نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

عطر الأمكنة :بقلم:زوليخا موساوي الأخضري

رائحة الأرض و شذى زهر البرتقال. لم نصل بعد، لكن المساء يحمّل نسيمه عطر الذكريات. للأمكنة رائحة. معذور بروست حين أفاضت رائحة كعكة قريبته ضفاف بحثه عن الوقت الضائع!


ها أنا أعود. بعد كل هذه السنوات؟ هل المكان نفس المكان؟ هل أنا نفسي؟ نسيت أم سامحت؟ أم الإثنان؟ أم لا هذا و لا ذاك؟


أمشي الآن بخطوات أكثر ثقة. لولا قلبي الأحمق لقلت بقليل من الغرور. لكني مع ذلك أتهيب من اللقاء. لقائي مع ذاكرة المكان، مع رائحة المكان، مع شجن االمكان. هذا النسيم المعبئ بأريج تلك السنوات لا ينبئ بخير. أعرف أني أضعف من أن لا أسامح. لكن هل سأتمكن من النسيان؟


قلبي المجنون الذي يبكي لأتفه الأسباب: نحلة تسقط متخبطة في حلاوة كأس شاي، قط تحت المطر، متشرد في الشارع، طفل يقفز بين السيارات في المدارة كفراشة مجروحة ، يطوف بعلبة مناديل ورقية...


وحدة قاتلة. لا جار، لا رفيق، لا صديق، لا راديو لا تلفزيون ، لا صدر حنون و لا يد تتلمس مكان الجرح. صمت و صمم. ممنوعات، حواجز تسدّ المنافذ. فضاء مسيّج رغم انفتاحه على شموخ جبال الأطلس التي ترعى نومه بهيبتها المكللة بالثلج.


هناك في الأفق الجنوبي للسهل تتلألأ قرية كنت أتصورها زورقا يسبح في العتمة. أعرف الآن أنها تسمى أفورار.


الصمت و هفهفة أغصان أشجار البرتقال تؤذيني فألتجئ إلى كتاب. ذلك الغرق اللذيذ مؤنسي الوحيد. نهارات قائظة و ليالي لا تنتهي. ماذا سأفعل حين ينتهي مخزوني من الكتب؟ أعيد قراءتها؟


أعود الآن و قد توقفت في محطات كثيرة. اكتسبت من شوكها غلالة كبيت السلحفاة. تعطي انطباعا بالصلابة.


كل شيء يجرحني: الماء في الساقية،صياح الديك في الفجر، الراديو القديم في غرفة الجدّ المغلقة بإحكام، مذاق العسل في قبلة على وجنة طفلي الحريرية، مذاق التين من الشجرة وراء البيت، صياح الدجاجات السمينة تبحث عن مكان تبيض فيه، الفرن الطيني قرب شجرة الجوز العتيقة، رائحة الأرغفة الساخنة... كل شيء لا يزال في مكانه لكن ليس على حاله. رغم أن الأشياء تحتفظ بنفس المكان، نظرتنا لها تتغير، إحساسنا بها يتغير. لأن نظرتنا تتحرك، كإسفنجة تتشبَع بكل ما تجده في طريقها و هي تعبر الخط المتستقيم للزمن.


هل أستطيع بعد كل هذا الوقت أن أحب هذا المكان الذي آذاني بسطوة طاغية؟ استغلّ هشاشتي تلك و احتياجي لخيط ضوء ينير العتمة التي كانت تحيط بي من كل جهة، ليغرس سكاكين الوجع في خاصرتي.


ما أقسى بعض الأمكنة و ما أتعس قلبي!


كيف عليّ أن أتعامل معه الآن؟ هل أداوم على تجاهله كما أفعل ؟ أخترقه و أنا فوق سحابة تسحبني إلى البرزخ الذي أشتهي بعيدا عن مخالبه التي تريد أن تنهشني ثانية دون رحمة؟ أم أقاطعه تماما و لا أفكر حتى في المرور بالقرب منه؟


يا مسكينة! ألا تدرين أنك تحملينه في كل خلية منك، أنك تحلمين به كل ليلة؟ نفس الحلم تقريبا. يختلف فقط في بعض التفاصيل الصغيرة.


أمشي و أمشي. أعرف أني متجهة نحوه. شعوري؟ ملتبس تماما. هو خليط من البهجة و الرهبة. أسرع الخطى كي أصل، ثم حين أقترب، أبحث عن طريق ملتو كي لا اصل أو أصل متأخرة.


مرة، كنت أمشي نحوه كعادتي و قلبي تعتصره نفس الرغبة في الوصول و نفس الرهبة من الوصول، وجدت نفسي أمام بابه الحديدي الكبير. لكن الباب كان خشبيا. ألم يكن كذلك؟ باب مدرستي الإبتدائية هو الذي كان خشبيا؟ و ما دخل باب المدرسة في حلمي هذا؟


لم أدخل البيت أو المدرسة لا أدري لأن الباب كان مغلقا و لم تكن لي الشجاعة لطرقه، لكني خرجت من حلمي. بقيت وقتا غير قصير أبحث الأمر على شتى الأوجه. لم أصل إلى حل و عدت للنوم ثم لنفس الحلم.


ماذا عليّ أن أفعل كي ينتهي كل هذا؟ كيف أتصالح مع هذا المكان الذي عذّبني سنوات عديدة منذ عدة سنوات. بعد كل هذا الوقت لم أشف منه. مريضة أنا بالمكان. عليّ أن أجد طريقة كي أتصالح معه لأتصالح مع نفسي.


أتيت هذه المرة من أجل هذا الهدف. سأفتح الباب الخارجي على مصراعيه و لن أغلقه كما كان الجدّ يوبخنا دائما إن أهملنا ذلك، سأدعو صديقاتي و أصدقائي إلى حفلة شواء، أفتح كل الغرف و كل النوافذ، أترك الموسيقى تصدح في أرجائه و تختلط بوحشة الليل و نسيم الزهر، سندخن سجائرنا في الغرف، ننزع أحذيتنا و نرقص بجنون حفاة على البلاط البارد، سنكسّر بعض الأواني، ندعو الكلب للمبيت فوق السرير و ننام متكوّمين على الأرض.


في الصباح، سأنظر للجدران، للغرف و للأثاث ربما بحب أو على الأقل بارتياح محايد و سأعرف أن الحلم قد غادرني لأني فتحت الباب ووجدت الطفلة التي تشبهني تنتظرني في كل زاوية من المكان.