الأكثر قراءة
عدد زوار المجلة
الثقافة هي لغة شعوب العالم المتقدمة فيجب علينا أن نحرص على ثقافة أولادنا وتعليمهم جيدا
نصوص مسرحيــة
نشاطات ثقافيــة
أصدارات ثقافية
المقالات
روافد أدبية
حوارات
فنون تشكيلية
موقع المجلة على الفيسبوك
نص مسرحي للأطفال (عشبة الشفاء الذهبية) تأليف:محمد صخي العتابي
الأم:(تتنهد بصعوبة، صوتها ضعيف كهمسة) ياسين... يا نور عيني... أسمعك تئن ليلاً من الإرهاق.. توقف عن هذا يا بني.
ياسين: (يبتسم، يمسح جبهتها بقطعة قماش مبللة) لا تتعبي نفسك بالكلام يا أمي.. الدواء سريع المفعول.
(تسعل سعالاً خفيفاً، ثم يتحول فجأة إلى نوبة سعال قوية تهز جسدها النحيل)
ياسين:(مذعوراً) أمي (يمسك بيدها) انتظري، سأحضر الماء.
الأم: (تتمسك بيده بقوة مفاجئة) لا تذهب... اجلس معي... ربما تكون هذه اللحظات الأخيرة.
ياسين: (بصوت متألم) لا تقولي هذا.. لا يمكن أن تكوني آخر أماني في هذه الحياة.
(ينظر ياسين إلى رف خشبي فوق المدفأة، حيث توجد قارورة دواء شبه فارغة. يقترب منها، يهزها، لا توجد إلا بضع قطرات)
ياسين: (في نفسه) انتهى الدواء... والطبيب قال إنه لا يوجد علاج إلا...
(تظهر على وجهه لحظة تردد، ثم يقترب من سرير أمه بخطوات حازمة)
ياسين: سأذهب إلى الغابة يا أمي.. سأحضر عشبة الشفاء الذهبية.
الأم: (عيناها تتسعان رعباً) لا.. لا تفكر حتى.. لقد فقدت أباك في تلك الغابة... وكل من يدخلها لا يعود.
ياسين:(يجثو على ركبتيه بجانب السرير) أتذكر أبي جيداً.. ذهب ليجلب لنا الطعام في شتاء قاس... ولم يعد.. لكنه علمني شيئاً قبل أن يغيب.
الأم: (تحدق فيه) ماذا علمك؟
ياسين: علمني أن الخوف لا يمنع الموت(يصمت) بل يمنع الحياة..هكذا كان أبي يقول… وأنا أصدقه، لأني لا أملك غير ذلك.
ياسين: (يقف) سأواجهها. سأفاوضها. سأعطيها أي شيء تريده.
الأم:(بصوت يرتجف) وماذا يملك فقير مثلك؟
ياسين: (يلمس قلبه) أملك قلبي. أملك روحي إذا لزم الأمر.
(يمسك بحقيبة صغيرة، يضع فيها قطعة خبز يابسة وزجاجة ماء.. يرتدي معطفاً بالياً)
الأم: ياسين... انتظر حتى الصباح على الأقل.
ياسين: (يقبل جبينها) كل دقيقة تأخير قد تكون قاتلة.. سأعود قبل غروب الشمس الغد.. أعدك.
(يخرج ياسين من الكوخ. الأم تحاول النهوض لكنها تسقط على السرير.. الضوء يخفت على الكوخ، ويسطع على ياسين وهو يبدأ رحلته)
((المشهد الثاني: حدود الغابة المخيفة))
(الضوء يتغير ليصبح ضوء نهار رمادي. المنظر يتحول إلى حافة غابة كثيفة. أشجار عالية شاحبة، ضباب منخفض. أصوات غريبة تسمع من مسافة)
ياسين: (يتوقف، يتنفس بعمق) يا إلهي... إنها كما وصفوها تماماً. كأنها تتنفس.
(يخطو خطوته الأولى داخل الغابة. فجأة، ينكسر غصن تحت قدمه بصوت عال كالرعد)
صوت من الأشجار: (همهمة عميقة) من... هذا؟
ياسين: (يقفز للخلف) من هناك؟
الأرنب: (يظهر فجأة من بين الشجيرات، لكنه ليس أرنباً عادياً .. عيناه تلمعان بلون ذهبي غريب) إنسان؟ هنا؟ بعد كل هذه السنوات؟
ياسين: (مندهشاً) أرنب... يتكلم؟
الأرنب: (يتحرك بحذر) بل أرنب نجا من لعنة هذه الغابة(يتردد)هكذا أُقنع نفسي كل يوم.. وأنت؟ لماذا جئت إلى مكان الموت؟
(يصمت.. ثم تبدأ ضحكات مكتومة تنتشر من كل اتجاه)
السناجب:(تظهر على الأغصان، عيونها حمراء) عشبة الشفاء.. يظن أن الساحرة ستسمح له بلمس كنزها.
الطيور: (تطير في دوائر فوق رأسه) غبي.. غبي كل من طلبها أصبح حجراً.
ياسين: (يصرخ) لا بد أن أحاول.. لا يمكنني العودة خالي اليدين.
الأرنب: (يقترب منه) اسمعني يا شاب. أنا ذو العينين الذهبيتين.. رأيت عشرات مثلك يدخلون بعضهم كانوا فرساناً بسيوف لامعة وآخرون كانوا حكماء بكتب سحرية.. جميعهم تحولوا إلى جزء من هذا المشهد.
(يشير الأرنب إلى صخرة قريبة تبدو بشكل غريب كوجه إنسان متجمد في صرخة)
الأرنب: هذا كان صياداً... قبل خمس سنوات.
ياسين: (يرتجف لكنه يهز رأسه) شكراً لتحذيرك... لكن رحلتي يجب أن تستمر.
السناجب: (تصرخ) انظروا.. ظلها يقترب.
(تهرب جميع الحيوانات فجأة. ياسين يلتفت حوله، لكنه لا يرى شيئاً. ثم يسمع صوت خطوات خفيفة... ثقيلة... خفيفة... ثقيلة. كأن شيئاً يسحب ساقاً)
صوت أنثوي عميق: (يتردد صداه) أتيت... أخيراً.
ياسين: (يخرج سكيناً صغيراً من حزامه) من أنت؟ أظهر نفسك.
(الضباب يتكثف، ثم يتشكل بشكل إنسان. تظهر ساحرة طولها ضعف طول ياسين.. ترتدي ثياباً سوداء ممزقة، وشعرها أشعث أبيض طويل يخفي معظم وجهها. لكن ما يظهر منه مجعد ومليء بالندوب. تمشي بعرج واضح، وتستند على عصا منحوتة من عظم كبير)
الساحرة: (تضحك ضحكة جافة) دائماً نفس السؤال..من أنتِ؟ وكأن الهوية مهمة عندما تكون على حافة الموت.
ياسين:(بصوت مرتجف لكنه صلب) أنا ياسين. جئت لطلب عشبة الشفاء من أجل أمي.
الساحرة: (تتوقف فجأة) أمك... (صوتها يتغير قليلاً) أمك مريضة؟
ياسين: (متفاجئاً من رد الفعل) نعم... منذ أشهر. والأطباء عاجزون.
الساحرة:(تتمتم) الأمهات... دائماً الأمهات... (ثم تعود لصوتها المخيف) وماذا تعطيني مقابل هذه العشبة؟ إنها أثمن ما في مملكتي.
ياسين: أستطيع أن أعطيك...
الساحرة: (تقاطع) لا.. لا تخبرني.. دعني أخمن (تتحرك حوله في دوائر) تريد أن تعطيني ذهباً؟ لكنك فقير. تريد أن تعطيني سنوات من عمرك؟ لكنك شاب ولا تعرف قيمة العمر. تريد أن تعطيني... حبك؟
ياسين: (متحيراً) حبي؟
الساحرة: (تضرب الأرض بعصاها) كل البشر يأتون وهم يملكون الحب.. كعملة رخيصة يحبون، يعدون، ثم ينسون (ترفع عصاها) لا... سأخذ شيئاً مختلفاً.
ياسين: ماذا؟
الساحرة: (بتلذذ) سأخذ صوتك.. صوتك الحنون الذي ستتذكر أمك نبرته على فراش الموت.. ستأخذ العشبة.. ولكن عندما تعود، لن تستطيع أن تقول لها أحبك.. لن تستطيع أن تغني لها، أو تحكي لها قصصاً.. ستكون أخرس لبقية حياتك.
ياسين: (شاحباً) صوتي... لكن...
الساحرة: (تزحف نحوه) نعم.. بهذه الطريقة، حتى إذا شفيت، سيكون هناك ألم جديد.. ألم الصمت.. ألم المشاعر المحبوسة.
ياسين: (يرتجف بكامل جسده، ثم يهوي على ركبتيه) لا أستطيع... صوتي هو كل ما أملكته أمي من أبي بعد موته... هو الصلة الوحيدة...
الساحرة: (تصرخ) إذاً اذهب.. اخرج من غابتي.. ولا تعد أبداً.
(تضرب الأرض بعصاها، وتنفتح الأرض تحت قدمي ياسين. يسقط في نفق مظلم)
((المشهد الثالث: العالم السفلي للغابة))
(يسقط ياسين في بركة ماء ضحلة. ينهض مبللاً، يلتفت حوله. إنه في كهف ضخم، تنيرها فطريات متوهجة. الجدران مغطاة بنقوش قديمة)
ياسين: (يحاول الكلام) أين أنا... (يفاجأ بأن صوته عاد) صوتي... ما زال معي؟
صوت هادر:(يخرج من عمق الكهف) لأنه لم يأخذه بعد.
(تتمايل الفطريات، ويكشف الضوء الخافت عن شجرة عملاقة في وسط الكهف. لكنها ليست شجرة عادية.. لها عيون على جذعها، وأغصانها تتحرك كأذرع)
شجرة الحكمة:(بعينيها الذهويتين الكبيرتين) مرحباً، يا من تجرأ على مواجهة سيدة الغابة.
ياسين: (مذهولاً) أنت... شجرة... تتكلم؟
شجرة الحكمة:(تضحك ضحكة تشبه حفيف الأوراق) أنا أكثر من شجرة. أنا ذاكرة هذه الغابة. أنا من رأى ميلاد الساحرة... ورأى تحولها.
ياسين: ما الذي حدث لها؟ لماذا هي بهذه القسوة؟
شجرة الحكمة: (تتنهد) كانت طفلة... طفلة جميلة اسمها..ليانا كانت تعيش مع أمها هنا في كوخ حيث يقف كوخك الآن.
ياسين: ماذا؟
شجرة الحكمة:نعم. كانت أمها عشابة، تعرف أسرار النباتات. علمت ليانا كل شيء.. لكن ثمة رجال من القرية... خافوا من معرفتهما.. أحرقوا الكوخ... بينما كانت ليانا في الغابة.
ياسين: (بصوت خافت) وأمها؟
شجرة الحكمة: (صوتها يصبح حزيناً) ماتت في الحريق. وعندما عادت ليانا.. وجدت رماداً فقط.. حمقى القرية قالوا إنها ساحرة مثل أمها... فقررت(صمت) أن تصبح ساحرة بالفعل.
ياسين: لكن هذا كان منذ سنوات طويلة... كيف ما زالت حية؟
شجرة الحكمة: العشبة الذهبية... ليست للشفاء فقط. تعطي حياة طويلة جداً.. لكنها تدفع ثمناً... كل من يأكلها يفقد شيئاً ثميناً. ليانا فقدت قدرتها على الحب.
ياسين: (يجلس على حجر، مذهولاً) كل هذا الألم... بسبب خوف الناس وجهلهم.
شجرة الحكمة: والآن... ماذا ستفعل؟ هل ستكمل رحلتك؟
ياسين: (ينظر إلى يديه) نعم. لكن ليس لأخذ العشبة بالقوة... بل لأعرض عليها صفقة مختلفة.
شجرة الحكمة: (تغمز عينها) صفقة؟ وما هي؟
ياسين: إذا فقدت قدرتها على الحب... ربما أستطيع أن أعطيها بعضاً من حبي.
شجرة الحكمة: (تصرخ) لا.. هذا خطير! حبك هو ما يبقى لأمك.
ياسين:(يقف) لكن أمي علمتني أن الحب ليس كعكة تنقص إذا قسمتها... بل كنهر يزيد إذا شاركته.
(فجأة، تهتز الأرض. صوت الساحرة يتردد في الكهف)
صوت الساحرة: شجرة الحكمة العجوز.. تعلمين أن الكهف محرم عليك.
شجرة الحكمة: (تندفع بأغصانها لتدفع ياسين) اهرب.. من ذلك الممر سيقودك إلى قلب الغابة حيث تنبت العشبة.
ياسين: لكن...
شجرة الحكمة: اذهب وتذكر... أحياناً الشفاء لا يحتاج عشبة سحرية... بل يحتاج قلباً شجاعاً.
(تدفعه الشجرة إلى ممر ضيق. يسمع صوت الساحرة يقترب... ثم يهرب)
((المشهد الرابع: قلب الغابة المخفي))
(يمشي ياسين في ممر متعرج، يضيء بنور أخضر غامض. يصل إلى مكان مفتوح فيه بحيرة صغيرة مياهها ذهبية اللون. في وسط البحيرة، على جزيرة صغيرة، تنبت زهرة واحدة متوهجة بلون ذهبي حقيقي)
ياسين: (مبهوراً) العشبة الذهبية... إنها أجمل مما تخيلت.
صوت الساحرة من خلفه: وستكون آخر شيء تراه في حياتك.
(تظهر الساحرة فجأة، لكن مظهرها مختلف. شعرها منسدل، ووجهها مكشوف أكثر. الندوب عميقة، لكن يمكن رؤية أنها كانت جميلة يوماً ما)
ياسين: (يدور ليواجهها) ليانا.
(ترتجف الساحرة كما لو أن ياسين ضربها)
الساحرة: (بصوت متألم) من... من قال لك هذا الاسم؟
ياسين: شجرة الحكمة. أخبرتني قصتك.
الساحرة:(تصرخ) لا حق لها.. لا حق لأحد أن يتحدث عن ذلك.
ياسين: (يتقدم خطوة) أنا آسف لما حدث لك. لكن غضبك من الماضي يقتل مستقبلك.
الساحرة: (تضحك باكتئاب) أي مستقبل؟ أنا محاصرة هنا.. كل من يراني يخاف كل من يسمع عني يهرب.. حتى الحيوانات تخشى الاقتراب.
ياسين: (يهز رأسه) لأنك تخيفهم بالقوة. لأنك حولت الخوف الذي شعرت به إلى سلاح.
الساحرة: وما البديل؟ أن أكون ضعيفة؟ أن أسمح للناس بأن يؤذوني مرة أخرى؟
ياسين: (يبتسم حزيناً) أبي قال لي يوماً: القوة الحقيقية ليست في عدم الشعور بالخوف، بل في أن تشعر به وأن تبقى.. رغم ذلك.
الساحرة: أمك... ماذا تقول عنك؟
ياسين: (متفاجئاً من السؤال) تقول... أني أشبه أبي كثيراً. في عناده... وفي قلبه الكبير.
الساحرة:(تحدق في البحيرة) أمي... كانت تقول أني عنيدة أيضاً. وأن عنادي سيكون مصدر قوتي أو هلاكي.
ياسين: ربما كانت على حق.
(تقترب الساحرة من حافة البحيرة.. تنظر إلى انعكاس وجهها في المياه الذهبية)
الساحرة: منذ سنوات... حاولت أن أقتلع العشبة لنفسي. لكن كلما حاولت... رأيت وجه أمي في الماء.. تذكرت كيف كانت تحذرني من الطمع.
ياسين: (يتقدم بحذر) ربما... يمكننا أن نقتلعها معاً؟ لأمي؟
(تنظر إليه. عيناها تلمعان بالدموع لأول مرة منذ عقود)
الساحرة: لماذا؟ لماذا تخاطر بحياتك من أجل أم مريضة عجوز؟ ستتركك يوماً... كل الأمهات يتركن أولادهن.
ياسين: (بدموع في عينيه) لأنها أمي. لأنها بقيت تسهر ليالٍ كاملة عندما كنت مريضاً. لأنها باعت شعرهـا الطويل الجميل لشراء دواء لي. لأنها... هي كل ما لدي.
(تسقط دمعة من عيني الساحرة على الأرض. وحيثما سقطت، نبتت زهرة صغيرة زرقاء)
الساحرة: (بصوت حزين جداً) أمي... باعت عقداً ثميناً ورثته عن جدتها... لشراء كتاب أحلم به قالت: المعرفة أغلى من الذهب.
(تلتفت لياسين) أتعرف ماذا كان عنوان الكتاب؟
ياسين: ماذا؟
الساحرة: فن الشفاء بالأعشاب والنباتات.. الكتاب الذي علمتني منه أسرار الغابة... قبل أن يحرقه الجهلاء.
(تخرج من ثيابها كتاباً محروقاً جزئياً، تمسكه بحنان)
الساحرة: أنقذت هذا من الحريق. كل معرفتي... من هذا.
ياسين: (يتقدم أكثر) إذا كنت تعرفين كل هذا... ربما تعرفين علاجاً لأمي غير العشبة الذهبية؟
(تنظر الساحرة إليه.. ثم إلى الكتاب.. ثم إلى العشبة.. يتغير تعبير وجهها)
الساحرة: هناك... مزيج. مزيج من أعشاب مختلفة يمكن أن يشفي أمك لكن...
ياسين: لكن ماذا؟
الساحرة: لكنه يحتوي على مكون واحد... لا ينبت إلا في مكان واحد.
ياسين: أين؟
الساحرة: (تلمس قلبها) هنا.. قطرة من دم شخص طيب خاطر من أجل المريض.
ياسين: (يفهم) خذيه..أثر) أنت مستعد لهذا؟
ياسين: من أجل أمي... أي شيء.
(تحرك الساحرة يدها، ويظهر كأس صغير من خشب.. تقدمه لياسين)
الساحرة: ثلاث قطرات فقط. من إصبعك.
(يأخذ ياسين سكينه، يقطع إصبعه الصغير. يقطر الدم في الكأس. ثم تقوم الساحرة بحركات سريعة، تجمع أعشاباً من حول البحيرة، تسحقها، تخلطها مع الدم. النتيجة مسحوق أزرق فاتح)
الساحرة: هذا... سيشفي أمك. خلال ثلاثة أيام.
ياسين: (يأخذ المسحوق بحذر) وشكراً... شكراً جزيلاً.
الساحرة: (تتطلع إليه) لا تشكرني بعد. لأنك الآن... يجب أن تدفع الثمن.
ياسين:(متفاجئاً) لكنك قلت...
الساحرة: قلت أني سأعطيك العشبة بثمن.. وهذا المسحوق... يحتاج ثمنه أيضاً.
ياسين: (بثبات) ما هو الثمن؟
الساحرة: (تتنهد) يجب أن تبقى هنا... معي. لمدة سنة كاملة.
ياسين: (مصدوماً) سنة.. لكن أمي...
الساحرة: ستشفى خلال ثلاثة أيام. وستعرف أنك ستعود. لكني... أنا بحاجة إلى مساعد.. إلى من يتعلم أسرار الغابة.. إلى من... يمكن أن يكون صديقاً.
(تظهر على وجهها تعبير من القلق، كما لو أنها تخشى رفضه)
ياسين: (يفكر لحظة طويلة) وإذا وافقت... ماذا سيحدث بعد السنة؟
الساحرة: (تتلعثم) ستكون... حراً.. وستحصل على هدية. معرفة يمكن أن تجعلك أعظم عشاب في المنطقة.
ياسين: (ينظر إلى المسحوق في يده، ثم إلى الساحرة) هناك شرط واحد.
الساحرة: (بحذر) ما هو؟
ياسين: أن تسمحي لي برؤية أمي قبل أن تبدأ السنة. لأتأكد من شفائها.
(تتردد الساحرة، ثم ترمي بعصاها بعيداً.. تضع يدها على صدرها)
الساحرة: أقسم على ذكرى أمي... أني سأسمح لك بذلك.. وسأحملك على ظهر ريح سريعة إلى كوخك.
ياسين: (يبتسم) إذاً... صفقة.
(يمد يده. تنظر الساحرة إلى يده، ثم تمد يدها بتردد. تلمس يده.. يدها باردة لكن ناعمة)
((المشهد الخامس: العودة والمغادرة))
(المسرح ينقسم إلى نصفين. على اليمين، يظهر الكوخ حيث الأم نائمة.. على اليسار.. تقف الساحرة وياسين عند حافة الغابة)
الساحرة:(تلوح بيدها) الريح.. احملي هذا الشجاع إلى من يحب.
(تهب ريح قوية، تحمل ياسين بلطف.. يطير فوق المسرح، يهبط بلطف عند باب الكوخ)
ياسين: (يدخل الكوخ بهدوء) أمي...
(الأم نائمة.. يحضر الماء، يخلط المسحوق الأزرق، يسقيها إياه ببطء.. تبتلعه وهي نائمة)
ياسين:(يجلس بجانبها، يمسك بيدها) سأكون بعيداً سنة... لكني سأعود.. أعدك.
(تقبل جبينها، ثم يخرج. يعود إلى الساحرة عند حافة الغابة)
ياسين: رأيتها... الآن مستعد.
الساحرة: (تنظر إليه بفضول) لماذا لم تنتظر حتى تستيقظ؟ حتى ترى شفاءها؟
ياسين: لأني إذا رأيتها تشفى... قد لا أستطيع المغادرة.. وكان وعدي لكِ.
(تنظر الساحرة إليه بإعجاب.. ثم تلتفت إلى الغابة)
الساحرة: تعال. سأريك عالمك الجديد... لمدة عام.
(يمشيان معاً داخل الغابة.. الضوء يخفت على الخارج.. ويسطع على داخلها)
(يظهر مشهد سريع: أيام تمر.. ياسين يتعلم من الساحرة .. اسماء الأعشاب، أسرارها، كيف يجمعها باحترام. في أحد الأيام، وهو يجمع أوراقاً، يسمع صوت بكاء)
ياسين: (يتبع الصوت) ليانا؟
(يجدها جالسة تحت شجرة الحكمة، تبكي بصمت)
ياسين: ماذا حدث؟
الساحرة - ليانا: (تلمس وجهها) النظر في ماء البحيرة... ورؤية أمي... ورؤية كم أصبحت قبيحة.
ياسين:(يجلس بجانبها) أنتِ لستِ قبيحة.
ليانا: (تضحك) انظر إلي.. ندوب، شعر أبيض، عينان حمراوان...
ياسين:(يقاطعها بلطف) الندوب ليست على وجهك فقط... بل في قلبك أيضاً. والشعر الأبيض... دليل على حكمة عاشتها.. والعينان الحمراوان... لأنك بكيت كثيراً.
(تصمت ليانا. ثم تسأل بصوت خافت)
ليانا: ياسين... هل تعتقد أن أمي... ستسامحني؟
ياسين: (متفاجئاً) عن ماذا؟
ليانا: عن أني أصبحت هذا الشيء المخيف. عن أني أخذت أرواحاً، حولت أناساً إلى حجر...
ياسين: كل الأمهات... يجدن طريقة للمسامحة. لكن المهم... هل تسامحين نفسك؟
(تبكي ليانا بحرقة. ياسين يجلس بصمت بجانبها.. شجرة الحكمة تمد أغصانها لتظللهما)
(تظهر مشاهد أخرى: ياسين يعلم ليانا الضحك مرة أخرى.. يروي لها قصصاً عن القرية.. هي تعلمه أغاني قديمة كانت أمها تغنيها.. تدريجياً، تبدأ ليانا بالتغير.. ندوب وجهها تخف قليلاً.. عيناها تفقدان بعض الاحمرار.. حتى مشيتها تصبح أقل عرجاً)
(وفي يوم من الأيام، يقترب نهاية العام...)
((المشهد السادس: نهاية العام وبداية جديدة))
(ياسين وليانا جالسان عند البحيرة الذهبية.. العشبة لا تزال تتوهج)
ليانا: (تنظر إلى السماء) غداً... تنتهي السنة.
ياسين: (ينظر إليها) نعم.
ليانا: ستكون حراً.. وستحصل على هديتي... كل كتب أمي التي أنقذتها.. وكل معرفتي.
ياسين: (يهز رأسه) لا أريد الكتب.
ليانا:(تلتفت له) ماذا؟ لماذا؟
ياسين: لأن المعرفة الحقيقية... لا تكون في الكتب. بل في القلب. وقد علمتني الكثير بالفعل.
ليانا: (بصوت خافت) إذاً... ماذا تريد؟
ياسين: (يبتسم) أريد أن تذهبي معي.
ليانا: (ترتجف) ماذا؟
ياسين: إلى القرية. لأقدمك لأمي.. لأري الناس أنك لستِ وحشاً... بل إنسانة عانت كثيراً.
ليانا: (تقف مرعوبة) لا.. سيرمونني بالحجارة.. سيخافون مني.
ياسين:(يقف بجانبها) ليس إذا كنتِ بجانبي. ليس إذا رأوكِ كما أراكِ أنا.
ليانا: وكيف تراني أنت؟
ياسين: أرى فتاة فقدت أمها... فحولت ألمها إلى قوة.. أرى امرأة عاقلة تعرف أسرار الطبيعة.. أرى... صديقة.
(تبكي ليانا. ثم تمد يدها، تلمس العشبة الذهبية)
ليانا: هذه العشبة... لم أقتلعها أبداً لأني كنت خائفة.. خائفة أن أفقد آخر ما يربطني بأمي.
ياسين: (يفهم) لأن أمك زرعتها؟
ليانا: (تومئ) نعم.. قبل أن تموت قالت: ستشفى الكثير من الأمراض بهذه.. ولكن كن حذرة، فكل علاج يأتي بثمن.
ياسين: والثمن... كان فقدان القدرة على الحب؟
ليانا: (تنظر إليه) بالنسبة لي... نعم. لكن... شيء بدأ يعود إلي.. خلال هذه السنة.
ياسين: (يبتسم) ربما لأن الحب... مثل العشبة.. يحتاج إلى من يرعاه.. إلى من يسقيه.. إلى صديق.
(تخلع ليانا قنعاً من شعرها. كان جزءاً من الشعر أشعثاً مزيفاً.. تحته شعر أشقر فاتح.. بضع خصلات بيضاء فقط.. وجهها أقل ندوباً مما ظن ياسين)
ياسين: (مندهشاً) لكن...
ليانا: (تخجل) جزء من تخويف الناس... كان تمثيلاً. الندوب حقيقية... لكن المظهر المخيف... مبالغ فيه.
ياسين: (يضحك) أنت... ممثلة رائعة.
ليانا: (تضحك معه) وكان عليّ أن أكون.. في عالم يخاف من المختلف.
(يتوقف الضحك. ينظران إلى بعضهما)
ليانا: غداً... سنذهب معاً؟
ياسين: نعم. ولكن أولاً... هناك شيء يجب أن نفعله.
(يمد يده، يقتلع العشبة الذهبية بعناية فائقة.. لكن بدلاً من أن تذبل تلمع أكثر)
ياسين: لنستخدمها بشكل صحيح هذه المرة.. لنصنع منها أدوية تشفي، لا تسبب ألاماً.
ليانا: (تأخذ العشبة) أمي... ستكون فخورة.
((المشهد السابع: العودة إلى القرية))
(المسرح يظهر القرية.. الناس يجتمعون، يتحدثون. ثم يظهر ياسين وليانا.. الناس يصرخون، يهربون)
رجل: الساحرة.. أحضر الساحرة.
امرأة: لقد سحر ياسين.. انظروا.. أصبح تحت سيطرتها.
ياسين: (يصيح) انتظروا.. اسمعونا.
(تظهر الأم من الكوخ. تبدو شابة بصحة جيدة.. تتقدم بثبات)
الأم: ياسين (تحضنه) لقد عدت.
ياسين: أمي.. أنتِ... جميلة.
الأم: (تنظر إلى ليانا) وهذه هي...
ياسين: هذه ليانا.. التي أنقذتك.. والتي علمتني كل ما أعرف.
(يصمت الناس. يتقدم شيخ القرية)
الشيخ: نحن نعرف قصة ليانا.. قصتها... حزينة.. لكنها أخذت الكثير منا.. حولت أبناءنا إلى حجر.
ليانا: (تنحني) وأنا... أندم على ذلك.. وسأحاول إعادتهم.
الجميع: ماذا؟
ليانا: لم أمت أبداً.. حولتهم إلى حجر... لحمايتهم من أنفسهم. من جشعهم. ولكن... حان الوقت لإعادتهم.
(تذهب ليانا إلى حافة القرية، تلمس صخرة كبيرة. تتحول الصخرة إلى شاب. ثم أخرى. وأخرى. يعود عشرات الناس الذين ظنوا أنهم ماتوا)
أحد الذين عادوا: (يسقط على ركبتيه) شكراً... لقد تعلمت درساً. الطمع... يدمر.
(يصبح الجو مختلفاً. يتقدم الناس بتردد.. ثم تبدأ امرأة بتقديم زهرة لليانا.. ثم أخرى وأخرى)
الأم: (تتقدم تأخذ يد ليانا) تعالي إلى بيتنا.. بيتك الآن.
ليانا: (تبكي) لكني... لا أستحق.
الأم: (تضحك) كل من يحب ابني... ويشفيني... وتعود بالناس إلى أهاليهم... تستحق أكثر من بيت.. تستحب كل الحب.
((المشهد الثامن: كوخ العشابين))
(بعد سنة أخرى. المسرح يظهر كوخاً أكبر. لافتة مكتوب عليها العشابان: ياسين وليانا.. أناس يأتون للعلاج.. ياسين وليانا يعملان معاً.. الأم تجلس بجانب الباب تنسج)
(يأتي الطفل الصغير من القرية)
الطفل: سيدة ليانا.. أحضرت لك زهرة.
ليانا: (تأخذها بابتسامة) شكراً يا صغيري. كيف أمك؟
الطفل: أفضل.. بفضل دوائك.
(ينظر ياسين إلى ليانا وهي تتعامل مع المرضى.. يبتسم تقترب منه أمه)
الأم: أنت سعيد.
ياسين: نعم. أكثر مما تخيلت.
الأم: وهي أيضاً.. وجدت عائلة مرة أخرى.
(في نهاية اليوم، يجلس ياسين وليانا عند النافذة.. ينظران إلى الغابة في الأفق)
ليانا: أحياناً... أشتاق إلى الغابة.
ياسين: يمكننا زيارتها غداً.. وجمع أعشاب جديدة.
ليانا: (تنظر إليه) شكراً... لأنك لم تخف مني.
ياسين: شكراً... لأنك علمتني أن الخوف ليس نهاية... بل بداية لفهم.
(يأخذ يدها.. تضيء الشمس الغاربة على وجهيهما.. الأم تنظر إليهما من بعيد، تبتسم. وتنطق الكلمات الأخيرة)
الأم: (للجمهور) وأدركت(تنظر إلى ابنها، ثم إلى ليانا) أن أعظم عشبة شفاء في العالم ليست نباتًا ينبت في الأرض..
مونودراما (المتهم الوحيد) تأليف: محمد صخي العتابي
مونودراما (المتهم الوحيد) تأليف: محمد صخي العتابي
بيئة العرض:
(غرفة فارغة جدرانها مغطاة بخطوط مكتوبة بخط يدوي: ((كل شيء مسموح هنا)) هناك رسومات غامضة،أشبه بخرائط لمدن مفقودة ، وكأن الزمن نفسه كتبها.. الأرض متربة، رائحة الغبار القديم والورق المهمل والخبز الباهت تعبق في الهواء من نافذة ضيقة تسمح بمرور شعاع ضوء خافت..في مركز هذه الدائرة، يقف رجل في منتصف العمر ثيابه بسيطة لا تعرف هوية وجهه يحمل تعابير كل الأعمار.. صمت يمتلئ به الفضاء، حتى يضن المرء أنه يسمع دقات قلبه.. ثم يبدأ الصوت يأتي من أعماق الرجل همساً خافتاً يهتز في الهواء):
المتهم: من…؟
من الذي يسأل؟
أنا؟ أم هو الصوت الذي زرعوه في جمجمتي؟
كم مرة أقف في هذه الساحة ذاتها؟ هذه الغرفة التي تتسع لكل العالم ولا تتسع لتنفسي. أكرر نفس الحركات، ألمس نفس الجدران الباردة، أطرح الأسئلة نفسها وكأنني أُلقي تعويذة لم تعد تنفع.. كل محاكمة تبدو كسابقتها وكل جواب يلد سؤالين جديدين.. أين ينتهي التكرار وأين تبدأ الحقيقة؟ هل هي هنا، في هذا الغبار الذي أستنشقه، أم في هذا الضوء الخافت الذي يأتي من هناك، من العالم الآخر الذي نسيت كيف يكون؟
(يمد يده ببطء، يلمس الكتابات على الجدار.. أصابعه ترتعش قليلاً):
هذه القوانين… من كتبها؟ أنا؟ أم أنها كتبت عليَّ قبل أن أولد؟.. كل شيء مسموح.. جملة تتردد كجرس في رأس مفرغ.. هل هي إذن؟ أم تهديد؟ إذا كان كل شيء مسموحاً، فلماذا أشعر بأني مقيد بهذا الإذن نفسه؟ كأنما السماح هو القيد الأشد وطأة. كنت أظن… نعم، كنت أظن كثيراً.. ظننت أن العالم حقل محايد، وأن العدالة سيف معلق في سماء بعيدة، ينتظر أن يهبط على من يستحقه. وهم جميل.. كم كان سهلاً أن أؤمن بذلك. فالعدالة ليست سيفاً، إنها الظل الذي تلعبه أيدينا على الجدار.. هي اللعبة التي نختلق قواعدها ثم نبكي لأننا خسرناها. كل صرخة تخنق في حلق صاحبها، كل ضحكة تسرق من فم طفل، كل قطرة دم تسيل على أرض لا تعرف اسمها… كلها كانت مجرد شواهد على فراغ القاعدة. على أن القاعدة هي: لا قاعدة.
(يبتعد عن الجدار، يبدأ بالدوران حول نفسه ببطء، كأنه يبحث عن نقطة مرجعية في الفراغ. صوته يعلو قليلاً، يحمل نبرة من الاكتشاف المرير):
لكن الاكتشاف الحقيقي لم يكن في فراغ العالم… بل في امتلائي أنا.. أنا من رسمت الخطوط على هذه الجدران. أنا من قرر أن هذه البقعة تسمى.. داخل وتلك تسمى.. خارج.. أنا من فصلت النور عن الظل، ثم شككت في الفصل. أنا من صنعت السوط… وصنعت الصمت الذي يليه. أنا من اخترعت الجريمة، ثم اخترعت المحاكمة.. كيف أصبحت الجاني والضحية في آن؟ كيف أصبحت القاضي والمتهم؟ أين انتهى.. أنا.. وبدأ الآخرون؟ أم أن الآخرين كانوا دائماً مجرد أصداءٍ لصوتي أنا؟ أصداء أخترعها لأتخفى من وحدتي.
(يتوقف..ينظر إلى يديه كما لو يرى فيهما دماء غير مرئية. صوت الريح يصبح أكثر وضوحاً، كأنه نفس طويل يمر عبر النافذة):
كنت السوط حين صممت. وكنت الصرخة حين تلقيت.. هل من عدل في هذه الدائرة؟ أم أن العدل نفسه وهم آخر، اخترعته لأوقف الدوران للحظة.. لأتنفس؟
(يجلس على الأرض، ظهره منحن قليلاً نحو الجمهور، لكنه منغمس في عالمه.. الضوء الأصفر الخافت يتلاشى ليحل محله ضوء أزرق بارد، باهت، كضوء شاشة تلفاز قديم في غرفة مظلمة. من الخلفية، تبدأ موسيقى خافتة جداً، لا هي لحن ولا إيقاع، بل هي مجرد دقات قلب منتظمة.. ثم تتخللها عدم انتظامات طفيفة، كأن القلب يختنق ثم يتذكر النبض)
هل جربتم… العزلة الحقيقية؟ لا أعني الوحدة بين الناس. أعني العزلة حيث لا عين تراقب، لا أذن تسمع، لا ضمير يوبخ. لا شيء سواك… وصدى نفسك. في البداية، يبدو الصدى واضحاً.. تسمع كلماتك تعود إليك. ثم تبدأ الأصوات بالتشوه. كلماتك تختلط بكلمات سمعتها، بكلمات قيلت لك، بكلمات كنت تتمنى أن تقولها.. أين تنتهي ذاكرتك وأين تبدأ ذاكرة العالم الذي ابتلعته؟ الذكريات… ليست أرشيفاً منظماً. إنها حيوانات جائعة في قبو مهجور. تلتهم بعضها البعض، ثم تلتهمك أنت. تبقى منها شظايا. وجه بلا عينين. ضحكة بلا صوت. يد تلمسك في الظلام ولا تعرف إن كانت تهدئك أو تخنقك.
(يرفع رأسه قليلاً، لكنه لا ينظر إلى مكان محدد. الأصوات الخلفية من همسات وصدى خطوات تبدأ بالظهور، مختلطة مع دقات القلب):
أسمع أصواتاً… لا أعرف لأي وجه تنتسب. أرى مشاهد في عيني المغلقتين… لا أدري إن كانت من حياتي أم من حياة شخص سرقتها منه. أحياناً، في ذروة هذا الصخب الداخلي، يغمرني شعاب غريب: أنا لم أكن شاهدا فحسب… أنا كنت المكان نفسه.. أنا الغرفة التي وقعت فيها الأحداث. أنا الجدار الذي سمع الهمس. أنا الأرض التي شربت الدم.. ولأني كنت كل شيء… فأنا المسؤول عن كل شيء.. أنا الذي ابتلع الأصوات ولم يطلقها. أنا الذي حجب الضوء. أنا الصمت الذي سمح للصوت الخاطئ أن يعلو.
(ينهض.. بحركة مفاجئة تشي بتوتر داخلي انفجر. الضوء الأزرق يتحول فجأة إلى ومضات حمراء متقطعة، كأنما إنذار صامت.. يبدأ بالتحرك في أرجاء الغرفة، لا كمن يمشي، بل كمن يطارد شيئاً.. أو يهرب منه):
نعم كنت أراقب.. وكان في مراقبتي هذه… موافقة.. كنت أقف عند الحدود التي رسمتها بنفسي، وأراقب الآخرين يتخطونها، أو يتعثرون عندها. وكنت أقرر في صمت… هذا مستحق، وهذا بريء. هذه الحياة تستحق، وهذه تهدر. وكل قرار كان يخرج من فمي كحكمٍ نهائي، لكنه كان يبقى حبيس حلقي. قتل بالصمت.. قتل بالإهمال.. قتل بعدم الاكتراث.. كانت جرائمي أنقى أنواع الجرائم: بلا أداة، بلا بصمة، بلا دليل مادي. فقط أنا أعرف. والآن… من يحاكم من؟ أنا أحاكم نفسي. وأحاكم في نفسي كل الوجوه التي مرت.. أحاكم الأم التي لم تحضن، والأب الذي لم يفهم، والصديق الذي خان، والغريب الذي لم يساعد. لكن محكمتي لهم… هي في الحقيقة محاكمة لجزء مني قبلتهم أو رفضتهم، أحببتهم أو كرهتهم.. أليس القاضي في النهاية… هو المتهم الذي يرتدي رداءً مختلفاً؟
(تتوقف الومضات الحمراء، ويعود الضوء الأصفر الخافت ليركز عليه وهو واقف في منتصف الغرفة، منهكاً.. صوته يهبط إلى همس متعب)
أعرف أنكم هنا. جميعكم. القاضي بوجهه الحجري، والشاهد بعينيه الواسعتين، والجمهور الصامت بأسئلته التي لا تطرح.. أنتم جميعاً هنا… في هذا المسرح الداخلي. لكن… ما قيمة هذه المحاكمة إذا كان الحضور كله تمثيلية من تأليفي وإخراجي؟ ما قيمة العدالة إذا كان القاضي والمتهم والمشهد… كلهم أنا؟ هل يمكن للحقيقة أن تظهر في مكان لم يدخله إلا شخص واحد؟
(يتململ، يبدو وكأنه يحاول الخروج من جلده. ثم يتوقف، ويأخذ وضعية الوقفة الرسمية. الضوء يتغير، يصبح شعاعاً أبيض ناصحاً، بارداً، يسقط من الأعلى مباشرة على رأسه وكتفيه، مثل بقعة استجواب. بقية الغرفة تغرق في ظل أعمق. الصمت يصبح ثقيلاً، ملموساً):
المتهم (بصوت عالٍ، واضح، كمن يعلن بدء طقس): كفى.. كفى تلميعاً للأسئلة.. ها أنا ذا في قفص الاتهام الذي صنعته بيدي.. ولأن كل شيء مسموح… فسأكشف كل شيء ليس أمامكم… بل أمام نفسي.. أمام هذا الفراغ الذي أصبح مرآتي الوحيدة. سأقول ما لم أقله.. سأعترف بما أخفيه حتى عن أعماقي.. العدالة التي طالما انتظرتها من الخارج… كانت مجرد دخان أحاول الإمساك به لأسد به جوع روحي.. والحقيقة… أوه، الحقيقة كانت تلاعبني.. تظهر لي لمحة منها في المرآة ثم تختفي حين ألتفت. تضحك عليَّ من خلف الزجاج. هل كانت موجودة أصلاً؟ أم أني أنا من اخترع مفهوم "الحقيقة" لأمنح لصراعي معنى؟
(يتغير وضع جسمه قليلاً، يتصلب ظهره، تعلو ذقنه. صوته يأخذ نبرة مختلفة: حادة، منفصلة، مليئة بالسلطة الباردة. إنه صوت القاضي الذي بداخله):
القاضي (الصوت الداخلي): المتهم. اقترب. انظر في عيني. هل تعترف؟
(تعابير وجه المتهم تتغير سريعاً، بين الذهول والسخرية والألم. يعود بصوته الطبيعي، لكنه يحاور الصوت الآخر):
المتهم: أعترف؟ بكلمة واحدة تلخص عمرا من التشعبات؟ الاعتراف… هل هو بداية النهاية أم ناية البداية؟ أم هو مجرد حركة في لعبة كبيرة، لعبة ..المحاكمة التي بدأت قبل أن أولد؟ هل بدأت حين تعلمت كلمة ..صح و خطأ ؟ أم حين شعرت لأول مرة بالذنب دون أن أفعل شيئاً؟ أم حين رأيت الظلم لأول مرة وقررت أن أكون طرفاً فيه، سواء كظالم أو مظلوم، بدل أن أكون مجرد مشهد؟ الاعتراف… هل هو توبيخ للنفس أم تبرئتها؟ حين أعترف، ألا أقول في قرارة نفسي: انظروا.. أنا أتحمل المسؤولية، أنا الشجاع؟ أليس هذا اعترافاً يريد الثناء؟
(يمشي نحو الجدار، يقرأ العبارة المكتوبة: كل شيء مسموح هنا.. يضرب كفه على الحائط):
كل شيء مسموح.. إذن مسموح لي أن أعترف ومسموح لي أن أنكر.. ومسموح لي أن أعترف بنصف الحقيقة ومسموح لي أن أختلق حقيقة جديدة من كلمات الاعتراف نفسه.. أين الحقيقة الأصلية هنا؟ كل وجه رأيته في حياتي… هل كان يعكس ضوئه الحقيقي أم كان مرآةً لمخاوفي ورغباتي؟ هل أحببت شخصاً ما لذاته، أم لأن صورته كانت تلبي حاجة في داخلي؟ هل كرهت شخصاً ما لأفعاله، أم لأني رأيت فيه جانباً من نفسي أرفضه؟ كل كلمة قلتها… هل خرجت من أعماق يقينية، أم كانت مجرد رد فعل، أو تمويه، أو محاولة يائسة للسيطرة على الانطباع الذي أتركه؟ كل صمت سكنني… هل كان حكيماً، أم جباناً، أم قاتلاً؟ أنا… من رسم معنى هذه الأشياء. أنا من منح الحب قيمته والخوف سلطته. أنا الذي أخلقت الحقيقة من شظايا الواقع… ثم أهدمتها حين لم تعد تخدم الرواية التي أرويها لنفسي عن نفسي. فأي اعتراف له قيمة بعد هذا؟
(من زاوية مختلفة في الغرفة، أو ربما من داخله تماماً، يبدأ صوت آخر بالهمس.. صوت حاد مراقب مليء بالمعرفة المؤلمة.. إنه صوت الشاهد)
الشاهد (الصوت الداخلي): رأيتك.. لا تظن أن شيئاً فاتني.. رأيتك وأنت ترسم الحدود على الرمال ثم تقفز فوقها ببرودة، وكأنها لم تكن موجودة.. رأيت عينيك وهما تتسعان ليس خوفاً، بل بشغف خفي، حين كان الآخرون ينهارون. كنت أسمع صوت انهيارهم يتردد في صدرك وكأنه موسيقى.. رأيت الابتسامة التي كانت تزحف إلى زوايا فمك حين كنت تظن أن لا أحد ينظر… ابتسامة النجاة، أو ربما ابتسامة الانتصار الخفي على مأساة ليست مأساتك. ولكن الأهم… رأيتك تخفي وجهك. لا خلف قناع… بل خلف وجه آخر. وجه الصمت. الصمت المزيف الذي تتظاهر بأنه حكمة أو تسامح أو تعب.. بينما هو في الحقيقة جدار. جدار تختبئ خلفه وأنت تشاهد العالم يحترق، وتشعر بدفء النار على وجهك دون أن تحترق أنت.
(المتهم يلهث، كما لو أن هذه الكلمات طعنات. ثم يبدأ ضحكاً. ضحكاً منخفضاً، مبحوحاً، مختلطاً بلهاث البكاء. يضع يديه على وجهه):
المتهم: أضحك؟ نعم. أضحك على المهزلة. أبكي؟ نعم. أبكي على المأساة. لكن من يستطيع أن يفصل بينهما؟ من يجرؤ على القول: هذه دموع حقيقية، وتلك ضحكة مصطنعة؟ أليست الدموع أحياناً مجرد طقس نؤديه لنثبت لأنفسنا أننا ما زلنا بشراً؟ أليست الضحكة أحياناً صرخة رعب مقنعة؟ أوه، إنه الوهم الأكبر: أن المشاعر نقية. أن الحزن حزن، والفرح فرح.. لكنهم جميعاً… أطياف.. أطياف تلعب على مسرح الجسد. وأنا… الممثل والجمهور في آن. وأنا… ربما كاتب المسرحية الذي نسى الحبكة الأصلية.. من أنا تحت كل هذه الأقنعة؟ هل هناك..أنا أصلاً أم أنا مجرد مكان التقاء هذه الأصوات، هذه المشاعر المتضاربة، هذه الذكريات المتناقضة؟
(يقف ببطء. يمد يديه أمامه في الظلام، كأنه يحاول أن يلمس كائناً غير مرئي، أو أن يمسك بالهواء نفسه ليتحول إلى شيء ملموس. الضوء الأحمر الخافت الذي كان يحيط به يتلاشى، ويحل محله ضوء أبيض بارد يغسل المكان):
وأنا… لا أعرف هذه هي الإجابة الوحيدة الصادقة التي أملكها.. لا أعرف من رسم الخط الأول على هذا الجدار.. لا أعرف من أنا حين لا يكون هناك مرآة.. لا مرآة من زجاج، ولا مرآة من عيون الآخرين.. لا أعرف من يحكم هذه الجلسة في رأسي. لا أعرف من سيبقى بعد أن تنتهي كل المحاكمات.
(يجلس على الأرض، منهكاً. يضع رأسه بين ركبتيه.. صمت، ممتد، لا يكسره سوى أنفاسه المتقطعة والهمس الخافت جداً لأصوات الماضي.. أصداء لكلماته هو، أصوات غيره، ضحكات، صراخ، همسات.. كلها تختلط في سمفونية من الفوضى الصامتة.. الضوء يتقلص ليصبح بقعة صغيرة على رأسه المنحني. ثم، تبدأ الأصوات الداخلية بالعودة، لكن هذه المرة ليست منفصلة، بل مختلطة، متداخلة، تتصاعد وتعلو حتى تصل إلى ذروة من الضغط السمعي النفسي):
(يرفع رأسه قليلاً، همسه ثقيل، كأن كل كلمة تستخرج بقوة): أنا… أنا المتهم الوحيد في هذه القضية التي لا يحضرها أحد.. أنا الذي ينهار حجراً حجراً، وأنا الذي يبني جدار الدفاع. أنا الذي يحيا في خوف من الحكم، وأنا الذي يصدر الحكم.. أنا الذي يموت قليلاً في كل جلسة، وأنا الذي يمنح نفسه فرصة أخرى للعذاب في الجلسة التالية.. أنا الضحك في الظلام، والبكاء في الضوء. أنا… كل شيء. ولكن… هل أنا فقط؟ أم أن هذا ..أنا.. هو وعاء يحمل بقايا الجميع؟ أبوي، أصدقائي، أعدائي، الغرباء الذين مررت بهم في الشارع… كلهم تركوا شيئاً هنا.. بصمة، كلمة، نظرة. فأنا لست وحدي أبداً.. حتى في هذه العزلة المطلقة، أنا محشور بآثار كل من قابلت. أنتم جميعاً هنا… معي… في داخلي. تحاكمونني، أو تحاكمون أنفسكم من خلالي.
(الأصوات الداخلية تعلو، تتداخل، تصبح كالجوقة في رأس مجنون):
القاضي والشاهد والضمير (أصوات مختلطة، متداخلة، يصعب تمييزها): اعترف… يجب أن تعترف… الاعتراف هو الطريق الوحيد… اعترف بما فعلت… بما لم تفعل لكنك تمنيت فعله… اعترف بما أخفيت حتى عن نفسك… اعترف بالفرح الذي شعرت به في الأوقات الخاطئة… اعترف بالحزن الذي لم تشعر به في الأوقات الصحيحة… اعترف بأنك لست بريئاً… واعترف بأن براءتك المزعومة كانت سلاحاً… اعترف… اعتراف… اعتراف…
(المتهم يغطي أذنيه، لكن الصوت يأتي من الداخل.. يقف ووجهه مشوه بالعذاب ثم يطلق صرخة طويلة، ممزقة تخرج من أحشائه)
المتهم: أعترف.. نعم.. أعترف.. أسمعتموني؟ أعترف بكل شيء.. بالخير والشر، بالنية والفعل، بالصمت والكلام، بالحب الذي كان أنانياً، والكراهية التي كانت مخيفة في صدقها..أعترف بأنني خلقت إلهي الخاص لألومه، وخلقت شيطاني الخاص لأبرر له. أعترف بأنني أحياناً… استمتعت بالألم..ألمي وألم غيري. أعترف بأنني خائف أكثر من أي شيء آخر… خائف من أن أكون عادياً، وخائف من أن أكون وحشاً، وخائف من أن أكون لا شيء. أعترف.
(يخرس فجأة، وكأن الصرخة استنفدت كل ما فيه يترنح قليلاً.. الصوت ينخفض إلى همس مكسور متسائل):
ولكن… أي قيمة لهذا الاعتراف؟ أي ثقل لهذه الكلمات؟ إن سقطت في فراغ، ولم تصل إلى أذن حقيقية؟ إن كان القاضي هو أنا، والشاهد هو أنا، والجمهور هو أنا… فمن سيصدق؟ من سيمنح الاعتراف قوته التطهيرية أو إدانته النهائية؟ الاعتراف يحتاج إلى آخر. يحتاج إلى عين ترى، وأذن تسمع، وقلب يحكم. وإلا فهو مجرد حوار داخلي آخر، طقس من طقوس العذاب نؤديه لنشعر أننا ما زلنا أحياء.
(يصمت.. الضوء الأبيض النقي يبدأ بالتدرج، يصبح أكثر شدة، ثم يبدأ بالانتشار ليغسل الغرفة كلها، لكنه يكشف مع ذلك الظلال الرمادية العميقة في زواياها.. كل التفاصيل على الجدران تصبح واضحة للحظة: العبارات، الرسومات، الخربشات. ثم يبدأ الضوء بالخفت، رويداً رويداً. صمت طويل لا يملؤه سوى صوت الريح الخفيف الذي يعود، وكأنه تنهيدة المكان نفسه.. المتهم يقف ساكناً، منظراً إلى الجدران، ثم إلى يديه، ثم إلى النافذة البعيدة.. يهمس همسة أخيرة قبل أن يغرق المكان في الظلام):
المتهم: أنا… المتهم.
أنا… القاضي الذي لا يرحم.
أنا… الشاهد الذي لا ينسى.
أنا… الضمير الذي تأخر كثيراً.
أنا… الصمت الذي يلي العاصفة.
أنا… كل الأصوات وكل الهدوء.
وكل شيء… كل شيء مسموح هنا.
لكن السؤال الوحيد الذي بقي…
من… سمح لي أن أكون… أنا؟
(الستارة تسدل.. آخر ما نراه هو عبارة ((كل شيء مسموح هنا)) مضاءة للحظة خاطفة قبل أن تختفي في الظلام)
نص مسرحي(شرق أوسط جديد) تأليف: محمد صخي العتابي
بيئـة العرض:
الراوي(بصوت عميق متردد أحيانًا):
في البدء كانت الأرض تصرخ بصمت، والسماء تهيم بلا عنوان، والبحر يهمس في لياليه الطويلة: احذروا من دموع التماسيح. عيون بكت لا حباً في الإنسان، بل شهوة لابتلاعه... والقرن الجديد يفتح فمه كالوحش، يلتهم الحكايات القديمة، ويعيد رسم الجراح بلون أعمق، أكثر ظلمة.
إنهم اليوم يرسمون خارطة جديدة للشرق الأوسط، ليس بالحبر، بل بالدم، وبأنفاس الشعوب الممزقة.
(الإعلامي يدخل من الجهة اليمنى، يحمل كاميرا كبيرة، يبتسم ابتسامة عريضة متملقة للعدسة)
الأعلامي:أيها السادة والسيدات، العالم بخير لا تصدقوا الصور القديمة... تلك كانت لحظة حزن عابرة، أما اليوم فالمستقبل مشرق، والأحلام تعبأ في زجاجات أنيقة وتباع في أسواق الحرية. نعم، نحن نصنع الواقع، أو على الأقل نظهره كما نريد.
الراوي (بصوت ساخر):
يا لك من مهرج يلبس ثوب الحقيقة ألا تعلم أن الكلمة أصبحت رصاصة في فم الكاذب، وأن الصورة تغسل بالدم قبل أن تعرض على الشاشات؟
الإعلامي(متلعثمًا، يحاول الدفاع عن نفسه):
أنا لا أكذب... أنا أصف الواقع كما يريدون أن يكون. أنا مرآة السلطة لا مرآة الناس، والمرآة إن عكست القبح تكسر.
(يدخل الوزير الأمريكي، يرتدي بدلة داكنة، يحمل ملفًا كبيرًا من الأوراق وأقلامًا بألوان مختلفة)
الوزير الأمريكي:سيداتي وسادتي، نحن هنا لنرسم الغد، غداً بلا فوضى، بلا حروب، غدًا بالحدود الواضحة والولاءات المضمونة. هذه الخريطة (يشير إلى الجدار) تحتاج فقط إلى بعض اللمسات الفنية. الشرق الأوسط القديم قد تهرأ، صار كعباءة مثقوبة، ونحن نمنحكم عباءة جديدة من صنعنا، مصممة بعناية… لتناسب مصالحنا، وبشكل يليق بالسياسة الدولية.
(السياسي العربي يتقدم بخطوات مترددة، يلمس الخريطة بأصابعه وكأنه يحاول أن يشعر بألمها)
السياسي العربي:لكن الشعوب يا سيدي… لا تفصل كما الثياب، والدم لا يغسل بالحبر، والخرائط لا تخلق في المكاتب، بل على صدور الشهداء.
الوزير الأمريكي(بابتسامة كأنه يعلن حقيقة لا تناقش):
نحن لا نقتل أحدًا… نحن فقط نعيد الترتيب، نحذف بعض المدن، نضيف بعض القواعد، نبدل أسماء، نعيد الألوان إلى أماكنها الصحيحة. العالم لوحة، ونحن رساموه.
السياسي العربي (بصوت ممتزج بالغضب واليأس): ولو كانت هذه الألوان من دمائنا؟
الوزير الأمريكي: لا تقلق، دماؤكم مطيعة، تسيل ببطءٍ جميل، كالموسيقى التي ترافق الاحتفالات الديمقراطية.
(صمت ... أصوات انفجارات)
الراوي:ها هي الحقيقة تخرج من مخبئها، تتعثر بخطوط النفط، وتغرق في عيون تبتسم بينما الخرائط تسلخ كجلد حي. والعيون المبتسمة، تلك التي تحتفل بالخرائط الجديدة، لا تعرف أن دماء الناس ليست حبرًا.
(يدخل الشاب الثائر، ثيابه مغبرة، يحمل لافتة مكتوب عليها: نريد وطناً لا خريطة جديدة. خطواته سريعة، عيناه تحترقان بالغضب والوعي)
الشاب الثائر: أيها السادة، نحن لسنا مربعات على ورقكم، نحن أرواح تحلم بالحرية، بالكرامة، بخبز من عرق لا من صدقة، وبسماء تنجب الغيم لا الطائرات. أنتم تصنعون الخرائط ونحن نموت داخلها.
الإعلامي(يحاول تصويره بالكاميرا):
ابتسم من فضلك، الجمهور يحب الثوار الذين يموتون بابتسامة.
الشاب الثائر(يصرخ في وجهه.. صوته يكسر صمت المسرح):
أنا لا أبتسم للموت… أنا أصرخ بوجهه ...الكاميرا ليست شاهد عدل، إنها شاهد زور على مقصلة تدار باسم الإنسانية.
(تدخل الأم خطواتها بطيئة وثقيلة)
الأم:يا بني، صار البكاء عادة، والانتظار طقس يومي…رأيت في الأخبار أن التماسيح تبكي وهي تأكل فريستها، فقلت لنفسي: ربما العالم كله صار تمساحًا كبيرًا.
الشاب الثائر: أمي… ما زال في القلب بعض الأمل.
الأم (بمرارة): الأمل؟ يا ولدي، صار الأمل كعملة من زمن قديم، لا أحد يقبل بها في السوق، لكننا نحملها في قلوبنا كتميمة ضد الانهيار.
الراوي:كلهم يبكون الآن، ولكن دموعهم مختلفة. هناك من يبكي لأن ابنه مات، وهناك من يبكي لأن خطته لم تنجح بعد. الفرق بين الدموع ليس في الملوحة، بل في النية.
(الوزير الأمريكي يقترب من الأم، يقدم لها منديلًا أبيض)
الوزير الأمريكي: نحن نتألم لأجلكم، ونتعهد بالمساعدات الإنسانية، فدموعكم غالية علينا، وسنرسل باخرة مليئة بالمناديل لتجفيفها.
الأم (بصوت يقطع القلب):احملوا مناديلكم وعودوا إلى بلادكم، فدموعنا لا تجفف، إنها تنبت أطفالاً آخرين.
(صمت...الراوي يتقدم خطوة صوته يعلو)
الراوي:هكذا تكتب الخرائط في زمن مسموم، ترسم بالدموع، وتعجن بالأكاذيب. الشرق الذي عرف التاريخ صار لوحة للبيع، تعرض في المزاد العلني بين الدول الكبرى. والعالم كله يجلس متفرجًا، يتحدث عن الإنسانية وهو يطحن الإنسان.
(الموسيقى ترتفع تدريجيًا: أصوات الريح، صوت البحر البعيد، أصوات انفجارات متقطعة، مزيج من صوت المدينة الممزقة والحشود الصامتة)
الراوي: دموع التماسيح… لا تجف، لأنها لا تنبع من القلب، بل من المصالح. تلك الدموع تغسل بها الخيانات، وتقدم للعالم كدليل على الإنسانية المزعومة.
اللوحـة الثانيــة:
الشاب الثائر (بصوت حاد، يملؤه غضب ووعي):
أين أنتم أيها القتلة؟ أين أنتم أيها... من يبيعون الوطن في المزاد العلني؟ لقد مللنا الصمت… نحن نصرخ باسم كل طفل مات، باسم كل أم فقدت ولداً، باسم كل جرح لم يجد ضوءه بعد.
الأم (تهز رأسها بحزن): أوه يا ولدي… القوة التي تحكم العالم لا تسمع إلا صدى نفسها… كل صرخة تتردد لتصبح ترويسة خبرية، وكل دمعة تباع كسلعة… ونحن نقف هنا بلا حول ولا قوة.
(الإعلامي يقترب بالكاميرا، لكن يبدو عليه الخوف، يلتقط المشهد وكأن الكاميرا أصبحت شاهدًا على الجريمة، لا مجرد أداة للتصوير)
الإعلامي: ابتسموا… الناس تحب التمثيل، حتى الدموع تحتاج إلى إطار. الجمهور لا يعرف الفارق بين البكاء الحقيقي والمزيف… دعونا نقدم لهم الدموع الأكثر سطوعًا.
الشاب الثائر (بغضب، يلوح بيده نحو الكاميرا):
لا… لا شيء منكم حقيقي.. كل ابتسامة، كل دمعة، كل صورة… خدعة. الثورة ليست مسرحية، والشهادة ليست إعلانًا.
(الوزير الأمريكي يظهر مرة أخرى يحمل ملفًا جديدًا، يقف أمام الخريطة الممزقة يبتسم بخبث):انظروا… كل شيء يسير وفق خطتنا. كل انفجار، كل خبطة، كل دمعة… حساب دقيق. لقد أصبح الاستقرار مرادفًا لموت أنيق. نحن نصنع التاريخ… بصمت، وبدماءكم.
السياسي العربي(يظهر منهكًا يلمس الخرائط الممزقة):
لقد وعدتنا بالنهار… فجلب لنا ليلًا طويلًا. وعدت بالأمن… فجلبت المقابر بأسماء براقة. قل لي… أي جريمة ارتكبنا لنعاقب بهذا القدر من الإصلاح؟
الوزير الأمريكي (بابتسامة قاتلة): أنتم لم ترتكبوا جريمة، أنتم فقط كنتم في المكان الخطأ من التاريخ.
السياسي العربي (يضرب بيده على الخريطة، صوته يملؤه الغضب):
التاريخ؟ نحن كتبناه بدمنا… وأنتم سرقتم التوقيع.
الوزير الأمريكي (ساخرًا): هل الدم توقيع صالح؟ إنه يجف بسرعة.
(صوت انفجار بعيد يهز المسرح، تتساقط أجزاء من الجدار، الشاب الثائر يهرع نحو الداخل، يحمل راية ممزقة)
الشاب الثائر(صوته ممتلئ بالغضب): أنتم تتحدثون عن التاريخ ونحن نحترق في الحاضر.. الوطن مقطع على منصاتكم… دماؤنا مادة دعائية لعالمكم العادل.
الإعلامي (يحاول التهدئة، ميكروفونه يرتجف في يده): اهدأ… الكاميرات لا تحب الغضب، الغضب يشوه الصورة.
الشاب الثائر (بحدة): بل الصورة هي التي شوهت الغضب أنتم جعلتم الثورة مشهدًا، والشهادة خبراً عاجلاً يليه إعلان عن عطر جديد!
(الأم تدخل مسرعة، وجهها ملطخ بالغبار، تحمل قطع..ماش صغيرة)
الأم (تصيح): لقد بحثت عنه بين الركام، بين الصوت والنار… لم أجد سوى هذا.. قالوا لي: ابنك شهيد، فقلت لهم: لا، ابني كان يريد أن يعيش فقط.
الراوي (صوته كصدى تحت الأرض): في زمن توزع فيه الشهادات كجوائز، يصبح الموت وظيفة رسمية، ويصبح الحزن شعارًا انتخابيًا.
(الوزير الأمريكي يقف، يصفق ببطء)
الوزير الأمريكي: أحسنت يا امرأة… كل أم تبكي تضاف إلى رصيدنا في سجل النوايا الطيبة. نحن بحاجة إليكم لتبرير وجودنا الإنساني.
الأم (تصرخ بحرقة): كفاكم كذباً.. دموعكم تقتلني مرتين، مرة حين تذرفونها، ومرة حين تصدقونها.
(صمت ثقيل، صوت المؤذن يتردد من بعيد)
السياسي العربي (بصوت خافت): كم مرة سمعنا هذا النداء ولم نجب؟ كم مرة تجاهلنا الله لنرضي التماسيح؟
الراوي: حين يفقد السياسي ضميره، يطلب الفتوى من الشيطان.
(الإعلامي يتحرك نحو الكاميرا، يتحدث للجمهور)
الإعلامي: خبر عاجل… بدأت الدول الكبرى تنفيذ خارطة الشرق الأوسط الجديد، وتهدف الخطة إلى نشر الأمن والازدهار والتعاون…
(يتوقف فجأة) لكن… أين الأمن؟ أين الازدهار؟ لماذا أشم رائحة لحم محترق بين الجمل؟
الراوي: لأن الحقيقة حين تقال، تحترق اللغة.
(الوزير الأمريكي يضع يده على كتف الإعلامي) تبحث كثيرًا… الحقيقة ترهق المشاهد..
الشاب الثائر: أريد أن أسأل سؤالاً واحدًا فقط: هل يمكن أن تبكي السماء حقًا؟ أم تمطر لأنها ضاقت بما نفعله؟
الأم (بصوت مرتعش): لقد بكت السماء كثيرًا يا ولدي… لكن دموعها لم تطفئ النار.
السياسي العربي (يحاول النهوض): كنت أظن أني أملك القرار… فإذا بي مجرد توقيع على اتفاق لا أفهم لغته… نحن من باعنا الأصدقاء، لا الأعداء.
الوزير الأمريكي (يضحك ضحكة طويلة): في السياسة، لا أصدقاء ولا أعداء، فقط مصالح تغير وجوهها كما تغير الحرب ساحاتها.
الراوي(يتقدم خطوة إلى الأمام): وهكذا صار العالم مسرحًا، تتبدل فيه الأقنعة كل لحظة، ويصفق الجمهور بعد كل مأساة كما لو كانت كوميديا جديدة… أيها البشر، متى ستدركون أن البكاء لا يغير الخرائط، وأن الدموع التي تذرف في الصالونات ليست سوى دموع تماسيح؟
(الإضاءة خافتة، الأم تغني بصوت مكسور أغنية قديمة، الشاب يقترب منها)
الأم (تغني):
الأم: لكنهم أقوى منك يا ولدي…
الشاب: ربما… لكن التاريخ لا يكتبه الأقوياء، بل من يصر على قول "لا" ولو بدمهم.
(الوزير الأمريكي يضحك بسخرية) : جميل… كلمات شاعرية تصلح لمقاطع تحفيزية على مواقعنا الدعائية… سنجعلها شعارًا جديدًا لبرامج التنمية.
الشاب (بغضب): أنتم تسرقون حتى الكلمات.
الراوي؛ حين تسرق القوة اللغة، يصبح الصمت المقاومة الأخيرة.
(الضوء يخف تدريجيًا، ثم يشتعل بلون أزرق، الجميع يتحرك ببطء كما لو في حلم ثقيل)
الإعلامي(بصوت متقطع): العناوين تتغير… الأسماء تتبدل… الدماء واحدة… كل شيء يبدو منظمًا، إلا الأنسان… فهو الفوضى الوحيدة التي يخشونها.
الراوي: الأنسان… هو الخطر الحقيقي على مشاريعهم، لأنه قادر على رؤية الفرق بين الدموع الحقيقية ودموع التماسيح.
اللوحـة الثالثــة:
(الخشبة مظلمة جزئيًا، صوت الريح يتصاعد مع خرير مياه وهمية تتدفق عبر المسرح، أضواء حمراء وزرقاء تتخلل الظلام. الخريطة على الجدار ممزقة، خطوطها الحمراء تتدفق كالدماء. الشاب الثائر واقف، رايته الممزقة في يده، الأم جالسة على الأرض تحتضن قطعة القماش، الوزير الأمريكي يجلس على الطاولة محاطًا بالشاشات، الإعلامي يقف حائرًا بين الكاميرا والخرائط)
الشاب الثائر (بصوت مرتفع، يملؤه غضب):
كفى خداعًا كل خط رسمتموه على هذه الخريطة هو جرح في جسد وطننا… كل لون أضعتموه هو دم من دمائنا… لن نصمت أكثر.
الأم (ترفع رأسها، دموعها تختلط بالغبار):
يا ولدي… الأرض التي ولدنا عليها لم تعد تعرف… كل ما تبقى لنا هو الذاكرة، وقطع من الحنين.
لقد فقدنا القدرة على الكلام… كل كلمة تقولها تصنعها السلطة قبل أن تصل إلى الناس… كل وعد نسمعه، يتحول إلى قبر جديد… نحن مجرد أرقام على قوائم الانتظار.
الوزير الأمريكي (يبتسم): أرقام؟ بل نحن نصنع الأرقام… كل دمعة لها سعر، كل جرح له حساب. أنتم جزء من اللوحة، ونحن الرسامون.
الإعلامي (يحاول تهدئة الموقف، ميكروفونه مرتجف):
كل شيء يسير وفق الخطة… الجمهور يريد الدموع، يريد المشهد… حتى الثورة أصبحت عرضًا بصريًا، والشهادة مجرد عنوان عاجل.
الشاب الثائر (غاضبًا يلوح بيده نحو الإعلامي):
انظر حولك لم تعد الثورة حقيقية… لم تعد الحياة حقيقية… لقد استبدلتم الألم بالتصوير، والموت بالعنوان… حتى دماؤنا صارت مادة دعائية.
(صوت انفجار هائل يملأ المسرح، تسقط أجزاء من الخريطة، تتطاير الأوراق، الأم تغطي وجهها، الشاب يحمي رايته،
الأم (تصرخ): يا إلهي… كل شيء ينهار من حولنا… كل شيء… حتى أحلامنا… لقد أصبح الحزن مسرحًا… والموت خبرًا يقدم للعالم كإحصائية.
الراوي (يظهر في منتصف المسرح، صوته عميق):
في زمن تباع فيه الدموع، ويستأجر الحزن، يصبح الصمت هو المقاومة الأخيرة… ويصبح الدم مجرد حبر على خرائطهم… لكن الأرض لا تنسى، والسماء لا تكذب.
الشاب الثائر (يصرخ نحو الخريطة): أنتم تحاولون رسم مستقبلنا، لكن المستقبل هنا… في القلب، في الروح، في الصرخة التي لا تكسر… لن نركع أمام الخرائط الممزقة، ولن نموت بصمت.
السياسي العربي (يحاول النهوض، صوته متهدج): لقد وعدونا بالسلام، وجلبوا الحروب… وعدونا بالعدل، وجلبوا المقابر… كل ما تبقى لنا هو الألم، لكنه ألم حي حقيقي، لا يمكنكم تزويره.
الوزير الأمريكي (ينهض ببطء، يضع كأس ماء على الطاولة):
اشرب يا فتى، الماء دواء الغضب… لكنه لن يروي عطشك للانتقام…هذا ليس سوى بداية الحساب.
(الضوء يتحول إلى أحمر داكن، أصوات الصراخ والبكاء تتصاعد، الأم تقف وتحمل قطعة القماش كما لو كانت علم الوطن)
الأم (بصوت مرتعش): ها هو التراب يحتضن كل أحلامنا… كل دموعنا… وكل وعودنا الفارغة… لكنني لن أترك طفلي يرحل دون أن يرى الحقيقة… دون أن يرى الأرض تبتسم له مرة واحدة قبل أن تدمر.
الشاب الثائر(يقف بجانبها يرفع الراية):
لن يرحل… لن نستسلم… نحن صرخة الأرض، نحن صوت الأطفال الذين لم يولدوا بعد… لن نسمح للخرائط أن تقتل مستقبلنا.
(الإعلامي يقف متردداً، الكاميرا تهتز في يده، يبدو وكأنه فقد السيطرة)
الإعلامي (بصوت منخفض): لقد سئمت… كل ما صورته أصبح خيانة… كل عنوان كتبته أصبح جثة…أريد أن أصرخ… لكن لا أحد يسمع.
الراوي (بصوت جهوري): الإنسان هو الخطر الحقيقي على مشاريعهم… لأنه يميز بين دمعة حقيقية ودموع التماسيح… وحين يرفع صوته، ينهار العالم المزيف.
(صوت انفجار آخر.. المطر يبدأ بالتساقط على المسرح، أضواء حمراء وزرقاء تتقاطع، الأم والشاب يجلسان على الأرض، الوزير الأمريكي يحاول الإمساك بالخريطة الممزقة)
الشاب الثائر (ينهض، يصرخ): لأن الأرض مشبعة بالدم… والسماء لا تسمح لمزيد من الخرائط… هذه الأرض حية… وكل دم قديم أو جديد يرفض أن يصبح مجرد أرقام.
الأم (ترفع يديها إلى السماء، تمطر عليها قطرات الماء والدماء):
السماء تبكي أخيرًا… هل تبكي لأجلنا أم علينا؟ لا أدري… لكن دموعها أكثر صدقًا من دموعكم.
الراوي (يتقدم إلى مقدمة المسرح، صوته يملأ المكان):
ها هي التماسيح تحلق… لم تعد تكتفي بالماء صارت تسبح في الهواء، تبكي وهي تسقط القنابل… كل دمعة كذب تسقط على الأرض لكنها لا تقتل الحقيقة ولا تصمت الأرض.
(الإضاءة تتحول إلى ضوء أبيض خافت، الأم تحتضن قطعة القماش، الشاب واقف بجانبها، الراوي في منتصف المسرح، الجميع ساكن كتماثيل من الطين. صوت الطفل يتردد من بعيد)
صوت الطفل: هل سيأتي الغد يا أمي؟
الأم (تبكي بصمت، تعانق قطعة القماش): سيأتي… لكنه لا يعرف الطريق بعد… علينا أن نرسمه بأنفسنا.
الراوي (خاتمة شعرية، صوته يختلط بصوت المطر والأنين):
أيها البشر… لا تنتظروا من التماسيح أن تتوب… ولا من القتلة أن يعيدوا ما سرق من الحلم… الأرض وإن بكت، دموعها ليست تماسيح… بل نداء صامت لأبنائها كي لا يموتوا وهم يبتسمون لقاتلهم.
(الموسيقى ترتفع، مزيج أصوات المطر والأنين، الضوء يخفت تدريجيًا حتى العتمة الكاملة، يبقى أثر الخريطة على الجدار يذوب خطوطه في الماء)
اللوحــة الرابعـــة:
(الخشبة مظلمة جزئيًا، صوت الريح يزداد قوة، أصوات انفجارات بعيدة تتخللها دوي صفارات تحذير. الخريطة على الجدار ممزقة، خطوطها الحمراء كدماء تنزف على الأرض. المطر يتساقط ببطء على المسرح. الشاب الثائر واقف قرب الأم، يحمل راية ممزقة، الأم تحتضن قطعة القماش الصغيرة، الوزير الأمريكي يجلس على الطاولة محاطًا بالشاشات، الإعلامي يحاول تسجيل المشهد، والسياسي العربي يقف مترددًا على الجانب)
الراوي (يبدأ بصوت هادئ، ثم يرتفع تدريجيًا):
لقد أصبح المسرح الآن خلية مفتوحة لكل الأكاذيب، لكل المآسي، لكل الدموع… هنا تتصادم الحقيقة مع الخيال، والبكاء مع القسوة… وكل شخصية تمثل جزءًا من وجع الإنسانية.
الشاب الثائر (يرفع صوته نحو الجمهور):
أنتم تحاولون فرض خريطة جديدة على وطننا… لكن الوطن ليس مجرد ورقة… الوطن قلب، روح، أمل… وأنتم ترفضون رؤية ذلك.
الأم صوتها مرتعش):
ابني… لقد تعبت من الصراخ… تعبت من الركض خلف الحقيقة… لكنني أرى في عينيك شرارة لم تمت بعد… شرارة قد تشعل العالم كله إن غضبت بما فيه الكفاية.
السياسي العربي (يقترب بحذر): لقد أعطيتنا وعودًا… جلبتم الخرائط، وخططتم الحدود… لكن أين نحن؟ أين الشعب؟ كل ما تبقى لنا هو ذكرى الموت، والحزن، والانتظار… لا أكثر.
الوزير الأمريكي(ينهض ببطء يبتسم): الشعب؟ أي شعب؟ نحن نصنع الأرقام… نصنع العناوين… نصنع العالم كما نريد… كل شيء تحت السيطرة… كل شيء… إلا قلبكم الذي يصر على رفض اللوحة التي رسمناها.
الإعلامي (يحاول تهدئة الجو، ميكروفونه يرتجف): كل شيء يسير وفق الخطة… الجمهور يطلب الدموع، يطلب المشاهد… كل شيء هنا يبث مباشرة… حتى الصرخة تصبح مشهدًا مرئيًا…
الشاب الثائر(غاضبًا، يلوح بيده نحو الإعلامي): الصورة شوهت الحقيقة الثورة أصبحت عرضًا، الموت خبرًا عاجلًا، والشهادة مجرد عنوان على الصفحة الأولى… وأنتم تبتسمون أمام الخرائط الممزقة وكأننا مجرد أرقام.
(صوت انفجار بعيد يهز المسرح، تسقط أجزاء من الخريطة على الأرض، الأم تلتقط قطعة القماش، الشاب يرفع الراية، الوزير الأمريكي يضحك)
الأم (تصرخ، صوته مملوء بالألم): كل شيء ينهار من حولنا..كل شيء.. حتى أحلامنا… الحزن أصبح مسرحًا، والموت مجرد خبر يعرض على العالم.
الراوي (صوته يتصاعد، يملأ المسرح): في زمن تباع فيه الدموع، ويستأجر الحزن، يصبح الصمت هو آخر سلاح… ويصبح الدم مجرد حبر على خرائطهم… لكن الأرض لن تنسى، والسماء لا تكذب.
الشاب الثائر ( يصرخ نحو الوزير الأمريكي): أنتم تحاولون رسم المستقبل، لكن المستقبل هنا… في قلبنا، في روحنا، في صرختنا التي لا تكسر… لن نركع أمام الخرائط الممزقة، ولن نموت بصمت.
السياسي العربي (يحاول الوقوف): لقد وعدونا بالسلام، وجلبوا الحروب… وعدونا بالعدل، وجلبوا المقابر… كل ما تبقى لنا هو الألم، لكنه ألم حي حقيقي، لا يمكن تزويره.
الوزير الأمريكي (يهز رأسه ببرود): كل شيء وفق الخطة… كل دمعة لها حساب، كل جرح له سعر… أنتم جزء من اللوحة، ونحن الرسامون.
(الإعلامي يقف مترددًا، الكاميرا ترتجف بين يديه، يبدو كأنه فقد السيطرة)
الإعلامي (بصوت منخفض):
لقد سئمت… كل ما صورته أصبح خيانة… كل عنوان كتبته أصبح جثة… أريد أن أصرخ… لكن لا أحد يسمع.
الراوي (يقترب من مقدمة المسرح، صوته يملأ المكان كعاصفة):
الإنسان هو الخطر الحقيقي على مشاريعهم… لأنه يميز بين دمعة حقيقية ودموع التماسيح… وحين يرفع صوته، ينهار العالم المزيف.
(صوت انفجار آخر، المطر يبدأ بالتساقط على المسرح، الضوء أحمر وأزرق متداخل. الأم والشاب يجلسان على الأرض، الوزير الأمريكي يحاول الإمساك بالخريطة الممزقة)
الوزير الأمريكي (مضطرب، يحدق في الخريطة): ما هذا؟ لماذا لا ترسم الخطوط؟ حتى الدم يعصي الأوامر.
الشاب الثائر (ينهض، يصرخ):
الشاب الثائر (يصرخ): لأن الأرض مشبعة بالدم… والسماء لا تسمح لمزيد من الخرائط… هذه الأرض حية… وكل دم قديم أو جديد يرفض أن يصبح مجرد أرقام.
الأم (ترفع يديها إلى السماء):
السماء تبكي أخيرًا… هل تبكي لأجلنا أم علينا؟ لا أدري… لكن دموعها أكثر صدقًا من دموعكم.
الراوي (صوت جهوري): ها هي التماسيح تحلق… لم تعد تكتفي بالماء، صارت تسبح في الهواء، تبكي وهي تسقط القنابل… كل دمعة كذب تُسقط على الأرض، لكنها لا تقتل الحقيقة، ولا تصمت الأرض.
(الإضاءة تتحول إلى أبيض خافت، الأم تحتضن قطعة القماش، الشاب واقف بجانبها، الراوي في منتصف المسرح، الجميع ساكن كتماثيل من الطين. صوت الطفل يتردد من بعيد)
صوت الطفل: هل سيأتي الغد يا أمي؟
الأم (تبكي بصمت، تعانق قطعة القماش): سيأتي… لكنه لا يعرف الطريق بعد… علينا أن نرسمه بأنفسنا.
الراوي (خاتمة شعرية، صوته يختلط بصوت المطر والأنين):
أيها البشر… لا تنتظروا من التماسيح أن تتوب… ولا من القتلة أن يعيدوا ما سرق من الحلم… الأرض وإن بكت، دموعها ليست تماسيح… بل نداء صامت لأبنائها كي لا يموتوا وهم يبتسمون لقاتلهم.
(الموسيقى ترتفع، مزيج أصوات المطر والأنين، الضوء يخفت تدريجيًا حتى العتمة الكاملة، يبقى أثر الخريطة على الجدار يذوب خطوطه في الماء)
اللوحــة الخامسـة:
(الخشبة مظلمة جزئيًا، أصوات الريح والمطر تتصاعد ببطء، صوت انفجارات خافتة يتخللها دوي صفارات بعيدة. الخريطة على الجدار ممزقة، خطوطها الحمراء تغوص في الأرض كأنها دماء. الأم جالسة تحتضن قطعة القماش، الشاب الثائر واقف إلى جانبها، الوزير الأمريكي يجلس على الطاولة محاطًا بالشاشات، الإعلامي يحاول تصوير المشهد، والسياسي العربي يترنح بين الخشبة)
الراوي (صوت عميق، كأنه يخرج من باطن الأرض):
الآن، في هذا المشهد الأخير قبل النهاية، تبدأ الحقيقة بالظهور ببطء… كل شيء ينهار أمام أعينكم… الخرائط تتشقق، الدموع تتراكم، والصمت يصبح لغة الأجيال.
الشاب الثائر (يصرخ نحو الوزير الأمريكي، يلوح بالراية الممزقة):
لقد سئمنا من الخرائط التي تصنعونها… من الحدود التي تحددونها… نحن أرواح، نحن دماء، نحن تاريخ لم تكتبوه بعد.
الأم (تجلس على الأرض، تتحدث بصوت مبحوح):
لقد فقدنا كل شيء… أبناؤنا، بيوتنا، ضحكاتنا… حتى الأمل صار غريبًا بيننا… لكن قلبك يا ولدي، لا يزال ينبض… لا يزال يصر على المقاومة.
السياسي العربي (ينهض بصعوبة، صوته هادئ لكنه مرتعش):
لقد جربت كل شيء… التفاوض، التنازلات، التحالفات… كل شيء انتهى إلى الصفر… نحن مجرد رموز على لوحة أكبر… لوحة الدماء والخراب.
الوزير الأمريكي (ينظر إلى الخريطة الممزقة، يبتسم ابتسامة باردة):
كل شيء يسير كما خططنا… الخرائط قد تتشقق، والدماء قد تسيل، لكن النظام العالمي يظل… نحن نحافظ على العالم… بطريقة ما…
الشاب الثائر (بغضب): النظام؟ أنتم تقتلونه فينا كل يوم… تزرعون الخوف، وتستعبدون القلوب… لكننا لن نسكت بعد اليوم،
الإعلامي (يحاول التدخل، صوته متقطع): كل شيء يسجل، كل شيء يبث… العالم يشاهد، والدموع تباع… لكن… ربما… الحقيقة بدأت تنفلت…
الأم (تصرخ نحو الجميع، الدموع تغطي وجهها):
دموعنا ليست للبيع دموعنا ليست أرقامًا في تقرير! دموعنا صرخة… صرخة أجيال… صرخة الأرض نفسها،
الراوي (يقترب من مقدمة المسرح، صوته يعلو كعاصفة):
الآن فقط تدرك الشخصيات أن الخداع لا يمكن أن يستمر… أن الخرائط ليست وحدها من تحدد المصير… الإنسان، حتى وهو محطم، يظل قوة لا يستهان بها… حتى دمعة واحدة حقيقية، قادرة على قلب الموازين.
(المطر يزداد قوة، الضوء يصبح أحمر متقطعًا، الأصوات تتداخل: انفجارات، صراخ، بكاء. الوزير الأمريكي يحاول الإمساك بالقلم الأحمر ليكمل رسم الحدود، لكنه يفشل. السياسي العربي ينحني إلى الأرض، الشاب الثائر يرفع الراية، الأم تحمل قطعة القماش كرمز للحياة والمقاومة)
الوزير الأمريكي (مرتبك يحدق في الخريطة):
لماذا… لا يستطيع القلم أن يرسم؟ حتى الدم يعصي… حتى الخرائط… لقد فقدت السيطرة.
الشاب الثائر (يصرخ، صوته مليء بالقوة):
لأن الأرض مشبعة بالدم… لأنها تعرف… تعرف أن لا أحد له الحق في رسم مستقبلنا… نحن من نصنع التاريخ، لا الخرائط.
الأم (تفتح يديها نحو المطر):
السماء تبكي… أخيرًا… دموعها صادقة، لا كدموعكم المزيفة… لن نرضى بديكتاتور الخرائط بعد اليوم…
الراوي (يعلو صوته): ها هي التماسيح تسقط أقنعتها… ها هو الخداع ينهار… الأرض تبكي، السماء تبكي، والإنسان… أخيرًا… يرفع صوته.
الإعلامي (يسقط الكاميرا على الأرض): لقد انتهت اللعبة… لم أعد قادرًا على تسجيل الأكاذيب… لم يعد للبث أي معنى… الحقيقة هنا، حية، صامدة، لا تقتل.
السياسي العربي (يخفض رأسه): لقد رأيت… لقد فهمت… أننا كنا جزءًا من لوحة الدم… لكن ربما يمكننا أن نبدأ من جديد… حتى لو كان البدء صغيرًا… خطوة واحدة…
الراوي (نبرة شعرية قوية):
الأرض تتنفس، السماء تراقب، والإنسان يرفض أن يكون رقمًا على خريطة… دمعة واحدة، صرخة واحدة، كافية لتغيير كل شيء…
(الضوء يتحول إلى أبيض نقي، الأم والشاب واقفان معًا، يحملان قطعة القماش والراية، الخريطة على الجدار تتحلل تدريجيًا، خطوطها تذوب في الضوء. المطر يستمر، صوت الطفل يتردد من بعيد)
صوت الطفل: هل سنحيا غدًا؟
الأم (تبتسم، دموعها تلمع): سنحيا… لأننا رفضنا أن نموت بلا صوت، بلا أمل… لأننا الآن نرسم المستقبل بأيدينا.
الراوي (كخاتمة شعرية): أيها البشر… لا تنتظروا من القتلة أن يعيدوا الحلم… ولا من التماسيح أن تندم… الأرض وإن بكت، دموعها ليست تماسيح… بل نداء صامت لأبنائها… كي يعيشوا، كي يبتسموا، كي يقاوموا، كي يصنعوا الحرية…
(الموسيقى ترتفع، مزيج المطر والأنين، الضوء يخفت تدريجيًا حتى العتمة الكاملة، يبقى أثر الخريطة على الجدار يتلاشى في الضوء. الستار يسدل ببطء)
اللوحـة السادسـة:
(الخشبة مظلمة جزئيًا، صوت المطر يتساقط، أصوات الريح تتخللها صرخات بعيدة. الضوء الأبيض النقي يتسلل من أعلى المسرح، يسلط على الأم والشاب الثائر واقفين معًا، يحملان قطعة القماش والراية. الخريطة على الجدار تتلاشى تدريجيًا، خطوطها الحمراء تتدفق في الضوء كدماء تتطاير وتختفي. الوزير الأمريكي يجلس في الظل، الإعلامي متوقف، السياسي العربي واقفًا متأملًا)
الراوي (صوت كالموسيقى، شاعرية، من عمق الضمير الإنساني):
ها نحن نصل إلى اللحظة الأخيرة… حيث تختفي الأقنعة، وتنقشع الظلال، ويظهر الإنسان… كما هو… ضعيفًا… قويًا… محطمًا… صامدًا…
الأم (تنظر إلى الشاب، صوتها يرتجف بالدموع): لقد بكى العالم بما فيه الكفاية… لكن دموعنا، دموع القلب، ستظل تنبت الأمل… ستظل تنبت الأجيال…
الشاب الثائر (يرفع الراية عالية، صوته مليء بالعزم): لن نترك الخرائط تحدد حياتنا بعد اليوم… لن نسمح للدموع المزيفة أن تحل مكان دموعنا الحقيقية… لن نموت صامتين بعد الآن.
السياسي العربي (يخفض رأسه، ثم يرفع عينيه ببطء):
ربما فاتنا الكثير… ربما شاركنا في لعبة لم نفهم قواعدها… لكن ما زال بوسعنا أن نعيد كتابة التاريخ… حتى بخطوة واحدة، حتى بكلمة واحدة، حتى بدمعة صادقة…
الوزير الأمريكي (ينظر حوله، صوته منخفض، كما لو اكتشف شيئًا جديدًا): كل شيء… كل شيء ينهار أمام الإرادة الحقيقية… حتى الخرائط، حتى السيطرة، حتى الأكاذيب…
الإعلامي (يسقط الميكروفون): لقد تعبت الكاميرات… لقد انهارت الصورة… الحقيقة بدأت تتسرب…
الراوي(يقترب من مقدمة المسرح، صوته عميق، كأن الأرض نفسها تتحدث):
الآن… لا مزيد من التمثيل… لا مزيد من الدموع المباعة… الأرض ترفع صوتها… السماء تستمع… والإنسان… أخيرًا… يعرف قيمته…
(المطر يشتد، الضوء يصبح أزرق متدرج، الشاب الثائر والأم يجلسان وسط المسرح، يحملان الراية وقطعة القماش. أصوات انفجارات بعيدة تهدأ تدريجيًا، ليحل صوت الريح والمطر. صوت الطفل يردد السؤال مرة أخرى من بعيد.)
صوت الطفل: هل سنحيا غدًا يا أمي؟
الأم(تبتسم، دموعها تتلألأ): نعم… سنحيا… لأننا رفضنا أن نكون أرقامًا على الخرائط، لأننا رفعنا صرخة الحرية، لأننا نعلم الآن أن الحياة تبدأ من المقاومة…
الشاب الثائر (يضع يده على كتف الأم، صوته حاد وواضح):
الحياة تبدأ حين ندرك أن الأرض ليست ملكًا لأحد، وأن السماء ليست لأقوى الجيوش… نحن من نكتبها، نحن من نحلم بها، نحن من نزرعها بالدموع الحقيقية…
الراوي (نبرة شعرية):
أيها البشر… لا تنتظروا من القتلة أن يعيدوا الحلم… ولا من التماسيح أن تندم… الأرض، وإن بكت، فهي دموع حقيقية… نداء صامت لأبنائها… كي يعيشوا… كي يبتسموا… كي يقاوموا… كي يصنعوا الحرية…
(المطر يخف تدريجيًا، الضوء يتحول إلى شعاع أبيض خافت على الأم والشاب، الخريطة على الجدار تتلاشى تمامًا، يبقى أثر الراية وقطعة القماش كرمز للأمل والصمود. أصوات الريح تتلاشى، ويحل الصمت العميق. الستار يسدل ببطء، بينما الموسيقى ترتفع تدريجيًا لتختتم المسرحية بإيقاع شعري مؤثر)
إضافة تفاعل |