبعا التي تحولت إلى قوى تنافر بسبب الفقاعة ذات المادة السالبة التي تحيط بفهمان) فشج رأسه، بعد أن كُسرت خوذة البذلة وأغمي عليه على الفور، فسكن أمام عيني جاك بلا حراك.

    أوقف جاك كل شيء وهو في قمة الهلع، وقد ألجمت الكارثة أوصاله فصرخ، وحين توجه نحوه سقط على الأرض، حاول النهوض فلم يستطع، لم يكترث جاك بما حدث له وإنما وصل إلى فهمان زحفا.

    صرخ به: «فهمان، فهمان، فداك روحي وكل ما أملك، يا ليتني كنتُ مكانك.»

     مد كلتا يديه إليه وهما لا تكادا تستقران من شدة الرعشة التي ضربتهما، نزع عنه خوذة البذلة الفضائية التي تهشمت تماما، مد إحدى أذنيه إلى قلبه فسمع دقاته تتصاعد فتنفس الصعداء وتمالك نفسه وقال: الحمد للرب.

    وكما دبت الكارثة في قدميه فأعجزتهما عن الوقوف استنهضت أيضا عزيمةُ إنقاذه فرد الله الروح إليهما، فحمله جاك على الفور وهو يحاول جاهدا وقف نزيف الرأس بكل السبل، واستدعى له طبيبا.

                       ***

    بينما جاك يحاول وقف نزيف الرأس ودموعه الحارة كالجمر تتساقط، دخل الطبيب.

    أسعفه، كما أوقف النزيف تماما من خلال عملية جراحية، وجلس ينظر إلى جاك دهشا من شدة هلعه وحزنه على الرغم من أن الطبيب يعلم أن جاك أمريكي الجنسية.

    أفاق فهمان بعد لحظات، وقبل أن يهمس بكلمة هبّ الطبيب من جلسته وقال له: «لابد من الراحة بضعة أيام دكتور فهمان فجراحك غائر وواسع.»

    سأله جاك عن حالته فقال الطبيب: «كما سمعت دكتور جاك، الجرح غائر وواسع، ولقد أصيب أيضا بكدمات حادة في بعض الأجزاء من جسده، لذلك سوف يحتاج إلى علاج طبيعي.» ورحل الطبيب.

    فور رحيل الطبيب حاول فهمان النهوض فلم يستطع، فالجرح أصابه بالدوخة، والكدمات آلمته.

    قال جاك: «أتريد أن تذهب لدورة المياه يا فهمان؟ حسنا، سأتصرف.»

    قال فهمان بصوت فيه حسرة: «ألا نستكمل التجارب؟»

    ذهل جاك وقال: «تجارب! ألم تسمع قول الطبيب؟ قال بضعة أيام.»

    - «وهل يمهلني إبليس وحزبه بضعة أيام حتى آتيه، أكيد هو وحزبه يلتفون حول كاجيتا ويتناوبون عليه الوسوسة حتى يدمر العالم.»

    قال جاك دامعا: «يا فهمان، إن كان لي خاطر عندك فلا تفكر في هذا الأمر قبل أن تتعافى، أرجوك وأتوسل إليك.»

    نظر إليه فهمان نظرة حب وإجلال وقد قرر أن يمتثل لرغبة جاك، بعد لحظات غلبه الإعياء فنام رغما عن أنفه.

                                     ***

    فور وصول كاجيتا وفريقه أرض مطار طوكيو الدولي كان في استقباله سيارة طائرة من أجل أن تقوده إلى "كانتيه".

    أمر كاجيتا فريقه بالذهاب إلى أهليهم، كل واحد منهم لم يجد في نفسه غضاضة من أمر كاجيتا إلا ناكامورا فقد امتعض، ودارى امتعاضه ببسمة عريضة، حدق كاجيتا بتلك البسمة واستقرأها جيدا، فقال في نفسه: ويلك يا ناكامورا ماذا تريد أن تفعل بي؟ بل ماذا تريد أن تفعل بقنابل الثقوب السوداء إذا حزتها؟

    ورفع كاجيتا يده نحو الصرة التي تحوي القنابل الخمسة وذرات الرابيديوم، يتحسسها ليتأكد أنها ما زالت في حوزته ولم يسرقها منها ناكامورا، وناكامورا ينظر إلى يده ويتمنى لو تنسلخ الصرة من جيبه وتطير في الهواء وتذهب إليه.

                                            ***

    دخل القصر، فهب رئيس الوزراء واقفا، وعلى وجهه ارتسمت علامات الحرص فألجمت لسانه عن التعبير عما بداخله، فأشار بيده إليه إشارة تساؤل عن نتائج رحلته.

    فتهلل وجه كاجيتا، فانفرجت أسارير الرئيس وأسرع إليه واحتضنه في غبطة غامرة وهو يقول: «نجحت، نجحت، صح؟»

    قال كاجيتا: «إن كاجيتا لا يعجزه شيء يا سيادة الرئيس.»

    ابتعد عنه رئيس الوزراء قليلا ويداه تربتان على كتفيه، أما عيناه فتمتلآن طمعا وسروروا.

    قال كاجيتا: «أخيرا سيادة الرئيس، أخيرا سآخذ العزاء في أهلي الذين ماتوا في هيروشيما.»

    تركه الرئيس وجلس على كرسي العرش الذي لا يحب أن يفارقه بتاتا، وقال: «بل قل آن الأوان لتحكم اليابان العالم.»

    استاء كاجيتا قليلا، وجلس على الفور ثم ما لبث أن قال: «قبل أن نقيم سرادقات العزاء علينا بتطهير خريطة العالم.»

    وفتح هاتفه، وأخذ يقلب في بضع صور، فلما عثر على الصورة التي يريدها ثبتها على الهاتف.

    قال وهو يشير على جزء منها وهي مساحة الولايات المتحدة: «سيادة الرئيس، هذه خريطة العالم، رجاء، انظر إلى هذه المساحة.»

    حدق الرئيس على الجزء المشار إليه وقال: «هذه الولايات المتحدة الأمريكية، ما شأنك بها؟»

    - «أريد محوها من الخريطة.»

    وقبض على يده ثم بسطها ونفخ فيها كأنما يريد أن يزيل ما علق بها من قاذورات وقال مستدركا: «هكذا أنفخ فيهم فيكونون كالهشيم تذروه الرياح.»

    دهش الرئيس وقال ممتعضا: «أنا لا أريد استئصال شأفتهم وإنما حكمهم، ثم من يسكنها فيما بعد إنْ أنا وافقتك على ذلك؟»

    قال كاجيتا في نفسه: أيها الأحمق، جنون العظمة سوف يضيع علينا حقنا في طلب أجساد أهلينا التي ذابت وذرتها الرياح مع الغبار النووي.

    وأراد أن ينتصر لرأيه، فقال: «سيادة الرئيس، لقد فرضتْ عليك أمريكا بأن تكون حليفا لهم وعليك الانتقام منهم من أجل ذلك.»

    - «كان يجب أن أساورهم حتى لا أفقد مكانتي، فتاريخ الانقلابات العسكرية على مر العصور كان بيد أمريكية، وهذه الانقلابات لا تخفى على أحد، ولا يرتاب في أمرها أحد.»

    - «لكني أريد الانتقام.»

    وقف فور أن قال كاجيتا كلمته، ووقف له كاجيتا احتراما لشخصه، ثم ما لبث أن مرر الرئيس يده على لحيته وهو يسير الهوينى وأخذ يفكر بعمق، ولما اهتدى لحل قال: «اسمع يا كاجيتا، سنهلك أساطيلهم البحرية التي يتفاخرون بها، لكن اعلم أني سأفعل ذلك من أجل إرضائك، فمسألة الانتقام هذه لا أكترث لها.»

    سكت كاجيتا حزنا، أما الرئيس فسكت يتدبر أمرا آخر، قال بعدها: «قل لي يا كاجيتا، كيف لهذا البيض المتناهي في الصغر (يقصد طبعا قنابل الثقوب السوداء) أن تفعل ما لم تستطع فعله القنابل الهيدروجينية، أو حتى الذرية؟ قرّب لي الفكرة.»

    زفر كاجيتا زفرة طويلة وقال له: «سيدي الرئيس، الانفجار الذي حدث لنا من انشطار أنوية النيوترونات واليورانيوم، وهذه أيضا ذرات (يشير في هذه اللحظة إلى الصرة) ولكنها تتحول إلى ثقوب سوداء فور ضرب ذرات الرابيديوم الموجودة في وسطها بالليزر.»

    عاود الرئيس وسأله مجددا: «لم تجبني يا كاجيتا عن سؤال سابق، من يسكنها إذا وافقتك على هلاكهم جميعا؟»

    أجابه: «سيادة الرئيس، ستجذبهم الثقوب السوداء وترمي بهم في كون لا يعرفه أحد، أما مساحة أراضيهم فستنقص من مساحة الكرة الأرضية، لأن القنابل ستجذب ما حولها من مادة وترميها في كون آخر.»

    دهش الرئيس، ولم يستسغ الأمر لشدة الدهشة.

    فاستطرد كاجيتا: «مساحة الكرة الأرضية 510 مليون كم2 ويطرح منها مساحة أمريكا 9,826,675 كم²، هذه هي مساحة الكرة الأرضية الجديدة سيادة الرئيس.»

                                                         ***

    أقبل إليه، فلما دنا منه بسط يده إليه وقال: «القنابل.»

    فأومأ كاجيتا برأسه إيماءة استفهام ودهشة.

    قال الرئيس: «ما بك؟ لم تندهش؟ أريدها.» وبسط كلتا يديه.

    أمسك كاجيتا نفسه عن الضحك وهو يسرع بإخراج القنابل المصرورة بورق لين، قال كاجيتا: «ها هي.»

    احمرّ وجه الرئيس وقال له ناهرا وفي نيته أن يبطش به ويجعله أحدوثة تلوكها الألسن: «أتستغباني أيها الحمار! أين القنابل؟»

    يعلم كاجيتا مقدار الصلف الذي يملأ كيان الرئيس، لذلك باغته قولٌ تردد على سمعه: لا تثريب عليك، فلولا صلفك ما أرسلتني إلى مصر لصناعة القنابل.

    أجابه كاجيتا: «انظر سيادة الرئيس، حدق بهؤلاء جيدا، حدق.» يكلمه وهو يشير بإصبعه نحو الخمس قنابل التي بحوزته.

    قال الرئيس وهو يمد يده نحو الصرة: «هاتها، هاتها، رويدا رويدا.»

    لم يتمالك كاجيتا نفسه وانفجر في الضحك هذه المرة، وقال وهو يخرج من جيبه صرة أخرى ويشير إليها: «لا تخش سيادة الرئيس فإنها لا تُفعّل إلا بضرب ذرات الرابيديوم هذه بالليزر.»

    فتمالك الرئيس أعصابه، أخذها وحدق بها جيدا وقال: «إنها أحدّ من شفرة الموس بيد أنها أدق من بيض البرغوت، كيف تعمل هذه الملعونة؟

                                  ***

             لمن لم ينشر الجزأين السابقين، أحدهما أو كلاهما

    رابط الجزء الأول: https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid032tbKZW9o5e4a2d8PWpm1PcimvSP9GhPDL3WmB9qFWxYf6CKVcwJtgaPSq9SAh5uDl&id=100015389673131&refid=17&_ft_=mf_story_key.1310434902812820%3Atop_level_post_id.1310434902812820%3Atl_objid.1310434902812820%3Acontent_owner_id_new.100015389673131%3Athrowback_story_fbid.1310434902812820%3Astory_location.4%3Aprofile_id.100015389673131%3Aprofile_relationship_type.1%3Aactrs.100015389673131%3Athid.100015389673131%3A306061129499414%3A2%3A0%3A1654066799%3A-6980160948171050313%3A%3A%3Aftmd_400706.111111l&__tn__=%2As-R

     

    رابط الجزء الثاني: https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0a1csVeDA34Jg9RMNgUrKeu2NQLSDEWDWauqCc272pJE9FQ5g49ry2yGVR1MjVCVNl&id=100015389673131&refid=17&__tn__=%2As-R