نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

    سبعة أشياء عن النقد وسبعة أُخَرُ عنه أيضاً فراس حج محمد / فلسطين

    الكتابة في مرات كثيرة هي إعادة تدوير أو إعادة انتشار للمعلومات، وأكثر ما ينطبق هذا القول على الكتابة النقدية، فما هو عمل الناقد بناء على هذه العبارة؟ لا يخلو الأمر من تساؤلات أخرى من قبيل: ما جدوى النقد؟ وما أهميته؟ وهل النقد يعلّم الكتاب الطريقة التي يكتبون فيها؟ وهل من أثر للنقد في حياة الكتاب؟ وما الطريقة الأنسب ليكتب النقاد نقدا؟

    أسئلة كثيرة قد يطرحها الناقد أو الأديب على نفسه، وبالنسبة لي فأنا أرى متعة شخصية كبيرة وأنا أحلل الأعمال الأدبية وأقرأها، ولعل الكتابة النقدية في العمل الأدبي إما أن تكون شكرا للكاتب على جميل ما قدّمت يداه من إمتاعي بصورة شخصية، وإما أن تكون لوما له على أنه قد خيّب أملي كقارئ ومتذوق قبل أن أكون ناقدا، فتأتي كتابتي حينئذ نوعا من إنقاذ القراء من هذه الخيبة المتوقعة لمن هم على شاكلتي، وكأنني أشجع الآخرين على أن يقفوا معي ضد الكاتب في الحالة الثانية، وفي الحالة الأولى من أجل إنصاف الكاتب والإقبال على قراءة عمله الأدبي، وفي كلتا الحالتين أقوم بتحشيد القراء ودفعهم إلى الاصطفاف معي، وأن يتخذوا ما اتخذت من موقف تجاه العمل المنقود، إنني معنيّ أيضا بإثارة البلبلة- بالمفهوم الإيجابي- حول العمل، مع التأكيد أنه لا يوجد طريقة مثلى للكتابة النقدية، إنما القناعة هي المعوّل عليها في أية كتابة، فلا الشكل نهائي، ولا المضمون نفاديّ مغلق.

    لا أنظر إلى النقد على أنه يمكن أن يكون معلما، فكثير من الكتّاب لا يلتفتون إلى ما يكتب عنهم، وإن التفتوا فإنه لمن المستبعد أن يأخذوا ملحوظات النقاد على وجه الاسترشاد والتطبيق الآنيّ، لعدة أسباب:

    أولاً: لأن الكاتب لا يقوم بإعادة كتابة عمله الأدبي مرة أخرى لينفذ الملحوظات النقدية، كل ما يستطيع فعله هو تدارك ما في النص من أخطاء لغوية في طبعة قادمة. فهذا الأثر الإجرائي غير متوقع إطلاقاً، ولا يفكر فيه الطرفان، الكاتب والناقد.

    ثانيا: لا أظن أن ما ينطبق على كتاب ما من ملحوظات نقدية سيكون مفيدا في عمل إبداعي جديد، لأن الكاتب الجيد سيقوم بكتابة جديدة مغايرة ولا يكرر نفسه، ولا يقوم بهذا العمل بفعل عمل الناقد، بل بفعل استراتيجياته الإبداعية. ويعد عمله السابق خطوة متجاوز عنها، ويتطلع لما هو قادم بكل قدراته العقلية واستعداده النفسي. أقول ذلك لأنني عندما أكتب عملا إبداعياً جديدا لا تخطر "نقودات" النقاد على ذهني، ومثلي- حسب اعتقادي- أعلب الكتاب إن لم يكن كلهم.

    ثالثا: تعد الملحوظات النقدية وجهة نظر لكتّابها، مهما كانت موضوعية ومتسلحة بالعلوم وبالقوانين، ولها منطلقاتها الأيديولوجية والفنية والثقافية ومصادر الناقد ومعارفه تلعب دورا مهما وحاسما في النظر إلى العمل الأدبي، وهذه كلها أو بعضها قد تجد من الكاتب المنقود نفورا أو خللا. أو أن له منطلقاته ومصادره أيضا، وقد تصل إلى حد التناقض مع الناقد، كأنهما يقفان على طرفي نقيض. فكيف سيستفيد أديب يساري النزعة والتوجه من ناقد إسلامي المنطلقات في القراءة والحكم وتقييم الأعمال الإبداعية، شكلا ومضمونا؟

    رابعا: لا يخلو عمل الناقد من محاولة الاستعراض الثقافي والمعرفي على الكاتب، ومحاولة فرض سلطته المعرفية عليه، بحكم أنه ناقد وبيده إمكانية التقييم؛ فيرفع العمل أو يُخفضه، وما على الكتّاب إلّا أن يؤمّنوا من وراء النقاد الذين نصبوا أنفسهم أئمة في محاريب الكتابة الإبداعية.

    خامسا: يأتي الناقد إلى العمل الأدبي- في أغلب الأحيان- وهو محمل بآراء مسبقة حول عملية الكتابة؛ في أنها ناقصة ويعتريها الخلل،كونها عملا بشريا، فينصبّ جهد الناقد على التفتيش واستخراج العيوب والتعامل مع النص على أساس من هذا التشوه المسلم به مطلقا، وعليه سيكون العمل الأدبي ناقصا ويعاني من إشكاليات منهجية ولغوية وما سوى ذلك من عناصر الصنعة الكتابية. وستنحصر مهمة الكاتب حينئذ في تقزيم النص وتشويهه وتجريده من جمالياته المحتملة.

    سادسا: العملية النقدية لا تتجرد من الذوق الخاص، وهذا الذوق خادع في كثير من المرات، فمن أحب عملا رفعه، والعكس صحيح، وتلعب أمور كثيرة دورها في صناعة الذوق الخاص للناقد منها: علاقته الشخصية بالكاتب، وأفكاره العامة، أو وظيفته، أو الجنس الأدبي الذي يكتب فيه، أو بلده، أو لغته، أو جنسه؛ كاتبا أو كاتبة، وقد تصل إلى حد الحكم على الجمال والوسامة الشخصية للكاتب أو الكاتبة والمظهر العام والدين أو التدين وطبيعة اللباس، وصلة القرابة، والحالة الصحية، وكلها لها أثر في توجيه عمليات النقد وإن بدرجات متفاوتة.

    سابعا: عدم ثقة الكتاب بالنقاد غالباً، فالكاتب الممدوح مطمئن إلى جودة نصه فتأخذه النشوة، والكاتب المقدوح في نصه يسبطرّ مدافعا وواصفا الناقد بشتى الأوصاف، وعلى أحسن تقدير فإنه سيصف ما قدمه الناقد بأنه نقد انطباعي، وغير علمي، وغير منهجي. وأما النقد العلمي المنهجي فهو أيضا صعب ومؤطر بسياج من المصطلحات، ولا يحمل تقييما في الغالب، وهو بعيد عن متناول يد الكاتب، وإن قرأه لا يفهمه، لأنه لم يتوجه الناقد إليه به، هندسه على القوالب المعينة لأغراض غير أدبية ولا تمس صنعة الكتابة من قريب أو بعيد، فلا يستفيد منه الكاتب، ولذلك فالنقدان؛ الانطباعي والمنهجي في دائرة بعيدة، لا يصل تأثيرها إلى الكتّاب، فكيف سيتعلم الكتّاب إذاً من النقاد كيفية الكتابة الجيدة؟

    من خلال كل هذه الأسباب أرى أن علينا أن نقلل من سقف توقعاتنا من العملية النقدية وأثرها في تحسين مستوى الكتابة، فأثرها المباشر يكاد يكون صفرا في عملية الإبداع إن لم يكن صفرا في واقع الأمر.

    ولكن هل يعقل أن يكون النقد بلا فائدة؟ لا شك في أن النقد أحد وجوه الحيوية الثقافية، ومن وجهة نظري فإن النقد في مفهومه العام مؤشر على هذه الحيوية ويمكن أن تندرج أهميته فيما يأتي:

    أولا: وجود حركة نقدية في السياق الثقافي مؤشر إيجابي نحو التفاعل مع الأعمال الأدبية ومناقشة كتابها، وتساعد على إيجاد أجواء من الاشتباك الذي يشير إلى التعافي الفكري الذي يتطلب هذا النقاش الذي قد يصل إلى حد التعارض في وجهات النظر، ويُتّخذ النقد وسيلة من وسائل الترويج والإشهار، كما هو الحال في لجان تحكيم الجوائز التي تنظر بإيجابية إلى طبيعة النقد المقدم في العمل وطبيعة هذا النقد وجديته، ما يومئ إلى حضور العمل الأدبي في سياقه الثقافي الذي يحيا فيه.

    ثانيا: النقد بكل مدارسه المنهجية والانطباعية يحقق نوعا من التعايش مع الأفكار المتباينة في المجتمع وتعمل الحركة النقدية على إرساء شروط من التعايش المبني على الحوار البنّاء المفضي إلى تقبل وجهات النظر أو على الأقل السماح لها أن تعيش وتعبر عن أفكارها في عدم رضاها عن فكرة ما ونقدها أو نقضها، ويشير منع عملية النقد لفكرة ما توجّها دكتاتوريا مدمرا وغير صحي، كما يحدث أحيانا في مجتمعاتنا العربية، أو كما يحدث وتُمنع الدوائر الأكاديمية والإعلامية والسياسية انتقاد الحركة الصهيونية أو التشكيك بالمجازر النازية ضد اليهود في ألمانيا، لتزجّ بها- إن تجرأت على النقد والتفكيك-  في دائرة العداء للسامية، فيتعرض النقاد إلى المحاكمة والملاحقة والتضييق.

    ثالثا: يعزز النقد إنسانيتنا الباحثة دائما عن الكمال، ولذا فالنقد في جزء منه هو لرأب صدع النفس التي تصاب بأمراض أخلاقية معينة، وهو علاج للناقد قبل أن يكون علاجا لأفراد معينين في المجتمع. فالناقد هو أكثر شخص يرى عيبه؛ لأنه نذر نفسه لرؤية عيوب الآخرين عبر حيواتهم المسطرة في الكتب. سواء أكانت حياة حقيقية أو متخيلة، لذلك يكتسب النقد مهمة علاجية للناقد من أمراض العصبية والانغلاق والسادية وغيرها من أمراض خلُقية.

    رابعا: تُشبع العملية النقدية غرور الناقد ليجد له منفذا ليتقاسم مع الكاتب عمله الإبداعي لاسيما إن كان عملا أدبيا ناجحا وحقق شهرة ما، فكونه ناقدا سيكون مؤهلا دون الحاجة لدعوة مباشرة من الكاتب لينقد العمل الأدبي، فلا يحق لكاتب أن يمنع ناقدا عن نقد أي عمل أدبي منشور. هذا ربما ما يفسر تهافت النقاد على الأعمال الأدبية للكتاب الذين يفوزون بجوائز، أو تسليطهم للضوء على أعمال بعينها فازت بجوائز. وكذلك تشبع العملية النقدية غرور الكاتب نفسه في كونه استطاع أن يؤثر في الناقد سلبا أو إيجابا ليكتب في أعماله الأدبية نقداً مرة أو مرتين وأكثر؛ ما يساعده على توسيع سلطاته المعرفية وانتشاره لدى عدد أكبر من القراء.

    خامسا: تحقق الكتابة النقدية وعيا عاما وأحيانا تفصيليا لدى القراء عموما، ولدى الكتاب المكرسين والمحتملين، فتخلق نوعا من الاستعداد النفسي لتقبل وجهات نظر الآخرين، وأن العالم فيه كثير من الأفكار المتضاربة، ولا يحق لأحد أن يقول إنه امتلك الحقيقة المطلقة، فمن يكتب وينشر "عرض نفسه للنقد" لا محالة، مهما كان، ويحق لأي قارئ أن يبدي وجهة نظره، فالنقد ليس فيه محاذير ولا محظورات. حتى الشخصية منها، فهي ليست بمنأى عن التناول؛ فمنذ القديم وصف المتنبي بصفات نفسية شخصية غاية في البشاعة وكذلك الحطيأة والجاحظ، ولم يسلم كثير من شعراء الهجاء من البعد الشخصي هاجين ومهجوين، وكذلك الكتّاب المعاصرين كطه حسين والعقاد ونزار قباني وغيرهم كثير، فعلى ذلك لا بد من توطين النفس لمثل هذا الذي قد يحدث للكاتب، فلا يثور أو يغضب عند كل عملية نقدية لا تعجبه ولا تدغدغ أحاسيسه ولا تشبع غروره، فالنقد أسمى وأجل من أن يكون مجالا أو سببا للعداء بين الكتاب والنقاد.

    سادسا: المجتمع الذي يشيع فيه النقد علانية مجتمع صحي سياسيا واجتماعيا وفكريا، وشهد التاريخ على ذلك في مجتمع روما القديمة والمجتمع العربي في العصر العباسي حيث شاعت المؤلفات النقدية ووجد النقاد الكبار أصحاب المؤلفات التي أسست لفكر نقدي منهجي عقلي منظم ومدروس. وتشهد على ذلك أيضا المجتمعات الحديثة حيث يشير تطور العملية النقدية ومناهجها إلى حالة من الازدهار السياسي والفكري والتقدم في شتى المجالات. لأن النقد بمفهومه العام لا يقف عند نقد العمل الأدبي، بل يتوجه إلى نقد كل مناحي الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية، كما يشير تطور العملية النقدية إلى تطور العلوم الأخرى لأنها ذات مؤشر قوي على صحة الحياة العقلية في الأمة وتعافيها.

    سابعاً: تكمن أهمية النقد في أنه ذو قدرة على التعميم، فالعملية النقدية قادرة على نقل الخاص إلى دائرة العام، والشخصي إلى الجماعي، والمحلي إلى العالمي، ويشكل النقد حلقة وصل بين كل متقابلين لجسر المسافة التي تفصلهما، عدا أن النقد ذو قدرة على التأصيل ووضع الشروط والقواعد العامة التي ستصبح بديهيات الكتابة التي سيُسار على نهجها، كأن العملية النقدية هي وحدها القادرة على التأصيل واستخلاص العبر من التجربة والبناء على قواعدها المستقاة من العلوم والآداب على حد سواء.

    وهكذا فإنه من المفيد أن ينظر إلى العملية النقدية بمنطقها العام وليس بدوائرها الصغيرة الضيقة المحصورة في قراءة نقدية هنا أو هناك، فالناقد ليس مدققا لغويا ولا معدلا في البناء الهندسي للأعمال الإبداعية، وليس هو ضابط إيقاع للشعراء، وليس هو أيضا تابعاً للمبدعين، يترصد كتاباتهم على أبواب المكتبات وفي الأكشاك، فلا يجد له عملاً إن لم يكتب الكتّاب، إنما الناقد هو الضمير الكلي الذي يسكن فينا جميعا، لنظل ساعين نحو الكمال في كل شيء، سياسيا- قبل الكمال الشخصي- والاجتماعي والثقافي والفكري، فلا شيء أهم من النقد، لاسيما وهو الملكة التي تؤشر على مستوى من الذكاء، جعله العلماء والتربويون في أعلى السلم من النشاط العقلي، فلا ينبغي لنا أن نحشره في التفسير والتحليل والحكم على الأعمال الأدبية فقط. فالنقد ملكة فطرية ضرورية لاستقامة الحياة والتخلص من أدرانها، أو هكذا أتوقع منه أن يكون.


    قصيدة "الحب من وراء الحُجُب / علي بركات

    قصيدة "الحب من وراء الحُجُب" ج1


    ١-أراها الشوك يضوع منه الأسي


    والكمد...

    وفيها كان الوصف لي إنسان

    والحال في كبد...

    ٢- بَدئي ولحظي وغدي


    في الروع مُتجانس...


    وأخشى مني عني وعني مني


    مُجافٍ لامؤانس...


    ٣- الصمت صراخ يفزع ضجيجي

    المتراكم...


    وعيني للفراغِ زحاماً مضنيًا


    تراه...

    ٤- الشوق علي خرطِ القتاد لوجدي

     

    كالزحفِ...

     

    والهمس واللمس والحس تصاوير المدي للقلب

     

    كالرجفِ...

     

    ٥- الليل أنوارُ وشموس

     

    ووهجُ متحول...

     

    والنهار تابع وظلال وتحسس

     

    وسكونُ متحور...

     

    ٦- اليوم كمخروطِ زجاجٍ تعرّت تحته

     

    تضاعيف البارحة

     

    دهرًا...

     

    فمُزِقَت تفاصيل الحياة فهانت

     

    واستحالت علقماً

     

    وقهرًا...

     

    ٧- السنون جارية كالأنهارِ

     

    وشواطئ آمنه

     

    كانت...

     

    فتبدل عذبها أُجاجاً

     

    وكفة ميزان للجورِ

     

    مالت...

     

    ٨- تعودتُ الحب من وراءِ الحجبِ

     

    مستورًا...

     

    وما تعودتُ القول بالحاده ،

     

    وما تعودتُ الشكوى

     

    مقهوراً...

     

    ٩- صحوُ هو العشق المُعلق على جدرانِ فؤادي ،

     

    وموتُ هو ان اثقلني ،

     

    وهزعت منه مقلتي...

     

    ١٠- الآه كنت أنت، وما أنّت الآه

     

    إلا لآهاتي...

     

    وبعهدي حَلّقت الروح بالأفقِ ،

     

    وما خفق القلب

     

    إلا للوعاتي...

     

    ١١- بالوريدِ سكن الدم ولوريدي ،

     

    أنت السكن الدافق...

     

    فكيف لغائله من صروف الدنيا

     

    تلاحقني ،

     

    وحكيمي أنت ، والمرافق...

     

    ١٢- ما عادت بيننا مثاقفة ،

     

    منذ ربط أنفاسي بهواك

     

    وراح التأي ...

     

    وغدوتَ المساق لعمري الباقي

     

    فأزحت منه اللأي...

     

    ١٣- في الحنايا أمُرْ

     

    وبالحنايا يقف العمر...

     

    وفي الوسط أسبح انا الطفل

     

    وأظل الطفل!

     

    لايشيخ وجدي

     

    في روعة وجودك الحر...

     

    ١٤- أُمارس الشغف حين غروبك

     

    فيميل غصني منتشياً

     

    لأستميلك...

     

    وأكسر عني عزوفك.

     

    ١٥- مُتأهب أنا، متقد انا..

     

    أجاهد الحرف،

     

    لعلي أحترف مجامع الكلم

     

    أو لعلي أنسج شعرًا

     

    يليق لك رداءً.

     

    ١٦-الهروب ملجئي

     

    ومنك إليك أهرب ُ

     

    تصافح عتمتي نورك!

     

    فأبدو نجمك الأقرب

     

    ١٧- مُحلقُ انا دوماً كالطيرِ

     

    أسع الفضاء بجناحي

     

    أحطُ في محطاتِ البحار النائية

     

    باحث عن حصنٍ لأخبئ أحلامي !

     

    ١٨- تسألني عني

     

    فيلف الشك حيرتي

     

    عن كلي تود إجابتي ؟!

     

    أم عن بقايا مني؟!

     

    ١٩- مُثقلُ مُتوجسُ مُترقب..

     

    فاحذرني ...

     

    أن تهز أوتار دواخلي

     

    أبصرني بعين الحق

     

    فطيب قلبي لايستحق السحق!

     

    ٢٠- من وهدة السقوط من بعيد

     

    تراقبني!

     

    قصصت مني ريشي

     

    مررتَ على تخوم اوجاعي

     

    لأغدو مهيض الجناح

     

    ٢١- المهاجر القديم هو أنا

     

    الأسير القديم يكون أنا

     

    وأنا الغسق في الترحال

     

    وشمس الأصيل وأول الأيام

     

    ٢٢- شكوت العلي في عُلاه

     

    ان في الدروب غُلاه

     

    وأني قد خاصمني النصيب

     

    وأن القسمة له لا لسواه

     

    ٢٣- أيها الحاضر في لونك النهاري

     

    ياصاحبة الخد الأسِيل الوردي

     

    ياذات الشعر الذهبي

     

    يا إلهام العين في غفوة الفجر بالشهر العربي

     

    تخجُلني براءتك

     

    فأجدني كالقمرِ للشمس

     

    يذوبُ نوري في ضوء حضورك

     

    ٢٤- أيها الشوف البعيد القريب

     

    الآتي من خدرِ الماضي

     

    سل من البريةِ أعظمها

     

    مَنْ يأتيني بعرش الكلمة قبل ميلادها

     

    لأشق بها نفقي نحوها

     

    ٢٥- هادرُ هو داخلي

     

    يموج فيه التصور العنيد

     

    ينحتُ بإزميله إرهاصات

     

    الفصل العتيد

     

    ٢٦- ياموسم الحصاد في زمن الشُح،

     

    العاتي

     

    كم أنت كريم !

     

    وكم كنت كريم!

     

    بين جفاف قاسي

     

    وبؤسٍ لئيم!

     

    ٢٧- أيها العطاء الراقي الراقد في ذاتي

     

    الباحث في حقولٍ بلا جداول

     

    بقلب صحراءٍ رحبه

     

    تنشد الحفيف

     

    تنتظر الخرير

     

    تنصت في ترقب زقزقة طيور

    إضاءة على ديوان وشيءٌ من سردٍ قليل هند زيتوني/ كاتبة سورية مقيمة في أمريكا

    الشعر هو الدم الآخر الذي يسكننا، وعندما يفورُ شريانه نعرف بأننا أمام عملية مخاض لولادة قصيدة جديدة. لا أشكّ في أن الشاعر فراس حج محمد يملك شرياناً متميزاً، يضخ له حروفاً  متفردة لا يملكها أحد. كما قال الشاعر سعدي يوسف "السير مع الجميع، بخطوة وحيدة".

    وأنا أطالع ديوانه الرائع "وشيءٌ من سردٍ قليل" وجدت نفسي بحالة نيرفانا لم أعهدها من قبل. فعندما بدأتُ القراءة، حملني طائر الشعر وهبط بي على أغصان قصائده المتفردة التي تتميز بالبيان الساحر والشاعرية العذبة. وكأنني كنت أستمع لأوركسترا تعزف على الحرف الباذخ البديع، الجريء والشفاف.

     فلا بد من أن أعترف في البداية بأن هذا الشاعر الفلسطيني- هو ناي في فم القصيدة–  وما زال يمشي كل يوم إلى كرمة الشعر ليعتّقَ خمراً، وبما أن الشعر لا يمكن شرحه، لأنّه ابن الحدس والتأويل- كما قال أحد الأدباء- ولكن عندما سيقرأ هذا الديوان علماء اللغة والبلاغة سيجدون أنّ هناك الكثير من الشعر المميز الذي لا يُخفي نفسه. والصنعة الشعرية البديعة التي صيغت بلغة غنية بالمفردات، بالإضافة إلى السرد النثري، والخيال الآسر.

    وكذلك سنجد أنَّ هذا الشاعر البديع، لديه قدرة هائلة على ترويض الأفعال والأسماء، وكأنه يخلق أبجدية جديدة ونمط جديد لكل ديوان يكتبه. فهذا الديوان يختلف عن الدواوين التي قرأتها له، فبعد أن تقرأه تشعر أنه قصيدة غزل وحب طويلة كتبت بحرفية عالية المستوى. لا شكّ في أنه شاعر نمت على أصابعه أغصان الحروف وأزهار المعاني، وتلك موهبة ومنحة إلهية أغبطه عليها.

    الشاعر فراس حج محمد شاعر الحب والمرأة بلا منازع لهذا الوقت ولكل وقت، شاعر يكتبه الشعر بلا تكلف، بلا صور معقدة أو غريبة، تسيل منه لوحات الشعر كشلال يتراقص على  قيثارة النجوم. للمرأة مكانة كبيرة في دواوينه، يعرف كيف يصفها، وكيف ينتقي الكلمات المناسبة لها. يقول:

    إلى امرأة تحب قصائدي وتولّهي

    وتمليني عليّ قصيدة من وحي عبقر

    يا حلوتي هذا الصباح إليك سُكّر (ص 172)

    ويقول: في قصيدة شهية فعل الأمر:

    تعالي واشعلي جسدي

    وذوبي في الغواية

    واحملي عني يدي لتستريح بموج شعرك

    واقطفي عسلي كيما تعود شهيتي، جذلى

    ترتّل في السماء نقيّ سردك …! (ص 7)

    أي موسيقا تنهمر من تلك الكلمات؟ وأي جمال آسر تحمله مفرداته؟

    عندما نتابع القراءة، نجد أن الشاعر جمع بين الشعر الأيروسي والصوفي. وقد يتعجب منه القارئ كيف يفعل ذلك، ولكن لا أرى أيّ إشكال في ذلك؛ فمزج الألوان جميل في اللوحة الفنية. مثلاً من الممكن أن تمزج بين الأحمر والأسود أو الأبيض والرمادي، هذا يضفي جمالاً على المضمون الشعري في سياق الكتابة ويمنحه نوعاً من التنوع.

    الصورة الشعرية مذهلة، وجامحة وثمّة حدس، قلق وشغف يدفع الشاعر للكتابة، وقد يكون هناك للشاعر أنوات تتدفق بالشعر وتفيض بالعاطفة، أشعر أنها تنقلنا إلى ارتفاع معين في السماء، لتبعدنا عن وجع الأرض. كما أنها صورة، ناطقة، تكاد تقفز من الورقة. إنه شاعر يفرد بساط جموحه وعشقه بأناقة وجمال وجرأة وينثر عليه حروفاً مضمّخة بالحب والشهوة والغريزة العفوية. يقول في مقطع آخر:

    تعالي كي تأكلي الثمرة

    وآكل حبة التوت الشهي على وجع المياه

    تعالي واغرسي الشهوة فيَّ

    كي أقوم إلى معابد نشوتي

    ثم يقول: تعالي مثل عصفور شهي النقر في شفتي

    لأكتبَ من جديد ما أراه (ص 11)

    هنا تتجسد الصورة الشعرية الأيروسية بمنتهى الجمال والأسلوب البديع. ثم نجده يقول: جائعٌ لسيل الضوء من قمرٍ يضاجع غيمةً

    تلهو على أطراف كون

    جائع للسرد (ص 37)

    ثم ينتقل إلى أبيات لها صبغة صوفية حين يقول: "الحب إعجاز إلهي كما القرآن". (ص 104)

    وغردي على غصني القريب من الله

    كناراً ذاب في قلب الكنار

    أعطني بنتاً تُحبُ الله والدنيا

    تحب الناس والحيوان والأحلام، والدفلى (ص 14)

    ثم يقول في هذه الصورة الشعرية البديعة:  

    وأخيراً تسقط الشمس بعيدة عني ويطفئ الله العالم عند المغيب

    تؤدّبني، سنوات عمري الستة والأربعون واكتفي بالأغاني. (ص54)

    وأيضا:

    قبليني

    كي أحفظ مفردات الله

    قبل ظهور الجنة والدركات السفلى من نزل الجحيم.

    قبليني بشرعة عيسى وأحمد

    لينهض كل شيءٍ من عدم (ص 93-94)

    ثم إن للثورة والسلام والوطن حصة في شعر الشاعر، حيث يقول:

    قبليني كي أشعر أنني قد صرت حياً

    حراً

    رجلاً ثورياً، فالآتي ليس كضربة نرد (ص 91)

    اللافت في هذا الديوان المذهل التناص القرآني الجميل الذي بدأ به العنوان فكان موفقاً في ذلك:

    - (وشيءٌ من سردٍ قليل)

    - كل ما في الأمر أن فراشةٌ تشهد (أن لا إله إلا الحب)

    - لو كنتُ  فظاً أو غليظ القلب لانفضت طيور الشعر من حولي

    - يحملني الحُبّ على تفسير قرص الشمس

    - وجه له عينان باسمتان ويقول لي بغنجٍ (هيتَ لك)

    ويكتب عن الحب فيقول:

    يا حب لا تكُ قاسياً فتكسرني

    وغلغلني بكلك كي أعيش في صوري على المرآة

    أراك حياً مثل وحي الله. (ص 23)

    كما قلت سابقاً للشاعر فراس حج محمد، مدرسة شعرية خاصة، حيث يبتعد عن الكتابة المتكررة والمقلّدة. هي كتابة بكر- لم يجترحها أنس ولا جان- يجب أن ننتبه لهذا الأمر ونغرف من بحر إبداعه. فهو قامة فلسطينية مميزة. لا أريد منكم أن تسموا شارعاً باسمه، ولا أن تطبعوا صوره على عملة ورقية، ولكن أتمنى أن يدرج شيئا من شعره في برامج التدريس، ليتعلم الجيل الجديد من إبداعه، لأننا سنجد في حدائق هذا الشاعر ما ننهل منه الكثير من مدرسة شعرية راسخة، قد تكون عوناً للأجيال القادمة.

    فراس حج محمد

    عند الباب في يوم الحبّ.. ليسَ لي مِنَ اللّغةِ إلّا طعمُها المرّ / فراس حج محمد / فلسطين

    هذي القطعة من جسمكِ المجنونة بالجنسْ

    تفرّ إليَّ

    تضجّ بالانتقام الحيِّ

    تستعمر نصفيَ السفليَّ كي تشبعْ

    تغسل نفسها بماء الغيمة البيضاءْ

    تعرِف نفسها؛ إذ تتعرّى من وظائفها غير أنْ تستلذّ بطعم هذا الماءْ

    قطعتكِ الحيويّة هذي لا تنامْ

    ولا تدعُ الأناملَ كي تنامْ

    تدعو الجنّ كي يصحوا على مساحتها الملساءِ

    لتلهوَ بي

    وتكبرَ بي

    تغرّد بالنشوة إذ تعود إليكِ بي

    قطعتك المربربة تلك

    أجمل ما يلفت الأنظارَ- أنظار اللغةِ الشهيّةْ

    ما يعطي للانتظار معنى النارْ

    تأخذني إلى تأمّلها ونحن عند البابِ

    باب المصعد العالي

    هبطنا من "سفينتنا"[1] وغادرْنا النعيمَ

    بعثرتنا الطريقُ

    تلاشينا كأنْ لم يبق منّا غير هذي اللغةْ

    وشيءٌ من عجين النصّ في "الإصحاح"[2]

    ولم يرتوِ الحبّ من أيّ شيءْ

    ذهبتِ كما يذهب العيد في كلّ عامْ

    "ولم يربح الحبّ"[3]

    ولكن؛ هل خسرنا كلّ ذاكرةٍ وجملةِ شعرٍ ودمعةِ قلبْ؟

    -----------------------------------------------------------------

    [1] مطعم السفينة في مدينة رام الله.

    [2] إشارة إلى كتاب "الإصحاح الأول لحرف الفاء".

    [3] جملة من قصيدة لمحمود درويش.