نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

من كتب هاملت وماكبث وعطيل / عواد علي

 
لم تتعرض شخصية إبداعية كبيرة إلى التشكيك في هويتها وأصالتها ومنجزها الإبداعي مثلما تعرض الشاعر والكاتب المسرحي العبقري شكسبير، فقد ألهبت الألغاز والأحجية التي غلّفت حياته مخيلة الكثير من الباحثين والمؤرخين لاتخاذها مادةً دسمةً للتشكيك في هويته، أو تزييفها، أو نسب تراثه إلى شخصيات معروفة أو مجهولة، استناداً إلى تخمينات وتخيلات ودلائل ضعيفة، أو بدوافع غير نزيهة منذ بضعة قرون. أولى الأسئلة حول هوية مؤلف "هاملت"، و"ماكبث"، و"عطيل"، و"الملك لير"، وغيرها من المسرحيات العظيمة والسونيتات الرائعة، بدأت مع أبناء جلدته الفيكتوريين، الذين رفضوا أن يصدقوا أن ابن أسرة فقيرة يستطيع كتابة شعر ومسرحيات بهذا المستوى، وبحثوا عن الفاعل بين أبناء الطبقة العليا: فرنسيس بيكون، كريستوفر مارلو، إدوارد دي فيري، وإرل داربي السادس. إلاّ أن هؤلاء الفكتوريين لم يتوصلوا إلى دليل واحد مقنع. وقد عزا البروفيسور بريان فيكرز، الخبير الشكسبيري، شكّهم في هوية الشاعر إلى الجهل والتكبر الطبقي. في العام 1848 شكك الكاتب الأميركي جوسيف س. هارت في أصالة شكسبير، قائلاً إن مسرحياته تحتوي على أدلة تبين أن الكثير من المؤلفين عملوا عليها. وبعد 4 أعوام نشر روبرت و. جيمسون مقالاً بعنوان "من كتب شكسبير" معبراً عن آراء مماثلة. وفي العام 1856 نشرت الباحثة الأميركية ديليا بيكون مقالاً بعنوان "وليم شكسبير ومسرحياته: استعلام حولها"، متسائلةً: "هل يعقل أن تكون أعمال أدبية بهذه القيمة من نتاج رجل كانت حياته كالحياة التي تنسب إلى شكسبير؟ هل يمكن أن تدلوني متى تعلم هذا الشكسبير التاريخ, ومتى قرأ آثار الإغريق, ومتى تعلم آداب البلاط وتقاليد الفروسية؟" وغير ذلك من الأسئلة. وطرحت بيكون نظريةً مفادها أن المسرحيات المنسوبة إلى شكسبير كتبها سراً عدد من الكتّاب هم: الفيلسوف فرانسيس بيكون، الشاعر والمؤرخ وولتر رالي, والشاعر إدموند سبنسر وغيرهم. ثم نشرت في العام التالي كتاباً بعنوان "الكشف عن فلسفة مسرحيات شكسبير" أكدت فيه نظريتها، مبينةً أن هؤلاء الكتّاب كانوا قريبي الصلة من البلاط الإنجليزي, لكنهم في الوقت ذاته كانوا حريصين على أن ينشروا آراءهم باسم مستعار, فلجؤوا إلى استئجار شكسبير الممثل في البلاط الملكي لحمل آرائهم دون خوف من انكشاف أو مؤاخذة. وقد أثار الكتاب ثائرة دارسي شكسبير من الإنجليز, وعدوه وثيقة جنون ديليا بيكون، بل وثيقة جنون أميركا التي تمثلها هذه المرأة, وهاجمته جميع الصحف الأدبية ذات الوزن. كما نشر الناقد الانجليزي جورج هنري تاونسيند كتاب "وليم شكسبير ليس دجالاً" ناقداً ما وصفه بـ "الثقافة القذرة والمقدمات الزائفة، والفقرات المتوازية الخادعة، والاستنتاجات الخاطئة للمقترحين الأوائل كمرشحين بديلين لشكسبير". الباحث العراقي الدكتور صفاء خلوصي كان أول باحث عربي ادّعى في مطلع ستينيات القرن الماضي بأن شكسبير ليس من أصل انجليزي، بل من أصل عراقي!، وأن والده أو جدّه من جنوب العراق، وأسمه "الشيخ زبير"، نسبةً إلى قضاء "الزبير" في البصرة، وقد هاجر من الأندلس إلى ..انجلترا في القرن الخامس عشر، وهناك تحول اسمه على ألسنة الانجليز إلى "شيك زبير" ثم إلى شكسبير!! وسوّغ ادعاءه بأن كلمة "شكسبير" ليس لها معنى في اللغة الإنجليزية ومعاجمها. بعد مرور سنوات على ادعاء خلوصي أيد بعض العرب هوية شكسبير العربية، منهم: العقيد معمر القذافي، الناقد كمال أبو ديب، والباحث حسين العاملي. الأول قال إن أصل شكسبير العربي أمر معروف، فـ "شيخ زبير يعني الشيخ زبير، شيك يعني شيخ، سبـيـر يعني زبير، أي وليم بن الشيخ زبير، فالقضية محسومة لاشك فيها"!! والثاني ذهب في كتابه "سونيتات أو تواشيح وليم شكسبير" إلى أن اسمه أيضاً "شيخ زبير"، وهو سوري الأصل من قرية صغيرة مجاورة لبلدة "صافيتا" السورية!، وأقام حجته على أساس أنه ليس "أمراً عادياً في إنجلترا إبان القرن السادس عشر، وقبل بناء الإمبراطورية، أن يملك شاعر إنجليزي كل هذا القدر من المعرفة عن المناطق النائية من العالم، ويهتم بها كل هذا الاهتمام ويستخدمها في شعره ومسرحه الموجهين إلى جمهور إنجليزي يعيش في جزيرة بعيدة معزولة يغطيها الضباب، حديثة العهد نسبياً بالخروج من أغوار القرون الوسطى...". أما الثالث فطرح احتمال أن يكون أصل والد شكسبير من الاندلس، حيث كان بحاراً في أسطول الأرمادا الاسباني الذي تحطم على سواحل بريطانيا، فوصل الرجل إلى الشاطئ الانجليزي وكوّن أسرةً منها ابنه وليم شيخ زبير. على النقيض من هؤلاء العرب ادّعى باحث إيطالي يدعى مارتينيو ايفار بأن شكسبير من عائلة صقلية هاجرت إلى انجلترا بسبب الاضطهاد الديني، وأن اسمه الحقيقي هو "كرولانزا".. ودليله على ذلك أن كلمة شكسبير هي المقابل لاسم عائلة "كرولانزا" في الايطالية! ربما كان آخر باحث غربي حاول تزييف هوية شكسبير هو الكاتب اليهودي جون هادسون، زاعماً أنه توصل إلى أن شكسبير شخص وهمي، وأن جميع ما كُتب تحت اسمه يعود إلى امرأة يهودية تُدعى "اميليا بوسانو لانييه"، وهي ابنة لأم وأب يهوديين هاجرا من إيطاليا. وكانت أول امرأة نشرت مجموعة من القصائد في عام 1611. وذهب هادسون إلى أن هذه المرأة انتحلت اسم شكسبير عمداً كي تتجنب الوقوع في مصائب كانت تنتظر أي امرأة مبدعة في ذلك العصر. في حين كانت 90بالمئة من النساء في انجلترا آنذاك أميّات، وكان شكسبير محاطاً بنساء لا يستطعن قراءة حرف واحد مما يكتب حينما كتب "روميو وجوليت"، كما يقول بيتر أكرويد، في كتابه "شكسبير: السيرة الذاتية". ودخلت السينما على هذا الخط أيضاً، فأنتجت العام 2011 فيلماً أميركيا بعنوان "المجهول"، إخراج الألماني رولاند اميريتش، عن قصة تمزج الخيال بالواقع وتشكك في هوية شكسبير الحقيقية، وتصوره سكيراً جاهلاً وأمياً. ويسوٌق الفيلم، الذي يستلهم أطروحة ديليا بيكون، فكرة أن إدوارد دي فيري الذي اشتهر باسم "ايرل اوكسفورد" هو الكاتب الحقيقي للروائع التي حملت اسم شكسبير.