نشاطات ثقافية

حوارات

أصدارات ثقافية

المرايا المتعاكسة في روايات أمير تاج السر- د.صالح الرزوق



يرسم أمير تاج السر في رواياته شخصيات بسيطة، في متناول اليد، أو أنها مقتبسة من المدونات التاريخية، سواء الصحيح والموثوق منها أو المدسوس.

ولكن بقليل من البصيرة النافذة تستطيع أن تلاحظ كيف أنها تنطوي على عقدة بالذنب، وهو ذنب بطيء، ويتحول تدريجيا لنوع من الإثم التجريمي.

وأجد أن مثال المخبر السري عبدالله فرفر (في صائد اليرقات) وسعد مبروك (في توترات القبطي) أوضح هذه النماذج.



فالعقدة في الروايتين تشبه الخيانة الذاتية. وتعبر عن أصل الشك الضروري، بالمعنى الذي أفلح كولن ويسلون في تفسيره.

هل نحن نمتلك حرية خذلان الذات، أم أن هذه جريمة يحاسب عليها الحق العام؟.

وإذا كانت الإجابة في (صائد اليرقات): أن الإنسان حر ما دام يمتلك زمام نفسه، فإن (توترات القبطي) تغلق الدائرة، وتدين شخصية بطل الرواية منذ أول صفحة. فهو لم يبادر للاعتراض على القرار بتحويله، وبالتالي إنه يتحمل كامل المسؤولية، وكامل الأهلية، ليكون مجرما.

ولكن في كلتا الحالتين كان هناك صراع درامي وتراجيدي بين طرفي اللعبة الأزلية المعروفة، وهما: الطبع والتطبع.

وأكاد أرى أن أمير تاج السر في جميع الحالات لم يجد مفرا من الانحياز للطرف الأول.

الطبع.

فعبدالله فرفر، مع أنه يحاول التهرب من أقداره، ويسعى جاهدا للانقلاب على رذائل مهنته، وهي اختلاق وتلفيق الأكاذيب والتهم لضحياه، وهم، أولا وأخيرا، ضحايا الماكينة التي يعمل لصالحها. إنها ماكينة محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وماكينة الرقابة والتفتيش على الضمائر في العصر الحديث، لا يرى منفذا للنجاة.

و هو قبل الخاتمة بعدة سطور يقر ويعترف: أن العودة للخدمة وتدبيج التقارير دواء سحري له (ص 146).

و كذلك هو شأن سعد مبروك.

إنه بتحويله من القبطي ميخائيل للمسلم سعد، لم يجد الخلاص، وعاش لردح من الزمن بلسانين.

الأول ناطق وبه يعبر عن واقعه المتحول وعن إرادة الموضوع أو الطرف الجائر.

و الثاني صامت وبه عبر عن حنينه للماضي ولطقوس المعمودية التي رأى في ظلها النور. وبالتالي لما نقول عنه إنه إرادة نوعية أو ذات.

وعن ذلك يقول ميخائيل، الذي استيقظ من سباته، في الفقرة قبل الأخيرة من الخاتمة: إن قلبه خفق بشدة لدى رؤية بيته القديم، الذي ولد وعاش فيه، مع أنه مجرد أطلال دارسة (ص 274).

وكما أرى إن بطل (صائد اليرقات) هو إعادة إنتاج فنية (أو تفكيك وبناء) لبطل (توترات القبطي).

فالتحول الديني في الحالة الثانية يحمل كل الموبقات السياسية التي لازمت أزمة التحويل عن الكنيسة الكاثوليكية، وما لحق ذلك من صراع بين الناسوت واللاهوت.

وإن مثال (ليون الإفريقي) رائعة أمين معلوف ليست بعيدة عن هذه الحالة.

فالتحول من مسلم إلى مسيحي لم يكن خيارا ميتافيزيائيا. إنه حادث لم ينجم عن تقرير مصير بملء الحرية ولدوافع جوهر إيماني أو ضمير مستيقظ. ولكن حصل ذلك في ظروف قهرية، وهي ظروف الأسر.

وهل يوجد فرق بين هزيمة الجيش على أرض المعركة، ووقوع شخص ضائع بين براثن تجار الرقيق؟.

وقل نفس الشيء عن عبدالله فرفر.

لقد رغب بالتحول من كتابة التقارير لمصلحة الأمن العام إلى كتابة الروايات، والتي يرضي بها نوازع خياله، ويرمم بها النقص المفجع في شخصيته، باعتبار أنه يحمل عكازة، الإشارة التي لا تخطئها العين لعاهة مستديمة، تلاحقه مثل مشاعره النفسية الجريحة.

و قد كانت رتبته المتدنية وظروف حياته المشينة وراء هذا القرار.

لقد حصل ذلك استجابة لنداء الغريزة أو الضرورة. وبالتالي ليس مجرد حلقة من حلقات النضوج النفسي أو تطور الملكات.

و إنه في هذا الفراغ الناجم عن تأجيل التنفيذ، مرت الشخصية في مرحلة عطالة أداء. وربما هذا من حسن حظ الرواية.

فالعطالة نوع من التأجيل الدرامي، وعلى مبدأ (أن تأتي ولا تأتي)، المبدأ الملحمي للإنسان الضحية، الساكن والصامت، العاجز عن التعالي فوق شروط أقداره، وكما صاغها بيكيت في أشهر أعماله (بانتظار غودو).

إن أبطال أمير تاج السر عبارة عن مستنسخات درامية من أبطال بيكيت. وإن لم يكن هناك تلامس في التفاصيل، فالتوازي موجود حتما في بذرة الفكرة نفسها. الانتظار المؤجل والذي أضاف له أمير تاج السر البداهة البشرية لإنسان العالم الثالث. وذلك بتعجيل مصائره، وعلى نحو متهور، انتحاري، مأزوم، يطابق ما بين فعل البداية ومغزى النهاية.

لقد كان هؤلاء الأبطال يدورون في الحلقة المفرغة، وهم في بحثهم الدؤوب عن معنى وجودهم الشخصي للذات الأساسية، لا يضعون بنانهم إلا على نقطة التنوير، وهي دائما علامة مضيئة في أول النفق وليس في آخره. ولذلك إن رحلتهم مجرد تعجيل للماضي، أو إغلاق لدائرة الفاجع بمأساته المدماة.

وهذا بالضبط ما حصل لكليهما.

المخبر السري يرمي أوراق مسودة روايته في ألسنة النار، ويرى أنها مجرد بيض فاسد (ص 144)، ويعود لأوجاع وأوشاب الوظيفة.. كتابة التقارير.

و المتحول دينيا، يعود القهقرى لمدينة معموديته. وهناك يقرر أن يكون هو الإله المعبود. بصورة شهيد مسيحي، يتمزق بأسنان الحراس الأشداء (ص 286)، ليقدم جسده خبزا لرعاياه.

وعلى ما أرى إن ثمن رحلة العودة كان بالعملة الصعبة.

لم يدفع الإثنان ثمن بطاقة العودة من عمرهما. فالمشكلة الزمنية ليست محسوسة في الروايتين. كأن الشخصيات لا تشيخ. كانت المشكلة نفسية وتتطور من وراء خطوط العزل بين الماضي والحاضر، ومن خلف المعنى العام للمخيلة، وعلى حساب المعنى الخاص للجوهر. فللخيال معنى. وله ناسخ ومنسوخ.. إنه صنيعة ظروف الصراع الشخصي بين الإنسان وشيطانه.

ولكن للجوهر حكمة لا يمكن استبدالها.

وهنا يمكن المقارنة مع المثال النموذجي لهاملت.

لقد مرت هذه الشخصية النبيلة بنوع من فك الارتباط الإجباري مع الميثاق، وهو ميثاق بطريركي يميل لطرف الأب باعتبار أنه عين الحكمة.

وهل هناك حكمة أعلى من التماهي مع الذات بواسطة التشابه والاستمرارية أو منطق العود الأبدي.

وقد ترك ذلك ندبة لن تندمل، وثمنها الشعور بذنب أنت لم تقترفه. وهو ذنب قابل للتحويل ولا يمكن ردعه.

وأعتقد أنه كانت لهاملت بصيرة نافذة حين نظر بالمرآة الرمزية للظروف وشخصنها. ووضع الحلف المقدس لأمه وعمه (البديل عن الأب) في قفص الإتهام.

إنه بتعميم الشرط الوجودي لميراث والده الميت، وهو شرط قران الأم والعم، نستطيع أن نرى منطق الضرورة، والحفاظ على مهابة العرش وسياسة أو استراتيجية ملء الفراغ. وبعبارة وجيزة: نستطيع أن نرى شخصية مطلق الظرف الوجودي. وهذا هو أيضا المنطق الذي على استقامته قام دستويفسكي بتفصيل شخصية راسكولينكوف.

العاشق المتيم والنخبوي المثقف يتحول لسفاح. ولنتذكر هنا أن هاملت ارتكب جريمة بالغلط.

وقتل متنصتا يقف خلف الستارة.

لقد استهدف هاملت برأس سيفه الأداة الظرفية. وكذلك فعل راسكولينكوف. لقد استهدف بالبلطة المشحوذة فكرة الاستغلال الربوي ومنطق الفرق بين الإنتاج ورأس المال. وكان يحدوه شعور أنه يعيد بذلك الحق لنصابه. ولكن غالبا ما لا تنطلي المبررات على الضمير المريض والانجراحي.

وهنا نشأت الهلاوس وأحلام الهيلة (في الجريمة والعقاب) والمونولوج الدرامي (في هاملت).

ففكرة الضمير فكرة رومنسية، بينما القصاص العادل فكرة مادية تخضع لقانون الأب، ولها بواعث يؤثر بها فضل القيمة، أو قواعد ونحو اللغة.

وحتى لا نبتعد كثيرا عن موضوعنا إن العذاب الذي عانى منه بطلا (صائد اليرقات) و(توترات القبطي) هو نفسه الذي رسمته أحداث وتكنيك الرواية.