نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

محمد الدرقاوي/ صراح


صفق الباب خلفه وخرج ..” ،مشية بلا رجعة ان شاء الله” ..
لم تعد تطيقه، يخرج ويتركها فريسة بذاءة لسانه ودموعها ، ثم يعود ليجدها ..

تسحب حقيبة سفرها من الدولاب ، ترتب دموعها الغزيرة مع بعض ثيابها الخفيفة،تخطو خطوات نحو الباب ثم لا تلبث ان تعود ..تأخذ حقا عاجيا صغيرا من دولاب غرفة النوم وتضعه في حقيبتها ثم تخرج ..
وهي تنتظر سيارة نقل صغيرة لم تكن تدري أية وجهة تقصد؛ تقف
سيارة أجرة ، ينزل السائق ويضع الحقيبة في صندوق الأمتعة ،. ثم يسالها عن وجهتها .
في مقهى المحطة تطلب قهوة ، قريبا منها شاب ثلاثيني يسرق النظر اليها ويبتسم .. وجه غير غريب عنها ..تدير وجهها الى الجهة الأخرى ..
تغوص في حيرة عن الوجهة التي ستقصدها ، لحد الآن لم تحجز تذكرة تحدد وجهتها، قلقة ، متوترة .. هل في خروجها من البيت مخاطرة ؟ هوذا السؤال الذي تجاهد ألا تطرحه على نفسها لانه يجدد الخوف الذي يركبها كلما فكرت في الهروب من زوج لايقيم لها وزنا ، فتظل في بيتها وقد تآلفت مع سلوكات شبه رجل يصر على اذلالها ، تكره أن تفشل كما فشلت في مرات سابقة..تتنبه الى الناس من حولها،لا تريد ان تترك دمعة تفضحها بينهم..
تلتفت الى جهة الشاب ..غاب ..تخلصت من نظراته ، كرسيه الفارغ يسمح لعيونها ان تطلق صراح دمعات تنفلت من أسرها ،بسرعة تتداركها بمنديل في يدها ..
عليها أن تتخلص أولا من حقيبة سفرها ،ومن تم تقرر لها وجهة ، أمامها بيت ابيها في العاصمة ، هل تقبلها زوجته ؟.. كيف تتواءم مع امرأة وكل منهما ترى الأخرى بعيدة عن زمانها ، قضية ونقيض بين بساطة وتعقيد .. من يوم زفافها ثم الارتحال مع زوجها لم يزرها أبوها غير مرة واحدة ، أتاها لوحده ، تغير طبعه كثيرا بعد زواجه ..ربما زوجته هي من تحرضه عليها ..
ثأر قديم ،فالزوجة قد كانت من بين معلمات مدرستها ، تخرجت من الجامعة بعد إخفاقات متتالية ، بحثت عن وظيف ، لكن لا إدارة كانت تقبل أصحاب الدراسات الإسلامية ، ثم عملت كمعلمة في مدرسة خاصة بعد أن يئست ، واعترفت بينها وبين نفسها أن سمنتها واهمالها لنفسها ولسانها “الأعور” كما يقال لن يؤهلها لاية وظيفة .. حين تزوجها ابوها كانت قد تجاوزت الأربعين بكثير ، عانس تبحث عن عريس مهما بلغ عمره قد يخفف من كآبتها ، وما سببته الانكسارات في حياتها : شك في كل شيء ،وسوء الظن بالغير ، مع لهفة على رجل تستدفئ بظله في ليالي سريرها البارد ..
ما أن دخلت الزوجة بيتهم حتى أحست بانها لن تعيش في أمان مع ربيبتها وعليها ان تتخلص منها ،فالربيبة وان لم تكن تلميذتها فقد كانت شاهدة على واقعة مع حارس المدرسة ومن بين المصرحات بما رأت …
ثم فكرت في بيت خالتها .. هي نفسها قد لا تقبلها ، فقد رفضت الزواج من ابنها خريج سجون ،يتاجر في الحشيش وتهجير البشر وأعمال أخرى !!..
حسرة ترين على صدرها، تخنق أنفاسها .. للبيت لن تعود هذه المرة ، فقد ملت الحياة مع رجل تعود أن يدوس كرامتها ،بداءة لسان وسوء خلق ، ويفرض عليها أن تساعده في تجارته المحرمة ، والتي قد تنهي حياتها في السجن ، فهو صانع ماحيا وخمور وبائع حشيش ..
يوم طلبها من أبيها ادعى أنه تاجر ملابس ، لكن حين دخلت بيته وجدته غير ماصرح به ، ومن يومهما الأول تخاصما ، أصرت على العودة لبيت تربت فيه بما قسم الله ، الرضا بالفقر وشراسة زوجة أبيها ، أهون من حياة قد تنهيها في السجن ، وحتى يضمن صمتها وبقاءها معه اشترط على نفسه بوعد مكتوب ألا يشركها في عمله ، وسيبحث عن مكان غير البيت يمارس فيه تجارته .. فالبنت جميلة ، ،وجه كمسحة من الشهد المصفى ،وعينان سوداوان كم هام بهما حين رآها أول مرة .. شغفته بقوامها.. لكن ما ركبها من نفور نحوه، وكراهية لحياة ما تعودتها رغم قلة اليد ،تجاوز السطحي والعرضي في الزوج والمسكن ، مما كان ينغص عليها حياتها بالسب أحيانا ، والعنف أخرى ، والتهديد برميها خارج البيت بعد أن أدرك علاقتها المتوثرة مع زوجة أبيها المتحكمة في بيت صارت هي سيدته بحكم مساهمتها في النفقة عليه.. لم يشفع لها جمال لم تحس له اثرا في نفس زوج غلبت عليه نزعة الشراسة، و حب التملك البغيض ،خصوصا وهو يعي أنها لا تستطيع العودة الى بيت تركته قهرا، فقر، وضعف شخصية اب يخشى أن يفقد مرتب زوحته .
تغلبها دموعها وهي تقصد محل تسليم البضائع ، غيمة تركب على وجهها ، تخطو خطوتين وهي مترنحة ، تسقط ، أول يد تبادراليها بمساعدة يده .. الشاب الذي كان يراقبها في مقهى المحطة :
ـ انت بخير سناء؟؟ !! …
يفاجئها وهو ينطق باسمها ، تتراجع الى الخلف ، تتمعن فيه ، تشحذ ذاكرتها ؛ وجهه ليس غريبا عنها .. يحمل حقيبتها ويسالها عن وجهتها ..
ـ لا أدري أرجوك ، قادرة أن أحمل حقيبتي بنفسي ، هاتها ..
يضحك : يبدو اني قد غبت عن بالك .. انا كريم صديق الطفولة في المدرسة الابتدائية ..
بسرعة تتذكر طفلا أنيقا كان يثير طفلات المدرسة بأناقته واجتهاده،كثيرا ماانتظرها في آخر الدرب ثم رافقها في الطريق الى المدرسة ، وكثيرا ما اقتحم عليها سور السطح العالي أيام العطل يشاركها أكل برتقالاتها أوزيتونها ، أو خبز الشعير بالزيت والعسل ..كأنها تستلذ اللحظة طعم الشوكلاطة التي كان يجلبها معه .خجل يركب وجهها باحمرار :
ـ اعتذر ما أغباني !! .. كيف تغيب عني ؟ فقد تغيرت كثيرا ، طول ولحية تخفي ملامحك رغم ان بصمات الصبا لازال لها بقية من اثر..
ـ لكن أنا مانسيتك ..قالها وهو يشد على مرفقها ..ثم يتابع : كيف أنسى طفلة شكتني الى أمي لاني حاولت أن أسرق منها قبلة ..
يصرعلى أن يعود بها الى مقهى المحطة حتى تهدأ ثم يساعدها على ماتريد ..
تطلب قنينة ماء ،فيضيف وهو يخاطب النادل :
ــ مصطفى !! .. هات معك مزيجا من عصير الفواكه وحلويات ..
أدركت انه مألوف في المحطة ،يعرف أسماء من يعملون هنا وكم من عابر قد رفع اليه يدا بتحية تنم عن تقدير واحترام ..
تحس أن بينها وبينه مسافة غير مسافة الصبا رغم أنه الآن يجلس قربها ، مسافة موقع بين من تعلم وبين من اغتصبه اب بعقدة البنت للبيت لا للعمل تقول بعد تنهيدة عميقة :
كم يطوينا الزمان بسرعة ،أزيد من عشرين عاما لم نلتق..
يتبسم في وجهها ويكاد يقول شيئا لكن حضور النادل بالطلبيات يسكته، وكانه يريد أن يخرجها من حالة التوتر التي تهيمن عليها :
تناولي فطورك، يبدو أنك جائعة والا لما سقطت من فشل ركبتيك .. وقانا الله من الشيخوخة المبكرة ..
تضحك وقد سرى نوع من الانبساط على أساريرها:
“مازلت كريم الذي اعرفه ،لايمرر عبارة بلا “تقشاب” ”
هم واقفا : المهم تناولي فطورك ،وساعود اليك بعد ربع ساعة تقريبا..
حين عاد وجدها أحسن مما تركها رغم عينيها الذابلتين ووجهها الشاحب
ـ سناء هنا ليس مكان حديث ..ممكن تتفضلين معي الى بيتي ..هو قريب من هنا .. اتركك لتنامي ثم بعدها اسمع ما يؤرقك ..
تكاد أن تقول له لا ، فكيف تدخل بيت رجل وهي مازالت في عصمة آخر ؟ لو لمحها أحد وبلغ زوجها .. في الحقيقة ليس الزوج ما تخشى وانما تخاف على سمعة هذا الرجل الذي أخذ بيدها ..ثم كيف يجرؤ على مثل هذه الدعوة ؟
يلاحظ ترددها .. يبتسم كعادته :
ـ لا تخافي سناء ستكونين مع والدتي.
تستجمع كل قوتها ،تمد له يدها ثم تقف .. لتسير معه ..
هدوء نفسي ،يغمرها بالراحة ، لأول مرة في حياتها تطمئن لسلوك أتى من غيرها ، تسير معه راضية رغم أنه هو من حدد خيار الذهاب الى بيته ..
لم يكلمها أثناء الطريق التي لم تكن أكثر من خطوات الى الطوار المقابل للمحطة …
تجد والدته في استقبالها .. تعانقها بترحيب حار:
“اهلا بالطفلة التي كنت اراها من سطح البيت تلعب على التربيعات ثم أتت تشكو لي ابني من سوء أدب ..كم صرت جميلة في شبابك !! ..”
اللحظة تدرك لماذا تركها في المقهى ثم غاب ، لقد أتى الى البيت ليهيء ظروف استقبالها ..
تتابع الام قائلة : لن ارهقك بحديث فقد أخبرني كريم انك متعبة تعالي !! ..
تدخل مع الام ممرا قصيرا حيث توجد غرفتان ،تتقدمها الام الى الغرفة الأولى ، تزيح ستارة النافذة ، كل محتوياتها تشير الى أنها غرفة لطفلة صغيرة ، تنتبه للأم وهي تقول :
ـ ذي غرفتك ،الحمام أمامك ،ارتاحي ولا تفكري في الزمن ،متى صحوت فانا بالبيت ..
تخرج الام وتتركها ..تجول ببصرها في الغرفة ، طاولة للدراسة. رتبت عليها بعض الكتب ، ومشغل اقراص ، على الجدار الأمامي للسرير ساعة حائطية طفولية ومرآة على الخزانة. .. الحمام صغير ،نظيف ومرتب المحتويات ، على يمين باب الحمام دولاب داخل الجدار ..خلعت معطفها وارتمت على السرير ، الصمت ما يرين في أعماقها كما هو حولها ، لم تعد تحس بشيء ..نامت …
لم تدري كم من ساعة قد استغرقها النوم، لكنها حين صحت واطلت من النافذة وجدت الشمس تميل الى المغيب ، راحة تغمر نفسها ، وعن فكرها تلاشى الزوج والاب وزوجته ؛تدخل الحمام ، تغتسل ،تسحب حقيبتها من الدولاب و تغير ملابسها، تتملى وجهها القلق أمام المرآة ، فقد استعاد نظارته وهدوءه ، ترفع البصر، تعيد النظر في محتويات الغرفة،كل شيء هنا يوحي بالهدوء والجمال ، تخرج الحق الصغير من حقيبتها ، تقبله ثم وتضعه قلب خزانة صغيرة قرب السرير .. تتقدم على رؤوس أصابعها الى البهو، لم يكن غيرها في البيت ، اين ذهبوا ؟ في زاوية تجد مائدة صغيرة مغطاة بمنديل مطرز، تزيح المنديل فتلفت نظرها ورقة مكتوب عليها : “هذا أكلك سناء ، المطبخ على يمينك لتسخين الأكل ، لا تقلقي انت في بيتك “؛
العبارة تحرك أمعاءها بغرغرة ، جوع قوي يفتح شهيتها للأكل..
وهي في المطبخ تسمع الباب يفتح ، لم يكن غيره ، يرى النور في المطبخ فيتجه اليه مباشرة .. يحييها ويسألها كيف صارت ، ثم بسرعة يبدد تساؤلا يقرؤه في عينيها :
ـ الحاجة ذهبت لعيادة خالتي بعد ان بلغها تفاقم حالتها الصحية ،ستعود ليلا ..
تحمل أكلها ثم تقصد المائدة .. :
ـ سناء أنت في بيتك ،فتصرفي بكل عفوية ، اصعد لاغير ملابسي ريثما تنهين أكلك ..
تأكل بشهية غابت عنها مدة ، حين نزل قال لها:
ـ ساعد قهوة ،هل تشربين القهوة مساء ؟،
تحرك راسها بايجاب وبسمة تعلو وجهها..يتذكر قبلة السطح التي لم ينلها منها فيهتز قلبه بخفقة شوق ..
وهما يشربان القهوة يرفع بصره ، ينظر اليها بتركيز.. كم صار وجهها بهيا رغم أثر من ضنى !! .. يهتز قلبه بحنين ثم يقول:
الآن أحب أن اسمع مابك ؟
تتنهد و نصف ضحكة تعلو وجهها :
ــ هربت من زوجي !! ..
لم تنتظر منه سؤالا، وشرعت تحكي ما تعانيه من يوم دخلت زوجة أبيها البيت بعد موت أمها بشهر ، وأن علاقة المعلمة بابيها نسجت خيوطها من قبل وفاة الأم ، فبقدر ما طمع الاب في راتب المعلمة كانت هي طامعة في رجل يفك عنوستها .. بعد رشفة من كأس قهوتها تتابع :
ـ كنت ألاحظ تغير ابي اثر زواجه بها ، فهي كانت تخشى أن أبلغ ابي بفضيحتها مع حارس المدرسة ، كانت تستعجل الايام حتى أتزوج واغادر البيت ،ولم يكن حظي الا في رجل هي من زينته لابي وألحت على ان أقبله ، حقير لئيم، خلف الدرهم لاهث لا يهمه من أين مصدره ..
يستغرب كيف أن الطفلة الجميلة ، الصغيرة الوديعة التي كان يشاركها الطريق الى المدرسة تؤول الى حياة كهذه..
يحدثها عن نفسه ، عن عمله ، كونه رئيس المحطة التي تصادفا فيها ، عن وفاة زوجته بعد وضعها ،عن بنته الصغيرة ذات الست سنوات والتي تقضي العطلة المدرسية عند جدها لأمها..
تنبس من بين دموعها : ربما كنت محتلة لغرفتها فأرجو ألا تغضب لذلك
ـ لا يهمك ولماذا تغضب ؟حتما ستحبك ،ألست صديقة ابيها في الصغر ؟ ستعرف كم كان ذوق ابيها رائعا !! ..
تتبسم من حياء :ـ لا تبالغ ..
ثم يسالها : هل تفكرين في العودة الى زوجك ؟
وكمن تلذغتها عقرب :
أعود !! .. ولماذا خرجت اذا كنت أنوي العودة ؟ ابدا لن يراني في بيته ، أتحمل زوجة ابي ولا اعود له ..
يفكر قليلا ثم يقول :
ـ غدا تسافرين الى ابيك حتى لانترك فجوة يتسلل منها زوجك وسأنتدب لك محاميا يتكلف بالقضية الى النهاية..
اقبلت والدته ، وبعد اعتذار عن تركها وحيدة شرعت تحكي عن حال أختها ..
لم يكن الزوج بعيدا عن عيون الشرطة لكن لم يظهر له اثر منذ أسبوع ، البحث ابان أنه كثيرا ما ينام في أحد المخازن حيث لا يصرف مخزونات مايصنع فيها الا ليلا ..
بعد فتح المخزن باذن من وكيل الملك وجدوه مختنقا بالغاز مع جثة أنثوية..
تعود الى بيت أقسمت ألا تعود اليه ،لكن هذه المرة في ظروف مختلفة حيث تقضي عدتها .. كانت أم كريم تزورها مع حفيدتها بين حين وآخر، كريم وحده الذي لم يزرها ، لم تحاول أن تسال أمه عنه الا من باب اللياقة والاعتراف بالجميل ..
يوم نهاية فترة عدتها يرن جرس الباب ، لم يكن غيره ، يفاجئها وجوده مع بنته الصغيرة ، فرحتها أقوى من اضطرابها .. بعد التحايا تخرج الصغيرة حقا صغيرا من محفظتها وتقول : وجدت هذا في خزانة غرفتي عرفت أنه هدية منك الي .. أرده اليك لكن بهدية أخرى ، افتحيه ..
يخفق قلبها ,تحس بانفاسها تتصاعد ، تفتح الحق ، سلسلة وقطعة ذهبية تحمل صورتها وصورة كريم وهما صغار ، وكلمة “مبروك”
تنظر الى عيون كريم بصمت ،تحسه قوة تخترق جسدها ..
تتنبه الصغيرة الى الموقف فتنسحب..
قال لها :اعذريني اذا لم ازرك من قبل ..
تمسح دمعة تتدحرج على خدها :
ـ أعرف، رجل يحترم الأصول احترامه للأنثى ..
تتبسم : وما الذي أتى بك اليوم ؟
يمد يده اليها : شفتان صاخبتان ، وعيون جميلة ، وقبلة ماأزال أحن اليها ، هزتني صغيرا واعادت هزتها يوم المحطة.. هل تتزوجينني