نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

حاور الأخشاب فأطرَبها و غنّت:بقلم:دريد الخفاجي

منذ عقد من الزمن ، كنت ادرُس العزف على آلة الكمان كآلة ٍ ثانوية ٍ في       كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد أثناء دراستي لنيل شهادة الماجستير في العلوم الموسيقية . وقد كان اختياري لآلة الكمان نابعا ً من دافعين ، الأول ، هو إعجابي وحبي الشديد لهذه الآلة ، أما الدافع الثاني ،  فكان رغبتي الولوج إلى عالم التأليف والتوزيع الموسيقي الآلي ،  وكنت حينها قد واجهتني صعاب عديدة ، أشدّها كان الحصول على آلة ٍ موسيقية ٍ جيدة ، لأتمكن من التمرن والتدريب عليها ، فمن المتعارف عليه لدى معلمي الموسيقى إن للآلة اثر في تيسير تقدم الدارس في دراسته بشكل يتناسب طرديا ً مع جودة الآلة وصحة أصواتها ، فضلا ً عن اثر جودتها وكمال صنعها في تعلق الفنان وانجذابه للعزف عليها .
        وهكذا لم استطع الحصول على آلة ٍ جيدة ٍ تلبي طموحاتي ، لان الآلة الجيدة كانت مرتفعة الثمن ولا يستطيع إلا كبار الفنانين اقتنائها ، ومقابل ذلك تجد سوق الآلات الموسيقية مليئة بآلات الكمان تجارية الصنع واطئة الثمن الواردة اغلبها من مناشئ آسيوية .  وقتها ،  تساءلت مرارا ، ً لم لا يحاول صناع الآلات الموسيقية التقليدية كالعود والقانون وغيرها تصنيع آلة الكمان وهي الأكثر طلبا ً في سوق الآلات الموسيقية . وبدا بالفعل أن هناك من خاض تجربة صناعة الكمان ، الآلة العصية الإتقان ، السحرية المقاييس والمعادلات الفيزيائية ، وكان صاحب هذه التجربة رجل اسمه ( برهان ) وهو كردي عراقي من أقصى الشمال إلى الشرق ، وتحديدا ًمن  ( حلبجة ) التي تهتز مشاعر العراقيين عند سماع اسمها ،  وكل ما كنت اعرفه عن حلبجة أنها البلدة الكردية المنكوبة  التي قضى رجالها ونسائها وأطفالها الأبرياء بشكل يعجز الإنسان عن تصوره . وقيل ان هذا الصانع من حلبجة يصنع آلة الكمان وعائلتها بيديه بإتقان ٍ عال    أثار انتباه تجار الآلات و أدهش العازفين الأكراد في بغداد الذين أرسلوا إليه آلاتهم ليقوم بإصلاحها أو ترميمها بعد أن يأسوا من إمكانية عودتها للعمل ، ومع الوقت بدأنا نسمع عن برهان الذي لم يشاهده احد باستثناء بعض العازفين الأكراد الذين يسمح لهم فقط بدخول إقليم كردستان بعد الانفصال السياسي والإداري عام 1991 .
     وقد شاءت الظروف بعد سنوات أن اعمل تدريسيا ً في جامعة صلاح الدين في أربيل عام 2004 بعد الحرب التي أسقطت النظام السياسي في العراق ، وكنت في احد الأيام في زيارة لمعهد الفنون الجميلة في أربيل وأثناء وجودي لاحظت شاباً يجلس مع أساتذة الكمان وبيده آلة بنية اللون ، وبعد أن بدأ احد الأساتذة تعريفي بالجالسين تفاجأت حين عرّفني  بالشاب ذو الكمان البنيّة وقال " برهان صانع الآلات الموسيقية "  فتساءلت إن كان هو برهان صانع الآلات الشهير عندها أكد لي صديقي انه هو وان كل العازفين في كردستان يفخرون به  ، وسبب المفاجأة هو أنني تخيلته اكبر سنا وهذا ما شرحته له بعد أن جلست أحدثه عن صيته الذائع بين الموسيقيين في بغداد وكافة المحافظات  وإعجابي الشديد بصناعته وخصوصا الآلة التي كان يمسكها وكانت آخر ما قام بصناعته والتي تفحصتها بيدي شخصيا ً وشاهدت دقة صناعتها وجمالها النابع من روعة تنسيق عروق خشبها وطلائها الخارجي ، وقمت بالعزف عليها قليلا ً متلمسا ً من صوت الآلة مدى حرفة هذا الرجل وطول باعه .
       ولد الفنان برهان في قرية ( تبة توكة لة ) في شهرزور بأحضان حلبجة الشهيدة عام 1967 ، وهو يفتخر كونه ابنا ً لفلاح ومن عائلة ٍ قروية اكتسبت هذه الخبرة بجهدها الشخصي ، وقد أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في بلدة سيروان القريبة من حلبجة التي أدت مأساتها إلى انقطاعه عن الدراسة الإعدادية ، وقد  شاهد برهان آلة الكمان لأول مرة في حياته بيد معلم التربية الفنية في المدرسة الابتدائية ، ويقول " بعد أن رأينا وسمعنا صوت الكمان في التلفزيون أحببناه بشدة ،  لكننا لم نقدر على شراء واحدة منها ، لكن حبنا للآلة جعلنا نكافح لإيجادها واضطررنا أنا وأخي الأكبر لصنعها بأنفسنا ، وقد جربنا صنع أول آلة موسيقية بأيدينا  عام 1979 وهي آلة كمان مصنوعة من الفلين ، ومن ثم من علب بلاستيكية ، وهكذا بدأنا بصنع آلة بدائية ثابرنا بعدها لتطويرها عبر تطوير أساليب العمل والمواد الداخلة فيه حتى وصلنا إلى حرفة صناعة آلات موسيقية عالية التقنية وبأعلى مواصفات عالمية " .
        وقد صنع الفنان برهان محمود حسين مئات الآلات الموسيقية توزعت بين آلات الكمان والفيولا والتشيلو والسنطور والجوزة والهارب ووصلت آلاته ليد اشهر الفنانين العالميين  الذين أمطروا عليه وابلا ً من التشجيع والمباركة لأعماله الفنية  ، وقام بصنع لوحات فنية منحوتة في الخشب والعديد من أعمال التخريم والحفر في الخشب الذي يختار أجود أنواعه ، ويستورد بعض أنواعه من إيران وتركيا .
        واليوم يدير الفنان برهان دورات لتعليم الشباب هذا الفن ، إذ دأب منذ سنوات على تقديم المحاضرات والدروس العملية ، لتعليم الشبان والشابات صناعة الآلات الموسيقية في احد مراكز الشباب في مدينة السليمانية ، وذكر لي انه عمل على تأهيل أكثر من ستين شاب وشابة منهم ثلاث وعشرين يمارسون تحت إشرافه فن صناعة الآلات الموسيقية .