نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

الملحمية وتداعياتها في المسرح البرشتي/ مجيد عبد الواحد النجار

مفهوم المسرح الملحمي الذي صاغة برشت، استند على العناصر التي استفاد منها من المسرح الشرقي التقليدي القديم، فهو يريد منه ان يجعل المتفرج راصدا متعقبا ومتسائلا للأحداث، لا متفرجا مندمجا بالأحداث التي تقع امامه على خشبة المسرح، من اجل ان يوقظ فيه الحيوية والفعالية(1).

في البدء يجب ان نثبت بان المسرح الملحمي هو من صناعة وتنظير صاحب الريادة اروين بسكاتور الذي تعلم من استاذه راينهارد في وضع الأسس الكاملة لهذا النوع من المسرح والذي أراد من خلاله ان يجعل (المسرح برلماناً والجمهور هيئةً تشريعية)، كما استخدم فيه التقنيات من اجل تعديل وظيفة المسرح وتأثيره على المتفرج، والتي ادخلها فيما بعد على مسرحه السياسي، دون التقليل من قيمة المسرح الاغريقي او (المسرح الارسطي)،او التناقض معه، لأنه يعتقد بل يؤمن بان رسالة المسرح هي تغيير وتطوير ذهنية المتفرج وتحويلها الى ذهنية إيجابية عاملة في المجتمع(2)، هذا من باب الانصاف والاحقية في صياغة المسرح الملحمي، ولا ننسى ان برشت اشتغل مع بسكاتور ولفترة طويلة ويعتبره استاذه في المسرح، لكنه – برشت – اجتهد بان يدخل المسرح الملحمي في (الادب) لذلك كتب نصوصه المسرحية جميعها عن طريق النظرية الملحمية، فبالعودة الى مشهد الشارع الذي يتحدث عنه برشت عن التغريب والذي هو المثال الامثل والمتداول لتجربة المسرح الملحمي، وندقق كل التفاصيل التي تحدث بها، فيما يخص المشخص/ الممثل وما يخص المشاهد، كل هذا يدخل في صلب الادب وليس المسرح، وبالعودة أيضا الى الإشارة (للتغريب) واهميته في المسرح الملحمي والذي يشكل الجزء الأكبر والذي يتناول الاحداث الاجتماعية والإنسانية المطلوب تصويرها وتسميتها على اعتبارها شيئا يدعو للتفسير والايضاح لا مجرد امر طبيعي مألوف من اجل السماح للمتفرج بالذهاب الى النقد بشكل بناء من وجهة نظر اجتماعية (3)، اليس هذا كله موجود في النص!، ولو لم يكن موجودا ماذا على المخرج ان يفعل؟ وماذا على الممثل ان يجسد؟، هل يخلق المواقف والاحداث لوحده؟ وهل بإمكان المخرج ان يقدم مسرحية (البخيل) لمولير مثلا، بنظرية المسرح الملحمي كما كُتبت؟ دون تعديل، وعلينا ان لا ننسى ان هذا المصطلح يعود أصلا الى ارسطو .

واذا ما ناقشنا (الملحمية) وفسرناها بأبسط تفسيراتها وجدنا بانها (تقسيم المشاهد واستقلاليتها)، وبرشت طبعا يقترب كثيرا من مفهوم (دبلن) في تعريفه للملحمية، والتي يعدها قادرة على تقطيع الدراما الى اجزاء، فماذا نقول عن السينما – الذي اشتغل برشت بها-، اليس تقنية استقلالية المشاهد موجودة في السينما اصلا؟ الم تكن تقنية تقطيع المشاهد موجودة في السينما؟، لماذا لا يكون برشت تأثر بها مثل ما تأثر بالمسرح الشرقي ونقل هذه التقنية التي هي ليس (غريبة) عن الجمهور، فالجمهور كان يتابع العروض السينمائية وهو يعرف ان الاحداث غير متسلسله، وهو متعود ان يجمع هذه الاحداث في النهاية لكي يخرج بقصة مشوقة ومتسلسلة، وتعود في السينما ان يشاهد خطوط فرعية للقصة، وبعضها هامشية، لكنه يتمكن من متابعة القصة الاصلية دون تأثيرات الخطوط الجانبية عليه، كما ان الجمهور كان يشاهد افلام (شالي شابلن) دون حوار،- يذكر (ان (شابلن) استخدم العنصر الملحمي دون ان يكون اشتراكيا او ماديا)(4)– فقط هناك اشارات ورسائل، تكتب على الشاشة، لكنه يتفاعل معها لأنه يفهمها، كما ان برشت كانت له تجارب في السينما مع المخرج العالمي (بايست) في (اوبى القروش الثلاث)، كما عمل مع زميله (فريتز لانج) في لوس انجلس على انجاز (الجلادون يموتون كذلك)، وهو يشير الى أنه تأثر بالسينما الروسية، وسينما ايزنشتاين عندما زار برلين عام 1929.

هل هذا يقودنا للقول بان نظرية برشت المتعلقة بالمسرح الملحمي، هي ليست ابداعا خالصا حققته عبقريته المسرحية، انما هي عبارة عن تنظيم واعادة انتاج من التجديدات والتجارب التي حدثت في عالم المسرح والدراما (5) ومع هذا  فقد عُدت نظرية برشت متكاملة من جميع النواحي لأنها عالجت العمل المسرحي بأكمله.

اذا كانت هذه النظرية متكاملة وتم عرض جميع اعماله على هذا الأساس لماذا غير بعد ذلك التسمية الى (المسرح الجدلي)، هل هناك علاقة بين هذا التغير وشخصية برشت الجدلية المزدوجة؟… وهو الذي لم يصبح ثوريا اجتماعيا الابعد ان سلك السبل في عدميته الأولى (6)، هل يمكن ان يكون لهذا الاضطراب النفسي والجسدي الذي عاش فيه برشت اثر على ما قدم من نصوص مسرحية؟ وما نظرته للمسرح وهو المعروف عنه ان جميع اعماله مقتبسة من اعمال أخرى، وبالتالي فهو مقتبس كل ما يتعلق بنظريته من المسرح الشرقي وتحديدا مسرح (النو) الياباني، والمسرح الهندي، والمسرح الصيني، ومن استاذه بسكاتور، اذن اين النظرية، وما هي التجارب التي اجراها عليها؟ وما هي النتائج التي خرج بها من اجل تطبيقها؟، لقد اراد برشت من خلال مسرحه تغير العالم، فهل استطاع ان يغير من خلال نظريته احداً من جمهوره، هل هناك استبيان قبلي وبعدي من اجل معرفة تأثير النظرية على الجمهور؟.

وبالعودة الى ان المسرح الملحمي يخاطب عقل المشاهد لا عواطفه، اقول منذ متى والمسرح لم يخاطب العقل، اذا ما عرفنا ان المسرح بالأساس انبثق من المعابد، واحتضنته الكنائس فيما بعد، وكانت صبغة التعليم واضحة عندما استخدمته الكنسية الرومانية بطرح تعاليم السيد المسيح وتعليم أبنائهم بنفس الأسلوب وعن طريق المسرح أيضا، وكذلك قام رجال الكنيسة في العصور الوسطى بدعم وتشجيع مسرحيات الاسراء والاخلاقيات كوسيلة لإدماج رسالة الكتاب المقدس (7), فالمسرح الذي يُستخدم لتعليم الأطفال الا يعد هذا  مخاطبة للعقل، لان أساس التعليم هو موجه للعقول وليس للعواطف، اذن من الممكن ان نعتبر ما قاله برشت (تغريبا)، وهو الذي لا يؤمن بالإنسان ولا يحترمه يريد ان يخاطب عقله، نعم لأنه لا يعترف به ككائن له وعي وفهم فقد اعتبره وهذا اعتراف منه في قصيدته (المسكين ب. ب)، ان الكائنات البشرية – وهو يعتبر نفسه واحدا منهم-، (حيوانات كريهة الرائحة) الى حد غريب، كما ان الانسان والطبيعة هما الموضوعات الرئيسية التي تستولي على مسرحياته الأولى والتي يتناول فيها اشكالا من الإنسانية اخطر من ذلك التدهور في بيئة مفزعة، ففي مسرحية (بعل) مثلا نجده يروي حياة شاعر عديم الرحمة ذي ميول جنسية مزدوجة، يشبع غرائزه بدون وازع ضمير، ويموت في النهاية في مهانة وحطة وسط البول والركام معلنا ان العالم ما هو الا براز، وفي مسرحية (طبول في الليل) يصور ما تعانيه الشخصية الرئيسية من فوضى وعزلة… ويسلك اشد السبل اطمئنانا وامانا،(انا خنزير، والخنزير يذهب الى بيته)، وفي مسرحية (غابة المدن) يصور برشت اختلاف الكون وقسوة البشرية التي لا مبرر لها، مختتما المسرحية بتقبل الشر تقبلا سلبيا، هل هذا التغير الذي يسعى اليه برِشت، هل بهذه الطريقة يريد برشت ان يغير العالم، ان هذا الامر يستدعي الوقوف امامه كثيرا، ان هذه الازدواجية الموجودة في شخصية برشت قد انعكست على اعماله وحياته، ولم تتغير نظرته عن المجتمع وعن الفرد، لذلك فهو لا يريد ان يعلم المجتمع من خلال مسرحة او يجعله ثوريا، بل يريد ان يعيد تعليمه وفق ما تملي عليه شخصيته الازدواجية والفوضوية، وضل برشت في حياته الأولى لم يغير من نظرته اتجاه الانسان الذي اعتبره حيوان كريه الرائحة الى حد عجيب ، وهو غير جدير ببطولة او اخلاق او حرية ، او أي شيء اكثر من العمل في سخرية على ما فيه خير هو وبقاءه (8).

ومن ثم اذا كان كل ما يهم برشت هو الانسان وقضايا المجتمع ،والانسان لديه هو الأداة الرئيسية التي يحرك بها المسرحية، لذ لمَ يحمله مسؤولية الإرادة ويجعلها بيد الانسان وليس خاضعة للظروف الحياتية، التي تجبر الانسان في احيانا كثيرة بان يسير معها، وقد ذكر لنا الله في كتابه العزيز: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (9) ويقول: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)(10)، اذن ما ذنب الانسان ان نحمله مالم يستطيع تحمله، وهو غير خاضع لإرادته وحده، وهو غير عالم بكل ما يحصل له سوى الامور الانية، التي من الممكن ان يخطط لها ويفكر، لكن برشت يصر على ان يحمل الانسان المسؤولية ويخضع كل هذا الى المسرح الملحمي، الذي يعني سرد الاحداث الماضية من حروب ومأسي واعمال بطولية وظروف متعددة من قضايا الانسان ومشكلاته التي مر بها في حياة قاسية ومريره، وطبعا هذا الطرح يكون جماعيا يخص شعبا كاملا مر بهذه المعاناة، واحيانا يكون الطرح فرديا(11). وبالعودة الى كتاب المسرح الاغريقي، نجد انهم اعتمدوا في طروحاتهم على المثيولوجيا، ونقلوا للشعب الاغريقي كل البطولات القديمة، ليتعلمو ويستخلصوا الدروس والعبر منها.

لكن برشت ينظر للأحداث التي مرت كابوسا كبيرا انهكت الانسان والمجتمع، وعليه حاول ان يوثق هذا التاريخ المرير لشعبه، ومارس هذا الفعل في بادئ الامر في الشعر حيث كتب العديد من القصائد التي اظهر فيها مظلومية شعبه حيث كتب هذه القصائد بين عام 1918 و 1926 ، حيث كانت القصائد للفوضى والعدمية والكآبة والاستلاب الإنساني في تلك الفترة.

اذن ماذا نطلق على كتابات سنكا وشكسبير، وغيرهم من الكتاب الذين اوخوا لبلدانهم وحكامهم.

فعملية التوثيق لا تستدعي (التغريب)، لان ناقل الحقائق يجب ان يكون اميناً في نقلها، للجيل الجديد من الشعب، الذي ينتظر هذه الحقائق، وينبغي ان يعرفها كما هي ليقوم بنقلها للأجيال التي بعده، دون تشويش، ودون (تغريب)، ولا يحتاج ان يحللها او يحل رموزها، فنقل الوثيقة مسؤولية كبيرة، فمن مسؤولية الكاتب ان ينقل الاحداث كما حصلت في الواقع، مع بعض التعديلات التي تنفعها لغرض المتعة والتشويق، بشرط ان لا يؤثر على مجرى الاحداث، كون الاحداث الواقعية معرضة الى نقلها من جهات عدة، فاذا ما حدث وان نقلت هذه الاحداث من كاتب اخر فسيكون الكاتب الاول محرج امام جمهوره، وتثار اسأله كثيرة حول هذه الاحداث، علما ان قصائد برشت الاولى كانت صادقة في نقل الواقع المرير الذي يعيشه الانسان المضطهد والمسلوب الإرادة، من قبل البرجوازية، ومن ثم نقل التاريخ لا يحتاج الى نظرية جديدة ننطلق من خلالها لتعريف الاجيال به، فهو موجود في الاساطير، وكتب التاريخ والقصص والروايات، التي استعان من بعضها برشت وحولها بخبرته العالية الى اعمال مسرحية كبيرة.

ويبقى القول النهائي ان المسرح لملحمي لا يمكن ان يكتمل الا بكتابات برشت نفسها، فهو قد اختط لنفسه اسلوبا ادبيا يكتب اعماله المسرحية المقتبسة من قصص واحداث اخرى، وعلى الذين يرغبون في الدخول بهذه الملحمية بأعمال كتاب اخرين عليهم اعداد النص المسرحي وفق الخريطة التي رسمها برشت او اعادة كتابة النص من جديد .

الإحـــالات:

(1): ينظر : يوسف عبد المسيح ثروت ، معالم الدراما في العصر الحديث، (المكتبة العصرية، بيروت ، ب، ت)،ص87.

(2): ينظر : اوديت اصلان ، موسوعة فن المسرح، ترجمة: سامي احمد، ج2 ( دار الطباعة الحديثة ، ب ـ ت) ص743.

(3):ينظر : أريك بنتلي، نظرية المسرح الحديث، ترجمة : يوسف عبد المسيح ثروت ( وزارة الاعلام  العراقية ، بغداد ، 1975 ، ص 82.

(4): مذكور ثابت، الكسر النسبي في الايهام السينمائي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994

(5): د. سعد عبد العزيز عبد الصاحب، الجدل في المسرح المعاصر، الهيئة العربية للمسرح، الشارقة

(6): ينظر : يوسف عبد المسيح ثروت ، معالم الدراما في العصر الحديث ، المصدر السابق .

(7):ينظر: حسن كاظم خضير الخفاجي، توظيف المسرح المدرسي في تعزيز الشخصية الإيجابية (مركز البحوث والدراسات التربوية ، بغداد ، 2011) .

(8):ينظر : روبرت بروستاين ،المسرح الثوري، ترجمة: عبد الحليم البشلاوي ( دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، ب، ت).

(9):  سورة المرسلات ، الآية(30).

(10): سورة الكهف الآية(22) والايه(23).

(11): ينظر : يوسف عبد المسيح ثروت ، الطريق والحدود : مقالات في الادب والمسرح والفن ، مقالات في الادب والمسرح والفن  (منشورات وزارة الاعلام، سلسلة دراسات/118 ، بغداد، 1977)