نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

(1 ـ 4) المفاهيمية في التشكيل العربي....علي النجار

(ان مبدأ الأبداع مماثل لمبدأ الأنبعاث,, الشكل القديم تصلب وعليه ان يتحول الى هيئة مليئة بالحيوية, بالحركة التي ترقى وتشجع, ان تنتعش الحياة والروح وينشط العقل.)
هاينز شتيغل, يوسف بويز
(يتنزَّلُ الفن، في الإجمال، في الواقع من دون أن يكون واقعاً بالكامل، ناشراً عالَماً متوهَّماً يحلو لنا العيش فيه أحياناً - لا في صورة دائمة - بدلاً عن الحياة اليومية.).. مارك جيمينيز*
(على فناننا ان يحلم بان يكون احد مغامري هذا القرن لاستكناه حقيقته الجديدة. متمثلا بسلفه الفنان العربي الاسلامي.)بلند الحيدري**
....................................................................................................................................................................................
ليس الفن الذي يتبنى او يعالج الافكار وليدا شرعيا للمكتشفات الفنية للقرن العشرين فقط. بل هو ابعد من ذلك بكثير. هو بعض من ممارسات الفنون السومرية والفرعونية واليونانية والاسلامية, وما قبلهما وما بينهما وما بعدهما. لنتسائل مثلا: متى توقفت الذات الانسانية الفاعلة(سابقا) والمتفاعلة(حاليا) عن التوقف عن ابتكار او اخراج افكار تعالج مدركات الذات والموضوع, الانا والاخر(بمعناه الواسع). الواقع العياني (الابصاري) والواقع الافتراضي(البصيرة). وان شكلت الفكرة هاجسا ممضا عند العديد من فناني ما اصطلح عليه بما بعدالحداثة الاوربية(الحداثة القصوى, او المعاصرة) فليس الامر الا محاولة منهم لاستعادة الارض السحرية الخصبة التي اهملتها تراكمات تقاليد الصنعة الفنية الرسمية. وجمالياتها الانسانوية المركزية. وخاصة بعد تمزق او تشضي مناطق المركز الانسانوي الغربي بحروبه العالمية العبثية. وخيبات مثقفيه الاكثر حساسية, وعدم اليقين الذي مارسته اكتشافات الفلسفة المعاصرة التفكيكية. فكان لا بد لهم من الرجوع للذات الخفية المهملة وملاحقة ادراكاتها او عصياناتها. تلك الذات التي غيبت تحت ركام العصاب العلمي ومكتشفاته العملية وصلادة مفاعيلها فقط. لكن وبعد ان زال السحر عن الوجه الاخر للتقدم الصناعي التقني الذي غييب الانسان او شيئه صامولا ضمن صواميل تروسه الشرسة. كان لا بد من التمرد وبشراسة تعادل شراسة القهر الذي مورس على الذات قربانا لالهة الحروب والمصائب البشرية, وعقدة الانا المتعالية, بعد ان فتحت ازمنة الازمات الحداثوية في بداية القرن العشرين الباب واسعا على تمردات وتكهنات واحلام الذات في منطقة التعبير والاداء الفني.
ما حداثة ديوشامب او حداثة المستقبلي الروسي مايوكفسكي,او الايطالي مارتيني, وبعدهما باجيال الياباني اون كوارا, الالماني جوزيف بويز, مانزوني, ايف كلاين, مارسيل بروثار, اسمثسون,سياه ارجاني(1) وغيرهم كثر, الا امتدادا لذك السحر القديم الذي فكك واعادة صياغة ادراكاتنا في الجزء المهمل او المغيب منها.
دوشامب من خلال التقاطاته الهامشية( الجاهز والمهمل, والغير منظور له). او كما في أعماله الافتراضية بقوانينها الشطرنجية التي أقصى عنها هاجس الغلبة والخسارة, لصالح قوانينها الرياضية الافتراضية. هو بذلك أشركنا في لعبته متلقين افتراضيين. وتحول إلى عرابا لمناطق اكتشافات الحداثة الفائقة ومنها (الدادا الجديدة). لكن ليس بالهامش أو المهمل وحده تتغذى ألأفكارنا الافتراضية. إن كانت الصناعة والاكتشافات العلمية(ومنها البصرية), وهي صنائع متقنة بشكل ما. شكلت بعض من حوافزاكتشافات اشتغالات الحداثة الأوربية. فالصناعة وكعلوم تطبيقية اكتشفت طرق تنفيذها عبر خطوط وحظوظ الوعي المادي المفرط. لكن العلم أيضا, وهو في المركز من اهتمامات الإنسان الحديث الإجرائية, اوجد فائض أزماته وسحق الروح في جزئها التعبيري الإبداعي الخفي, ولم تعد جماليات المكان ومشهديه الواقع الفيزيائي و مجاورتها فنيا تكفي للتعبير عن كامل ادراكاتنا الواعية واللاواعية التي غيبتها هذه التفاصيل المشهدية وألعابها التحويرية التجاورية. وكان لابد من التمرد على أزمات عصر الحداثة الاولى من القرن العشرين, بعد ان تصادمت محنة العلم بفائضة من أزمات الركود الاقتصادي والحروب الكونية, وأزمنة التعبير الفني التراكمي الاسترخائي. ولتطلق فعل التمرد ألتدميري الغير مسبوق كما (الدادا). ثم عاد الصخب فعلا قابلا للمعاينة الإبداعية حتى بعد انقضاء أزمنته.
منذ أفلاطون وحتى هيكل وكانت وصولا لهربرت ريد. كان للجمال الفني قوانينه التي تكرس الواقع العياني مناطق اشتغال بمرجعيات مستمدة غالبا من مشهديته المثالية الفيزيائية, وحتى ادراكاتها الطقسية(السحرية) عند ريد. لكنها بقيت وعبر كل الحداثات الفنية الاوربية (ما دام كل اكتشاف لمنطقة تعبيرية وادائية فنية جديدة يعتبر حداثة لما سبقها) تراوح ضمن مفهومها الانسانوي المركزي. ولم يلتفت مدوني تاريخ الفن الغربيين إلى الإطراف ـ الجغرافية ـ التاريخية, وبشكل خاص الاسيوية منها ـ (الفن الإسلامي, الصيني والياباني, الهندي) إلا في أزمنة متأخرة بعض الشئ. مثلما لم يلتفتوا لنفس الأطراف في زمن معاصرتنا إلا ضمن براكماتيتهم التسويقية النفعية.
بعد تفكيك المنظومة الجمالية الفنية في أوربا ومنذ منتصف القرن العشرين. بتنا نعوم في محيط عالمي عولمي يستقي عناصر مدركاته الجمالية من كل الأطراف. لقد طال التفكيك, وهو السمة العولمية الجديدة كل شيء, وأصبحنا نعوم في فظاءاته المتعددة. ولم يعد العمل الفني حصرا على حامل اللوحة أو فورم المنحوتة أو رقعة الخط العربي. لقد تفتقت قشرة العمل الفني التقليدي لتفقس كائنات افتراضية إن كانت لها من صلة ما بالأعمال الفنية التقليدية المتنوعة الاداءات ومناطق اشتغالاتها فإنها, اخيرا, وبواقع المكتشفات الرقمية الجديدة أخذت تنأى لحدود قصوى حد اغترابها وهما مطلقا. وان كنا نمارس اعمالنا غالبا, مثلما نتسوق ونأكل افتراضا اثيريا بعض الاحيان. او غالبا كما في العالم الغربي. فان العمل الفني هو الاخر خلق افتراضياته التي هي احيانا قابلة للتسويق واحيانا اخرى عصية على ذلك لحد العدم. ولم يعد الفنان قادرا على التحكم بمقدار مداخيله المالية التي غالبا ما يشاركه فيها وسطه الاجتماعي واجراءاته التسويقية, بعد ان بات العمل الفني يحمل بذرة تهديمه وليس ديمومته. وما يبقى سوى صدى اوهامه الملتقطة رقميا احيانا.
ان كان دوشامب عرابا للدادئية الجديدة وممهدا لفن الفكرة, بإحالات ثقافية تحولية في زمن الازمات الاوربية. فان (جوزيف بويز) وبتأثير من الحدث(سقوط طائرته في الحرب العالمية الثانية, وانقاذه من السكان المحليين (بتغطيته بدثار من اللباد, وتغذيته باللبن(1), تحول عنده وعند مجايليه من الفنانين الالمان, ومن الامريكان(الفلوكسس) الى عمل فني افتراضي يتغذى او ينبني من خلال نقائضه. ومثلما هي مكتشفاته البيئية ـ كفن اجتماعية
ـ تبشيره بالفن البيئي, الذي تحول لاحقا إلا فعل سياسي حاضر في الساحة السياسية الأوربية
المعاصرة. لقد اختلطت الاداءات(فن الارض, الفن الفقير, الاختزالية, الاداء, الحدث
المادة الاولية, الصورة, الجسد) وتحولت الأفكار موادا وافعال فنية في بداية الستينات ولتنتج فنا غرائبيا, لا يحمل من الارث الفني الماضي الا عنوانه اللغوي. لكنه الآن يحتل مساحة واسعة من مشهديتنا الفنية العالمية. وان كان بويز اشتهر باداءاته المعروفة التي أطلق عليها اسعد عرابي(طقوس التجليات التوليفية (2). فان الجسد لم يسلم حتى من تجريح عرييه استحضارا لفعل القمع الانساني المعاصر(زمن الحروب الاقليمية) كما عند الفنانة اليوغسلافية (مارينا ابراموفتش).
أنا لا أريد أن اورد تاريخ الحركات الفنية الأوربية المعاصرة التي أنجبت الاداءات المفاهيمية الفنية(*), بقدر ما أورد اضاءات منها كمدخل لبحثنا عن التجارب الفنية المفاهيمية بجذرها الاوربي, وكمدخل لاداءاتنا الفنية العربية التي هي سليلة الفضاء العالمي. لكننا وكمتلقيين ايجابيين لثقافات العالم, ومنها الفنية, ولإيماننا بحقيقة تداول المكتسبات الثقافية التاريخية في حلقاتها الأكثر تفاعلا. فلابد لنا من الأخذ والعطاء, التأثر والتأثير. بمعنى ما, الإيمان بتداول المعلومة عالميا(كما فعل رواد الفلسفة الاسلامية في عصرها الوسيط). ومن ضمنها المعلومة الثقافية الفنية, وإمكانية تخريجها او تخصيبها بما يتوافق وشروط الإخراج التي يتحكم فيها ارث ثقافي وصوري قابل للتداول وفق المنظومة الثقافية الفنية السائدة في عصرنا, والتي لا تلغي جغرافيتنا وفاعليتها التداولية المعاصرة, بالوقت الذي لا تنفصل فيه عن مجمل الفاعلية العالمية في دورتها المعولمة أو المكوكبة المعاصرة. نحن الآن مثلما نتلقى كما هائلا من سيل مفردات المعارف السائلة ضمن شساعة فضاء المشهدية الإبداعية الفنية الواسعة. علينا أيضا الخوض في إمكانية الكشف عن مكتشفاتنا الفنية الموازية أو المجاورة للمشهدية العالمية. رغم أننا أيضا وكشعوب عربية تعرضنا للإعاقة المعلوماتية بسبب من احباطات تواريخنا الحديثة(المتزامنة وزمن الحداثة الأوربية) المعروفة. لكن الآن, وبعد انتفاء الأسباب المعيقة, بانفتاح الأفق العالمي السبراني, والرقمي, على أرحب فضاءاته. لم يعد هناك من سبب لتأخرنا عن اللحاق, او المساهمة في صناعة أعمالنا الفنية بمحاذاة صناعة مراكزها العالمية الأكثر نفوذا. أخيرا لقد دخلنا فضاء مشاعية المعلومة وعلينا تجاوز بعض عثرات إعاقة طموحنا, و لتجاوز ما تبقى منها. علينا ان نتحسس نبض عصرنا, وان نحاور حداثتنا التي رثت جوانبها حد ثبات عزلتها. والدخول الى الفضاء المعاصر فنا اجتماعيا لا يلغي تجربة الفنان المتمرس مثلما تجربة أي شخص اخر يحاول دخول هذه الفضاءات المشاعة. انه فضاء الفكرة المتحولة بصريا.
يشير القاموس التشكيلي(*) الا ان المفاهيمية هي تحويل فكرة ما الى عمل فني, وان العمل الفني ليس منتج جمالي, بقدر ما هو منتج فكري مترجم تشكيليا. لكن اذا كان الجدول العام لمنظومة الفنون الجميلة الذي وضعه(ايتيان سورو) يشمل سبعة فنون يحمل كل منهما درجتين(تصويرية و تجريدية) هما كل من الفن التصويري ومرادفه التجريدي:
(الرسم ـ زخرفة. موسيقى درامية او وصفية ـ موسيقى. ادب وشعر ـ بيان وعروض صرفيين. ايماء ـ رقص. مستوى تمثيلي تصويري سينما ـ , تلوين مائي وصور. تلوين تمثيلي ـ تلوين صرف. نحت ـ عمارة.)
مفردات الفن المفاهيمي وبالرغم من اشتغالهاعلى كل ادوات هذه الفنون السبعة ومرادفاتها التجريدية الا انها لا تكف عن التقاط أي مكتشف ادائي جديد من البرامجية الرقمية وعوالمها الفيزيائية الواقعية الى الفتنازية التغريبية الافتراضية. لقد شملت مشهدية فضاء الفكرة الافتراضية المفهومية فضاءات شاشات العرض المتنوعة وقابلية الجسد على مطاوعة افكار الذهن, وكل اسقاطات الذاكرة والتذكر عبر ادوات الفن السبعة ولتتحول او تتجدد ذائقتنا الفنية عبر دهاليز الابداع الذي لا يحدها حدود. ويستحضرني ما ذكره(جووست سمايرز) في مثل من كتابه(الفنون والاداب تحت ضغط العولمة), انه واثناء مهرجان أفينون في فرنسا سنة 1996 قامت احدى الفرق المسرحية بحفر متاهة من الممرات تحت الارض يمر فيها الجمهور لكي يجد نفسه في مواجهة عروض وصور ونصوص مختلفة, وكان احد النصوص عبارة تقول( دعنا نسأل انفسنا لماذا اختفت كلمة الاغتراب من مصفوفة الكلمات المعاصرة لكي تحل محلها كلمة الافتراضي. ان ما يخفى في هذه الخدعة السحرية هو نحن, ووجودنا ذاته هو الذي يصبح افتراضيا.)
الوجود الافتراضي, هو الذي بقي كامنا في مخيلتنا. فالمخيلة العربية لا تزال(وخاصة في حاضنها الجغرافي) يتقاسمها او يتنازعها ارثا الماضي والحاضر.
ان كان دوشامب صاغ اعماله بوازع التحول الثقافي في زمن الازمات التاريخي. فان اعمال بويز ماهي الا نوع من التصريف لسلوكه الوجودي, رغم تعميم وجهة نظره اجتماعيا. لكن الامر عند فنانينا العرب ان اختلف غالبا عن ذلك, فانما الامر يعود لسطوة الارث المفاهيمي العقائدي وتورايخه المسترجعة اشتغالات فنية لا تفقد الكثير من مبررات منظري اشتغالاتها. وان بقي ارث الشرق الاقصى لا يزال فاعلا, في منطقته المفاهيمية المعاصرة(3). فان الارث البصري الصوري الاسلامي هو الاخر لا يزال قابلا للتداول عند الفنان العربي بتخريجات مفاهيمية لا تخلو من احالات ماضوية.
.................................................................................................................
1ـ جوزف بويز,من مقالة للالمانية(انيا حداد), نسخة منقحة ترجمتها من قبل علي النجار, نشرت في موقع بغداد ارت ومواقع اخرى.
2ـ اسعد عرابي, المفاهيمية, ويكيديا.
3ـ مثلما هي في الاعمال التقليلية باثرها البيئي الشرق اقصى للفنان الكوري: