بِسُوءِ أَفْعَالِ البَعْضِ تُهَانُ الأُمَّةُ / د: أَحْمَدُ إِبْرَاهِيمُ مَرْعُوه
بِسُوءِ أَفْعَالِ
البَعْضِ تُهَانُ الأُمَّةُ
وَهَا هُوَ الشَّرُّ ذَاتُهُ يَتَمَخَّضُ
وَيَسْتَفْحِلُ خَاصَّةً وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي غَفْلَةٍ، وَعَنِ الحَقِّ مُعْرِضُونَ
وَبِالْذُّلِّ وَالهَوانِ رَاضُونَ، وَيُجَارُونَ الْبَاطِلَ لَا لِشَيءٍ إِلَّا لِأَنَّهُمْ
خَائِفُونَ عَلَى مَا هُمْ فِي الْبَاطِلِ يَغْتَنِمُونَ.
وَلِأَنَّ نُصْرَةَ الحَقِّ تَحْتَاجُ
مِنْهُمْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الَّتِي مَا تَعَوَّدُوهَا، لِأَنَّهُمْ تَعَوَّدُوا
عَلَى الذُّلِّ وَالْاسْتِعْبَادِ قُرُونًا طَوِيلَةً ابْتِداءً مِنْ أَجْدَادِهِمْ
الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا المَسْلَكُ المَشِينُ، وَالَّذِي اتَّخَذُوهُ مَسْلَكًا لَا
يَسْلُكُهُ إِلَّا الضُّعَفَاءُ الَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَبِيدَ أَكْثَرَ مِنْ رَبِّ
الْعِبَادِ.
وَإِذَا حَاوَلْتَ جَاهِدًا الْبَحْثَ
عَنْ سِرِّ ضَعْفِ الجُبَنَاءِ، تَجِدُ أَنَّ كُلَّ النُّفُوسِ السَّيِّئَةِ مَا تَعَوَّدَتِ
الْكَرَامَةَ، وَمَا رَأَتِ الْعِزَّةَ يَوْمًا فِي الحَيَاةِ، وَمَا تَعَوَّدَتْ فَهْمَهَا،
وَلَا تَعْرِفُ لِمَاذَا خُلِقَتِ، وَلَا لِمَاذا تُبْعَثُ (وَإِنَّمَا تَأْكُلُ كَمَا
تَأْكُلُ الدَّوَابُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَمُوتُوا وَيُبْعَثُوا
كَالْدَّوَابِّ فَيَعُودُوا تُرَابًا، وَنَسُوا أَنَّ اللهَ سَيُحَاسِبُهُمْ، وَيَقْتَصُّ
مِنْهُمْ لِكُلِّ مَظْلُومٍ أَوَّلًا، ثُمَّ يَقُولُ لهُمْ: كُونُوا تُرَابًا) لِذَا
تَجِدُهُمْ يَلْتَهِمُونَ الْوَلائِمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ زَائِلٍ، وَمَا
بَيْنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ حَائِلٌ!
إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنَ النَّاسِ
مُسْتَعِدٌّ لِأَنْ يُدْلِيَ بِشَهَادَةِ الْبَاطِلِ فِي كُلِّ المَحَافِلِ، لَكِنَّهَا
الشَّهَادَةُ الَّتِي تَكُونُ دَوْمًا بِمُقَابِلٍ، فَهُمْ مُتَعَوِّدُونً عَلَى أَكْلِ
مَالِ اللهِ بِالْبَاطِلِ، وَمُتَعَوِّدُونً عَلَى أَكْلِ السُّحْتِ، وَمِلْءِ الْبُطُونِ
بِأَيِّ شَيْءٍ، لَا يَهُمُّهُمْ فِي ذَلِكَ حَلالُهُ مِنْ حَرامِهِ، لَا تَهُمُّهُمْ
الْآخِرَةُ مُقَابِلَ أَيِّ رَشْوَةٍ، وَأَيِّ عُمُولَةٍ، وَأَيِّ عِمَالَةٍ أَوْ خِيَانَةٌ،
وَلَا تَهُمُّهُمُ الْأَخْلَاقُ، وَلَا يَهُمُّهُمُ الْعِرْضُ وَلَا الشَّرَفُ، وَلَا
حَتَّى الْوَطَنُ، بِقَدْرِ مَا تَهُمُّهُمْ الْأَمْوَالُ وَالمَنَاصِبُ الَّتِي مِنْهُ
تُغْتَصَبُ!
وَلِأَنَّ الدَّعْمَ المَادِّيَّ
الخَارِجِيَّ وَالدَّاخِلِيَّ كَانَ لِلْكِلَابِ مُغْرِيًا، كُنَّا نَجِدُهُمْ لَا
يَتَوَرَّعُونَ عَنْ مُنْكِرٍ فَعَلُوهُ، وَلَا عَنْ شَرٍّ أَوَجَدُوهُ، وَلَا عَنْ
فَسَادٍ ارْتَكَبُوهُ، وَلَا عَنْ صَاحِبِ حَقٍّ اغْتَالُوهُ، وَلَا عَنْ نَبِيٍّ رَجَمُوهُ،
وَلَا عَنْ طِفْلٍ اغْتَصَبُوهُ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَلَا عَنْ ظُلْمٍ فِي بَيْعٍ أَوْ
شِرَاءٍ فَعَلُوهُ أَوْ فِي بَيْتٍ خَرَّبُوهُ، وَمَا تَوَرَّعُوا عَنْ بَيْعِ جَسَدٍ
لِمَيِّتً قَتَلُوهُ، وَلَا تَوَرَّعُوا عَنْ تَرْكِ مَيِّتٍ بِلَا كَفَنٍ وَمَا دَفَنُوهُ!
لَكِنَّ اللهَ كَانَ لهُمْ بِالْمِرْصَادِ
-فَفَجَرَتْ نِساؤُهُمْ -وَزَنَتْ بَنَاتُهُمْ -وَتَقَذَّرَتْ أَوْلادُهُمْ، وَفِي
آخِرِ المَطَافِ ابْتَلَى اللهُ كَثِيرًا مِنْهُمْ بِالْأَمْرَاضِ المُمِيتَةِ، وَكُنَّا
نَرَاهُمْ وَهُمْ لَا يَتَحَرَّجُونَ رَغْمَ دُنُوِّ الْأَجَلِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ،
وَمَا فَعَلُوا فِي خَلْقِ اللهِ بِالْبَاطِلِ لَنْ يَمُرَّ سُدًى، فَإِنَّ اللهَ يُمْهِلُ
وَلَا يُهْمِلُ وَإِنْ طَالَ الْأَمَدُ .. فَافْعَلْ مَا شِئْتَ فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ،
وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، بَلْ تَمُوتُونَ أَنْتُمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
مرَّاتٍ وَمرَّاتٍ -وَلَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي إِحْدَى الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ
وَفِي غَيْرِهَا!
وَهُنَاكَ مِنَ الْكِلَابِ مَنْ يَهْوَىَ
العَضَّ سَوَاءً أَتَاهُ الطَّعَامُ أَوْ لَمْ يَأْتِهِ، المُهِمُّ أَنْ يَعُضَّ الخَلْقَ
أَيْنَمَا كَانُوا، لِيَتَخَلَّصَ مِنَ النَّجَاسَةِ الَّتِي تَمْلَأُ جَسَدَهُ الْقَذِرَ،
وَمَعَ كُلِّ عَضَّةٍ كَانَ يَسِيلُ اللُّعَابُ الأَقْذَرُ، وَفِي كُلِّ لَـهْثَةٍ
كَانَ الْبُخارُ يَتَطَايَرُ مِنْ جَوْفِ الْقَذَارَةِ كُلِّهَا، وَهَا هُمْ قَدْ عَضُّوا
كَثِيرًا، وَفَتَكُوا بِالنَّاسِ كَثِيرًا، فَهَلْ تَخَلَّصُوا مِنْ نَجَاسَةِ الْجَوْفِ
الْقَذِرِ؟
إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكِلَابَ تَعَوَّدُوا
عَلَى أَنْ يَظْهَرُوا وَكَأَنَّهُمْ رِجَالُ المُجْتَمَعِ، وَالَّتِي تَمْلَأُ صُورُهُمْ
المِجَلَّاتِ وَالصُّحُفَ، هَكَذَا هُمْ تَعَوَّدُوا عَلَى أَيِّ مَكْسَبٍ أَوْ مَغْنَمٍ
تَوَهَّمُوا فِيه الْوُصُولَ إِلَى الْعُلا، فَهُمْ يُجِيدُونَ الْمُحَابَاةَ وَالمُدَاهَنَةَ
رَغْمَ الْكِبَرِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ ثُمَّ الْوَطَنَ، وَهَلْ
نَحْنُ لَا نُحِبُّ اللهَ وَلَا نُحِبُّ الْوَطَنَ، وَإِذَا كُنَّا غَيْرَ ذَلِكَ، فَهَلْ مَنْ تَقَذَّرَتْ
أَنَفْسُهُمْ مِثْلُهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ وَيُحِبُّونَ الْوَطَنَ،
وَهَلْ أَخْطَأْنَا لَمَّا قَصَدْنَا لَكُمُ الخَلْقَ أَوَّلًا كَيْ لَا تَمُوتُوا
كِلَابًا!
إِنَّهُمْ أَصْحَابُ النُّفُوسِ الدَّنِيئَةِ
الَّتِي تَعَوَّدَتْ عَلَى التَّلَذُّذِ بِكُلِّ مَا هُوَ رَخِيصٌ مُضِرٌّ، إِنَّهُمْ
تَعَوَّدُوا عَلَى أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِمَالِكِ المَالِ رَغْمَ أَنَّهُ الجَاهُ
المُفْتَقَدُ، وَتَعَوَّدُوا عَلَى أَنْ يَكُونُوا عِبادًا لَمِنْ يَدْفَعُ المَالَ،
رَغْمَ عِلْمِنَا الْأَكِيدِ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ النُّفُوسِ يُبَاعُونَ وَيُشْتَرُونَ
بِأَقَلِّ ثَمَنٍ، وَفِي أَحَايِينَ كَثِيرَةٍ بِلَا ثَمَنٍ، أَوْ مُقَابِلِ اللُّقْمَةِ
فَقَط، لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا
يَكُونُونَ قَدْ تَوَرَّطُوا فِي أَمْرٍ مُشِينٍ، وَيَخَافُونَ افْتِضَاحَ أَمْرِهِمْ،
فَاسْتَمَرُّوا فِي الدَّنَاءَةِ لِأَنَّ فِي رَفْضِهَا نِهَايَتَهُمْ، وَالْاسْتِمْرَارُ
فِي الْبَاطِلِ أَفْضَلُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ فَقْدِ الحَيَاةِ الَّتِي أَفْقَدُوهَا
لِغَيْرِهِمْ نَظِيرَ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِمْ بُهْتَانًا وَزُورًا، وَمَنْ نَالَ
مِنْهُمُ الْأَذَىَ قَدْ قَصَّ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَنَحْنُ كُنَّا صِغَارًا عِنْدَمَا
كُنَّا نَعْمَلُ فِي إِحْدَىَ الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ!
وَقَدْ رَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ
فِي بَعْضِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ أَيَّامَ كَانَتِ الْغُرْبَةُ الْمُؤْلِمَةُ، فَقَدْ
كَانَ المُوَظَّفُ الْعَمِيلُ يَتَجَسَّسُ عَلَى أَبْنَاءِ بَلَدِهِ بَعْدَمَا كَانُوا
يُطْعِمُوهُ مِنْ طَعَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّوهُ صَدِيقًا مُبَجَّلًا،
وَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ حَذَّرْتُهُمْ مِنْهُ إِلَى أَنْ غَدَرً بِهِمْ، وَصَدَرَ أَمْرُ
الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّ مِنْهُمْ مَنْ فَرَّ إِلَى الدُّوَلِ المُجَاوِرَةِ،
وَقُبِضَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَنَالُوا ضَرْبًا بِالجَنَازِيرِ وَبِالْأَحْذِيَةِ، بِالْإِضَافَةِ
إِلَى نَظَافَةِ الحَمَّامَاتِ لِلْبَرِيءِ مِنْهُمْ وَالمُذْنِبِ مَعًا بَعْدَمَا
وَجَدُوا أَنَّ الَّذِي كَانَ يُرَادُ الْفَتْكُ بِهِ قَدْ غَادَرَ الْبِلَادَ فِي
نَهَارٍ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْبَعيدِ، الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الظَّالِمِينَ
وَغَيْرِ الظَّالِمِينَ، وَبِسُوءِ أَفْعَالِ الْبَعْضِ مِنَّا نُهَوِّنُ عَلَى النَّاسِ
فِي كُلِّ بَلَدٍ!
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مِنَ الدَّوْلَةِ المُضِيفَةِ لَنَا، فَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ مُوَظَّفًا لِلْجَمَارِكِ فِي المَصْنَعِ الَّذِي كُنْتُ أَعَمَلُ فِيهِ، وَفِي بَادِئِ الْأَمْرِ شُدِّدَ عَلَيْهِمْ الْخِنَاقُ، فَدَعَّمُوهُ وَقَوَّمُوهُ كَمَا أَرَادُوهُ حَتَّى صَارَ عَمِيلًا لهُمْ، لَا قَاضِيًا بِالحَقِّ بَيْنَهُمْ -ولِمَ لَا -وَقَدْ رَكِبَ السَّيَّارَةَ الَّتِي لَمْ يَرْكَبْهَا جَدُّهُ الْأكْبَرُ إِلَّا يَوْمَ أَنْ رَحَلَ إِلَى الْعَالَمِ الْآخَرِ